الحداثة والقيمة في القصة القصيرة الأردنية: جمال أبو حمدان نموذجاً

الحداثة والقيمة في القصة القصيرة الأردنية: جمال أبو حمدان نموذجاً

د. هدى أبو غنيمة

 

هدى أبو غنيمةإذا كانت الكتابة الإبداعية مغامرة وتجربة لاقتحام عوالم الذات واستنطاق تمثلها المعرفي وتذوقها الجمالي للعالم حولها، فإن القصة القصيرة تعتمد على زاوية النظر وبراعة اللقطة وشفافية الشعر. لكنها سهلة ممتنعة. لها كيانها المستقل كعمل مركز مكثف دقيق، كما يرى معظم النقاد والباحثين، ولا مجال فيها للحشو أو الزيادة. ويرى أحمد الزعبي أنها “ليست مختصر رواية طويلة، وإنما هي فن مستقل قائم بذاته”(1).

أما زكريا إبراهيم فيرى أنها “نتاج الصنعة الفنية، والخبرة الجمالية وتجربة كشفية يقوم بها الفنان، حين يحاول أن ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة”(2)، فما يراه الفنان من منظر طبيعي، هو شيء مختلف عن المنظر نفسه. وما يدركه من روابط بين الأشياء، وقدرته على ابتكار علاقات جديدة هو الذي يجعل عمله يظهر أمامنا بصورة خصبة.

تنطوي الكتابة الإبداعية في جانبها الضمني الخفي على جمهرة من الأشكال والأطياف والصور. هذا من جهة كون القصة القصيرة نصا أدبيا ينتمي إلى فن القص. “أما كونها منتجا إنسانيا يخضع لشكل محدد، فهي كائن اجتماعي وثقافي وحضاري فيه مكابدة، وموقف ونظر وبشر وعلاقات وفضاء فيه نسغ التاريخ، بدءا أو انتهاء بالراهن الاجتماعي أو السياسي أو الذاكرة الاجتماعية أو الفردية”، كما يشرح نبيل سليمان (3).

رغم تراكم التعريفات، فإن الإبداع يتجاوز التنظير، ما دامت التجارب الإبداعية تتطلع دوما إلى آفاق جديدة، وتشيع مثلا وقيما جديدة.

الحداثة والقصة القصيرة في الأردن

إن “القصة القصيرة الحديثة”، كما يرى علي محمد المومني، تعتبر “أفقا مفتوحا على كل التأويلات”، ومن أدوراها “إثارة إشكاليات المحتوى والدلالة في كل زمان ومكان، ولها حضورها في الخطاب المجازي والدلالي، والقدرة على توصيل الرؤى والأفكار بأساليب مؤثرة على المستويين الإنساني والثقافي” (4).

وقد شهد عقد السبعينيات تجارب جديدة عبرت عن تحول في الرؤى بأساليب ولغة جديدة وهي تختلف في أطرها المعرفية وتأثرها بالتيارات الحديثة في العالم. وعبر الكتاب عن اغترابهم الوجداني في مواجهة التحولات السريعة السياسية والاجتماعية والحضارية، وظهر ت في قصصهم النزعة العجائبية والغريبة واللامألوفة.

على سبيل المثال يظهر ذلك في أعمال كل من أحمد النعيمي في مجموعة “يد في الفراغ “؛ ومحمود الريماوي في مجموعته “الجرح الشمالي”؛ ومؤنس الرزاز في “مجموعته النمرود “؛ وهاشم غرايبة في “عدوى الكلام”؛ ومريم جبر في “طمي “؛ وسحر ملص في “مسكن الصلصال”؛ وفي أعمال فخري قعوار. وظهرت هذه النزعة أيضا عند سامية العطعوط في مجموعتها “طقوس أنثى”، ومجموعتها” طربوش موزارت” فيما بعد.

اعتبر جمال أبو حمدان رائد هذه النزعة، فقد ظهرت هذه النزعة العجائبية في مجموعة “أحزان كثيرة وثلاثة غزلان”؛ “ومملكة النمل” فيما بعد؛ “وأمس الغد”.

وحسب المومني، “يهب حضور النزعة العجائبية في النصوص السردية المتلقي، قدرة فعالة على نقض التاريخ والحاضر، وهي محاولة لخلق واقع جديد على أنقاض واقع بائس”(5).

قد لا يكون مصطلح الحداثة التي أعنيها دقيقا، ولكني أعني به “إعادة النظر في المرجعيات، والقيم والمعايير وهي رؤيا جديدة تعبر عن المقلق والعجائبي والمثير، وترمي إلى الخلق والإبداع في المجال الثقافي، وتشمل جميع مجالات الحياة الإنسانية وتثور على السائد والمألوف، وتنزع إلى تفكيك ذاكرة الموروث وتسعى إلى استخدام المتخيل”(6).

لم يكن موقف الكتاب الأردنيين من الحداثة بمنأى عن تأثر الكتاب العرب والكتاب في الغرب بالتحولات الحضارية. في دراسة بعنوان “الفتيان الغرباء الروح”، يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري “أن موقف الأديب العربي من الحداثة كان مبهما. فهو موقف غريب عصري في مجتمعات عربية، تمر بمرحلة انتقالية، وهي مشروع حضاري، ومجتمعات تمر في طور التكوين. لا هي تقليدية ولاهي زراعية ولا صناعية. وقد تأثر الأدب العربي الحديث بالأدب الغربي الحديث، الذي يعبر عن رؤية رافضة تحتج على المجتمع الحديث، الذي يرتكز إلى العلم والتقنية المنفصلين عن القيمة.

ونجد أعمالا يعبر أصحابها عن الرغبة في العودة إلى عالم أكثر تماسكا، يؤمن أعضاؤه بمجموعة من القيم. عالم يشبه من بعض الوجوه المجتمع التقليدي، إذا ما نظرنا في كلاسيكيات الآداب الغربية الحديثة، أمثال: “الأرض الخراب” لإليوت؛ و”القلعة” لكافكا؛ و”في انتظار غودو” لصمويل بيكيت(7).

فهل كان للحداثة عند الكتاب الأردنيين ملامح خاصة، وهم يتمثلون تجارب الآخرين؟

لم ينقطع الكتاب الأردنيون عن التجريب والتجديد، وخلق ما يعينهم على طرح رؤاهم الجمالية الخاصة، والمشبعة بقيم جديدة. وإذا كانت مرحلة السبعينيات مرحلة انطلاق، فإن الثمانينيات والتسعينيات هما مرحلتا التوهج، بل “بدأ القص، يرود آفاقا جديدة واللا تقليد هو التقليد”(8).

جمال حمدانلما كان جمال أبو حمدان، من أبرز رواد الحداثة، فقد تميزت تجربته بالنزعة العجائبية، وتفكيك ذاكرة الموروث ساعيا إلى إعادة النظر في الماضي العربي في ضوء التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، فكان ينتزع شخصيات التراث أو الأسطورة من سياقها المعرفي، ويضعها في مناخ عصري، لكنه في معظم القصص لا يستغني عن رؤية الإنسان مركزا للكون، مخالفا فكرة الحداثة عن أن الإنسان لم يعد مركز الكون.

نماذج من مجموعة أمس الغد:

في قصة “الملح” يقول:

“قال لي الشخص، الذي منذ تبدى لي راح يقود خطوات عمري العاثرة، وغالبا ما يتراءى لي دون أن أراه:

“إن وقفت يا فتى على حافة البحر، وحدقت في قرارة الماء، وتموجت في بصيرتك الرؤى سترى المدن الخمس الغارقة.

أجبت بصوت خفيض متردد: لا أرغب في رؤية مدن غارقة خسفت بها الأرض، بل أرغب في رؤية ناسها فما عنيت بالحجر، بل بالبشر”(9).

في مجموعة “أمس الغد” تتبدى نزعته الشعرية الحاضرة في كل أعماله، ويتأمل معنى الموت والحياة ويبدو العنوان قابلا لتأويلات متعددة، يسقط فيه الكاتب الحاضر باعتباره مرحلة عابرة، فهو أمس الغد والماضي. لذلك نجد عالمه في كل قصص المجموعة، هو عالم الشخصيات المنسحبة من سياقها الاجتماعي الضاغط الباحثة عن خلاص وجودي في الفن أو التأمل أو الانطلاق بعيدا عن الوجود الأرضي المكبل للروح النبيلة.

في قصة “الباب”، التي استهلها بأبيات شعرية، عبر أبلغ تعبير عن قلقه الوجودي قائلا:

“ربما مر عليه ألف عام، ربما مرت هنيهة، هو لا يدري ولا يعنيه إيقاع الزمان، حين يرنو بانشداه في فراغ اللوحة المنتظرة، ليرى الفرشاة حبلى، ويرى الألوان توقا للحياة.

“هو لا يذكر من دنياه إلا ومضة الخلق، التي لاحت على أفق رؤاه، فمضى في أثرها، حتى أضاعته وتاه. فيما كانت هذه الكلمات الموقعة تلوب في خاطري، كنت أستحضر من عب التراث البشري، ومن طيات غلالته الأسطورية حكاية عن رسام قديم متفرد في فنه. رسم لوحة فريدة بديعة، مزج ألوانها بعصارة إبداعه، ومد خطوطها من توقه وشوقه. لكنه ترك في صدر اللوحة، وفي عمقها بابا مفتوحا.

“وحين أنهى تأمل عمله، وراق في عينيه وراقت له نفسه، فوضع الأقلام والفرشاة والألوان ومشى إلى اللوحة وعبر الباب في عمقها القصي، ولم يغلقه وراءه وغاب وراء اللوحة الفريدة، وأبقاها عهدة في صدر الزمان. فحكايتي عن صديقي أغرب من الخيال، لكن من قال بأن الخيال غريب؟ الواقع هو الغريب. فالواقع خيال مقموع ومحبط ويائس، عجز عن أن يبلغ مداه من التحقق، فضمر وانكمش على ذاته وصار واقعا”(10).

في كل قصص المجموعة كان الكاتب يحرر الشخصيات التاريخية، والأسطورية من أسر الهالة التاريخية معيدا تفكيك الذاكرة، ويستحضرها في المكان الذي شهد حضورها، ليعيد للمكان حضوره في الزمان مستنطقا تلك الشخصيات لتعيد رواية حكايتها بنفسها، معبرا عن رؤيته لعالم متماسك يكون فيه الزمان والمكان والإنسان على تواصل حميم.

في قصة “القلعة” يتساءل جمال أبو حمدان: “أكان يجب لتسمى تايكي حامية عمان، أن تعتلي رأسها الصغير الجميل قلعة عمان؟ بحجارتها الضخمة الصماء. لا أدري لماذا يرمز دائما للمدن، بحصونها وقلاعها وبحجرها، لا بشجرها وبشرها”.

ويروي عن لسان تايكي: “ولدت من رحم الأسطورة، وتجسدت في أشكال عديدة وإن كنت قد تحدرت من صلب الآلهة، فإن محبتي للبشر هي التي أبقتني. كنت وما زلت شغوفة بالأرض وأهلها. أحببت هذه الأرض، فبقيت فيها لا أجنحة ترجعني إلى سماء الأولمب، ولا خطو يأخذني بعيدا عنها … مجاورة لنهر سيكون ذات يوم بعد زمني الأسطوري، وبعد انكفاء آلهة الأساطير إلى الذاكرة ذا قدسية لأنبياء الله، فيعبره موسى بشوقه، لكن يقصر عن عبوره بجسده وتغمر مياهه عيسى ببدنه وروحه، ويعبره محمد على البراق في معجزة الإسراء. حتى أنا انتسبت إليه، فصرت أعرف بأنني آلهة أردنية”(11).

استوحى الكاتب معظم قصصه في “أمس الغد” من تذكارات، ومواقع أو مرويات تاريخية وتراثية من عمّان وبقية الأردن مكثفا حضور المكان وعراقة حضارته وحضور هويته الإنسانية الأبعاد في زمن مركزية حضارة كونية همشت الأطراف وشيأت الإنسان.

في “نصوص البتراء” يرى ما لا يراه الآخرون. في قصة “الفراشة” يحكي عن تلاميذ صغار، يتحلقون حول أستاذ التاريخ، الذي اصطحبهم في هذه الرحلة العلمية إلى البتراء، ليصغوا إلى أستاذهم وهو يتحدث بحماس عن تاريخ الأنباط والحروب التي خاضوها ضد مملكة يهودا إلى أن مرت فجأة وسط دائرتهم فراشة ترف بأجنحة ملونة. حومت أمام عيونهم، ثم طارت بعيدا خارج الدائرة فهتف أصغر التلاميذ: “ما أجملها!”

وقبل أن يعي الأستاذ ما حدث، كان أصغر التلاميذ قد ركض إلى حيث تقف الفراشة الملونة على الصخر، وهو يقول: “انظروا ألوان أجنحتها تشبه ألوان الصخر.

“فتساءل الأستاذ مفكرا كيف تأتي فراشة إلى مكان لا توجد به أزهار! وتمنى لو أن أستاذ العلوم برفقتهم ليسأله عن السر، وحين التقى نظره بنظر الصغير أحس أن في بريق عيني الصغير إجابة لسؤاله، لكن الصغير لا يريد أن يفصح عنها” (12).

عبر الكاتب في هذه القصة عن تطلعه إلى الخروج من الدائرة المغلقة على زمن آت يضيف قيما جديدة واكتشافات علمية يومئ لها البريق في عيني الصغير وهو رمز للأجيال القادمة.

في قصة “الرؤيا” يحكي عن سيدة عجوز فاقدة البصر، شغوفة بكل ما قرأته عن البتراء، قبل أن تفقد بصرها. تزور البتراء مع زوجها، بعد أن فقدت البصر وحينما أضاءت أشعة الشمس واجهة الخزنة ظلت متجهة بوجهها ناحية الشمس مغمورة بضيائها ودفئها فوق عينيها المطفأتين فيما زوجها يحدق في المشهد إلى أن سمعها تهتف:

“انظر إنهم هناك. كلهم هناك يندفعون من قلب الصخر. الملك الملكة الآلهة. فتيان وصبايا يحتفلون. ما أروع المشهد! لم أر في حياتي أجمل من هذا الاحتفال. كأنا نحن أيضا بينهم، ومعهم”(13).

لقد تميز جمال أبو حمدان بخلق ما يعينه على طرحه الجمالي الخاص، والمشبع بتربته وأصالته معرضا عن التماهي بالآخرين رابطا بين الزمان والمكان والإنسان برباط وثيق.

= = =

المراجع
1= الزعبي، أحمد. التيارات المعاصرة في القصة القصيرة.
2= إبراهيم، زكريا. الإنسان والفنان. ص 141.
3= سليمان، نبيل. فتنة السرد. ص 266-267.
4= المومني، علي محمد. الحداثة والتجريب في القصة القصيرة الأردنية. ص 174.
5= المرجع السابق.
6= خليل، إبراهيم. مقدمات لدراسة الحياة الأدبية في الأردن: دراسة ومختارات نقدية. ص 54.
7= المسيري، عبد الوهاب. في الأدب والفكر دراسات في الشعر والنثر. ص 218، 230.
8= حداد، نبيل حداد. القصة القصيرة في الأردن إضاءات وعلامات، ص 19.
9= أبو حمدان، جمال. مجموعة ” أمس الغد “حكايات الغريب الغريبة. ص 221.
10= المرجع نفسه ص 204، 206.
11= المرجع نفسه، ص 183.
12= أبو حمدان، جمال. “نصوص البتراء”. دار أزمة، عمّان، 1994 . ص 79.
13= المرجع نفسه. ص 79.
= = =
* عن مجلة عود الند

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *