بعد407 سنوات على رحيله: لماذا يبقى وليم شكسبير الكاتب الأكثر شعبية في العالم؟

(ثقافات)

بعد407 سنوات على رحيله: لماذا يبقى وليم شكسبير الكاتب الأكثر شعبية في العالم؟

مولود بن زادي*

تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الـ407 لرحيل الكاتب المسرحي والشاعر والممثل الإنكليزي وليم شكسبير، الذي يعدُّ أب الأدب الإنكليزي الحديث وأعظم كاتب مسرحي في تاريخ البشرية.
لا أحد يعرف تاريخ وفاة وليم شكسبير بالضبط، لكن يُعتقد أنه رحل في عيد ميلاده الثاني والخمسين، يوم 23 أبريل 1616، في بلدة ستراتفورد أبون آفون في غرب ميدلاندز في إنكلترا التي كانت معروفة بأسواقها في القرون الوسطى. واليوم، بعد مرور أكثر من أربعة قرون على وفاته، ما فتئ وليم شكسبير يتمتع بشعبية عظيمة في المملكة المتحدة وخارجها. فلمَ يا ترى احتفظ شكسبير بشعبيته في وقت فقد شعراء وكتاب مسرحيون آخرون – كبار في عصرهم – شهرَتَهم بعد وفاتهم؟ لمَ يستمر عالمنا في قراءة شكسبير؟ وما سرّ استمرار عرض مسرحياته في بريطانيا وفي أرجاء الدنيا إلى يومنا هذا؟

ساهم في تطوير اللغة الإنكليزية

أحد أسباب شهرة شكسبير دوره الحيوي في صياغة اللغة الإنكليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. اخترع مئات الكلمات والعبارات التي يستخدمها الناطقون باللغة الإنكليزية إلى يومنا هذا. فقد اكتشف الباحثون استخدامات مبكرة لأكثر من 1700 كلمة باللغة الإنكليزية في مسرحياته وقصائده. يُعتقد أنه اخترع أو أدخل العديد من هذه الكلمات، غالبا عن طريق التركيب باشتقاق كلمات جديدة من كلمتين أو أكثر، وتحويل الأسماء إلى أفعال، والأفعال إلى صفات، وإضافة بادئات أو لواحق للكلمات الجديدة، وما إلى ذلك. كان شكسبير ضليعا باللغة اللاتينية ومطلعا على الدراما اللاتينية. فكان كلما سعى للتعبير عن فكرة وعجز عن إيجاد الكلمات في اللغة الإنكليزية، اقترضها من اللاتينية واستبدل نهاياتها اللاتينية بنهايات إنكليزية، واجتهد لتجنيسها بالإنكليزية. من بين الكلمات والعبارات التي ساهم شكسبير في اختراعها أو اقتراضها، والتي لا تزال شائعة الاستخدام في اللغة الإنكليزية: Dawn بمعنى «فجر» وHurry بمعنى «أسرع أو عجّل» وRoad بمعنى «طريق» suspicious بمعنى «مثير للشك» وManager بمعنى «مدير» وImpartial بمعنى «نزيه» وassassination بمعنى «اغتيال». وتشمل العبارات الاصطلاحية: Fair play بمعنى «اللعب النزيه أو الروح الرياضية» وWhat’s done is done بمعنى «ما حدث قد حدث».


أحسن استخدام قدراته اللغوية
ليست اللغة مجرد أداة للاتصال والتواصل بين أفراد المجتمع. اللغة نافذة تطل على ثقافات وحضارات وعوالم متنوعة. عندما تتعلم لغة، فأنت لا تتعلم فقط التحدث والكتابة بلغة جديدة. تتعلم أيضا الانفتاح والتحرر والتسامح ومراعاة مشاعر بشرٍ من حولك، اختلف لسانهم عن لسانك، وثقافتهم عن ثقافتك، ومعتقداتهم عن معتقداتك، واشتركوا معك جميعا في الانتماء إلى جنس بشري واحد يحيا معا على سطح هذا الكوكب. كان شكسبير متمكنا من لغات في مقدمتها الفرنسية واللاتينية ـ لغة الإمبراطورية الرومانية، مما سمح له بالاحتكاك بشعوب أخرى والتواصل مع أفرادها ومتابعة إبداع كُتابها والاطلاع على ثقافاتها. وقد كان لهذا الاحتكاك بالغ الأثر في أعماله. يتجلّى أثر ذلك في مسرحياته التي تطغى على بعضها ألفاظ وعبارات مستمدة من لهجات ولغات محلية وإقليمية مختلفة. لقد أدرك شكسبير أهمية اللغة وأحسن استخدمها، حيث نجح ببراعة في جذب أنظار جماهير واسعة والتأثير فيها، ليس في عهده فحسب، بل أيضا في الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا. تتجلى براعته اللغوية في حسن اختيار الألفاظ والعبارات، وبراعة توظيف الصور البيانية والرموز.
وبينما يركز بعض الكتاب على صنف من الأصناف، خاض شكسبير في أنواع متعددة من الفن المسرحي. فبين عامي 1591 و1611 كتب شكسبير حوالي سبعة وثلاثين مسرحية متعددة الأنواع شملت المأساة والكوميديا ​​والتاريخ. كما عكف على كتابة قصيدتين سرديتين طويلتين: قصيدة «فينوس وأدونيس» في عام 1593 وقصيدة «اغتصاب لوكريس» في عام 1594، فضلا عن 154 سونيتا. وهكذا بفضل براعته اللغوية الفائقة وتنوع أعماله، استطاع شكسبير أن يلفت اهتمام جماهير واسعة من فئات عمرية وأذواق مختلفة، في بريطانيا وكل أرجاء العالم، وهو ما يفسر إلى حد بعيد نجاحه العالمي الباهر.

كانت له ثقافة عالمية واسعة

التحق شكسبير بمدرسة الملك إدوارد السادس النحوية في ستراتفورد أبون أفون من سن 7 حتى سن 14 عاما. في هذه المدرسة يكون شكسبير قد أتقن اللغة اللاتينية التي كانت آنذاك اللغة الأساسية للتعلم في المدارس النحوية في إنكلترا. إلى جانب اللاتينية، كان شكسبير متمكنا من اللغة الفرنسية. يتضح ذلك من خلال مسرحياته لاسيما «هنري الخامس». لا تحتوي هذه المسرحية على كلمات وعبارات فرنسية حسب، بل أيضا مشاهد كاملة باللغة الفرنسية. سمحت له هذه اللغات بالولوج إلى الأدب العالمي خارج حدود بلده الأصلي، بريطانيا. وهكذا، استوحى قدرا كبيرا من الإلهام من الأدباء والفلاسفة الرومان على منوال الكاتب المسرحي الروماني بلاوتوس، صاحب أقدم أعمال كوميدية في العالم، والفيلسوف الروماني شيشرون، والفيلسوف والكاتب المسرحي الروماني لوكيوس سينيكا والشاعر الروماني جوفينال. واطلع أيضا على أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء أمثال أفلاطون وأرسطو، إضافة إلى التأثير الروماني، كان الأثر الفرنسي بالغا في أعماله، فغالبية مفرداته مستمدة من اللغة الفرنسية، يضاف إلى ذلك تأثره بأدباء فرنسيين، نذكر منهم على وجه الخصوص كاتب عصر النهضة الفرنسي ميشيل دي مونتين، رائد المقالة الحديثة في أوروبا. لم يستفد شكسبير في مشواره الأدبي من مهارته اللغوية واطلاعه على الأدب العالمي حسب، بل أيضا من ثقافته العامة. إذ كانت له معرفة واسعة بالقانون والجغرافيا والتاريخ والدين والطب. وكان له أيضا اهتمام بالموسيقى، وهو ما انعكس في أعماله، حيث تشغل الأغاني موقعا مهما في مسرحياته.
واستفاد شكسبير في كتابته أيضا من التنوع الثقافي البريطاني في أواخر القرن السادس عشر الذي يضرب بجذوره إلى العهد الأنكلوساكسوني. كانت لندن في عهد شكسبير تستوعب أعدادا من المهاجرين الوافدين من جميع أنحاء الجزر البريطانية وخارجها. العيش في بيئة متعددة الأعراق والثقافات منح شكسبير فهماً أكبر لمعتقدات الآخرين وتقاليدهم وعاداتهم وسلوكياتهم. فكان لهذا الاحتكاك أثر في مسرحياته التي تلعب بعض أدوارها شخصيات أجنبية متعددة الأصول والألوان، ففي مسرحية «هنري الخامس» تلعب كاثرين الفرنسية دور أميرة فرنسا الحسناء. وكليوباترا ملكة مصر ذات البشرة الداكنة تلعب دورا في مسرحية «أنطوني كليوباترا». وتتناول مسرحية «عطيل» قصة قائد أسود اسمه عطيل يحيا في مجتمع أبيض.

توخَّى ثيمات عالمية

من أسباب تألّق شكسبير العالمي اختياره ثيمات عالمية صالحة لكل العصور. في الدراسات الأدبية المعاصرة، ينظر إلى الثيمة على أنها الموضوع المركزي أو الرسالة الأساسية التي يسعى الكاتب لإيصالها إلى القارئ. وتلعب الثيمات دورا حاسما في تقرير ما إذا كانت الأعمال الأدبية قابلة للتأثير في المجتمع، والصمود أمام اختبار الزمن والارتقاء إلى منصة الخلود. وهكذا في الوقت الذي يختار بعض الكتاب ثيمات محلية أو إقليمية ضمن حدود محيطهم الجغرافي والثقافي، نجد أنّ شكسبير قد توخّى ثيمات قوية عابرة للحدود والزمن لا تزال إلى يومنا هذا تشغل اهتمام القارئ وتؤثّر فيه. وهكذا بعد مرور أكثر من أربعة قرون على رحيله، ها هي أعماله اليوم تحظى بشعبية أكبر من أي وقت مضى في جميع أنحاء الدنيا. وكيف لا وثيمات شكسبير تظل مرتبطة بعصرنا، مؤثرة في مشاعرنا وعواطفنا. من الثيمات التي نكتشفها ونحن نبحث في أعمال شكسبير: الحياة، والموت، والجنس، والحب، والكراهية، والانتقام، والخيانة، والخداع، والمعاناة، والنظام، والفوضى، والفساد والعنصرية. بفضل هذه الثيمات العالمية القوية تبقى أعمال شكسبير مثيرة لاهتمام الجماهير، كما لو كانت صادرة في عصرنا وكان شكسبير يحيا بيننا.

تجاوز محيطه الاجتماعي الثقافي

تمرّ اليوم أربعمئة وسبع سنوات على رحيل شكسبير، ورغم تغيّر الأزمنة وتطور اللغة الإنكليزية، فإنّ إعجاب الجماهير بأعماله لم يتغير أبدا. ويبقى شكسبير حيا في قلوب الجماهير في إنكلترا وخارجها. يتذكره البريطانيون والعالم لإسهاماته اللغوية والأدبية العالمية. فهو من ساهم في تطوير اللغة الإنكليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى إنّ معجم أوكسفورد الإنكليزي ينسب إليه ما يناهز 3000 كلمة في اللغة الإنكليزية اخترعها أو أدخلها من لغات أخرى. ويذكره البريطانيون والعالم لما خلّفه من أعمال أدبية خالدة على منوال مسرحيات «هاملت» و»روميو وجوليت» و»عطيل» وهي أعمال تراجيدية عرفت انتشارا واسعا في عالمنا بما في ذلك على خشبات مسارح وطننا العربي. لم يكتب شكسبير لشريحة ما في المجتمع ولا لأمة ولا لإقليم وإنما خاطب الجماهير الواسعة في أنحاء المعمورة، وفعل ذلك بأسلوب ممتع أنيق. ومما يساهم في تخليد هذا الاسم أيضا حرص البريطانيين على تذكير الأجيال بهذا الاسم بتدريس شكسبير في المدارس وهو من المواد الأساسية في المنهاج الدراسي البريطاني، مع تنظيم احتفالات واسعة كل سنة إحياء لذكرى وفاته.
وعلى ضوء كل هذه الإسهامات الأدبية واللغوية، يُعدّ شكسبير بجدارة واستحقاق أب الأدب الإنكليزي الحديث وصانع لغته. وفضلا عن مهارته اللغوية، تكمن عبقرية شكسبير في قدرته على النظر والتفكير والكتابة خارج حدود بيئته متجاوزا حواجز العرقية والهوية والثقافة الواحدة، وهو السرّ الكامن وراء تألقه العالمي وخلود أعماله.

كاتب جزائري مقيم في بريطانيا

عن القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *