فاطمة بن محمود *
( ثقافات )
بدأت القصة القصيرة جدا تكتسح الساحة الأدبية العربية و تشهدت الآن ذورتها في المغرب الأقصى فقد قدّم الدكتور جميل حمداوي انطولوجيا عن كُتّاب القصة القصيرة جدا ضمت أكثر من سبع وأربعين مجموعة قصصية ضمن القصة القصيرة جدا تحديدا فضلا عن وجودها ضمن اصدارات قصصية اخرى و هذا الرقم يعتبر كبيرا بل يذهب الدكتور جميل حمداوي أنه ” ثروة ابداعية هائلة بالمقارنة مع ما أنتج في الشام و العراق ” .. كما شهدت المغرب نقادا كبارا اهتموا بالتنظير في القصة القصيرة جدا من ذلك حميد لحمداني و جميل حمداوي و سعاد مسكين و معهم ظهرت مؤلفات هامة تبحث في خصوصية القصة القصيرة جدا … و تشتغل على المدوّنة المحترمة من الاصدارات الأدبية المغربية في هذا النمط الأدبي .
في المغرب كما في الوطن العربي اندفع الكثير من الكتّاب الى الكتابة في القصة القصيرة جدا فجاؤوها من القصة و من الشعر و ربما راقت لبعضهم فطفق يجرّب فيها و هو الذي ليست له أية خلفية في الكتابة فعرفت الساحة الأدبية طفرة في عناوين القصة القصيرة جدا أزعجت بعض المهتمين بها من النقاد و الكتّاب والمتابعين و اعتبروا ان كثرة المهرولين نحوها سينتهي بترهّل هذا النمط الأدبي و لكن بعض المطّلعين تنبؤوا أن كثرة الاصدارات لن يعيق تقدمه وسيفرز لاحقا عناصر قوته من خلال تميّز بعض الموهوبين من كتّاب القصة القصيرة جدا، و أنا أقرأ كتاب جمال الدين الخضيري ” حدّثني الأخرس بن صمام ” تأكد لديّ انني فعلا أمام أحد أولئك الموهوبين بكتاب قصصي استثنائي أعتقد انه يمثّل نقطة تحوّل في مسار تاريخ القصة القصيرة جدا ..
ما يميّز القاص جمال الدين الخضيري هو قدرته على التجديد داخل القصة القصيرة جدا فهو لم ينبتّ عن واقعه من جهة و اقتحم زحام المجتمع و تلمّس قضايا الناس و همومهم و لكنه اختار زاوية فنّية جديدة ليطرح أسئلته عن الانسان و الواقع فعاد الى التراث الأدبي العربي القديم و وظّف اشكال الكتابة مثل المقامة اضافة الى الطُرفة و الحكاية و الخبر لتقديم قضايا عصره كما وظّف شخصيتي ” الأخرس بن صمام” و”ميّت بن نعسان” ليكونا الخيط الناظم لكل القصص القصيرة جدا التي قدمها الكتاب.
1 / العنوان .. عتبة القصّ :
ان كان القاص جمال الدين الخضيري في مجموعته الأولى في كتابة القصة القصيرة جدا قد اختار لها عنوان “وثّابة كالبراغيث ” و لعله أراد من خلال هذا العنوان ان يدلي بدلوه و يعرّف القصة القصيرة جدا فعرّفها كثير من النقاد بالومضة القصصية أو اللوحة القصصية أو القصة البرقية أو الكبسولة الخ ..تماهي العديد من مبدعيها تجاه هذا التعريف او ذاك، و لكن خصوصية الخضيري كمبدع أنه لن يلوك اي من التعريفات التي يقترحها النقاد و انما يقدم تعريفه الخاص فيصف القصة القصيرة جدا بأنها تلك الوثبة السريعة جدا و التي لا نكاد نتبيّنها أصلا التي تقوم بها البراغيث لتمتصّ دماء ضحاياها و لعلنا نتساءل ما الذي يدفع القاص الخضيري الى تشبيه القصة القصيرة جدا لا بالبراغيث و لكن فقط بقفزتها الخاطفة التي تقوم بها و التي لا نكاد نتبين تلك القفزة لسرعتها .. بحيث يلفت الخضيري نظرنا الى جانب جميل في تلك الحشرة وهي سرعتها البارقة و مهارتها في التنقل و تكيّفها في الوسط البيئي الذي تنشأ فيه و لعل من مميزات المبدع انه يكتشف نواحي جميلة في كل شيئ حتى في ما اعتدناه قبيحا، و ما يهمنا ان الخضيري يعرّف القصة القصيرة جدا بأنها فعل سريع وامض ولاسع بين المواضيع.
اذن بعد أن ” عرّف ” القاص الخضيري القصة القصيرة جدا على طريقته الفنية الابداعية اختار لمجموعته القصصية الثانية عنوانا مغايرا هو ” حدثني الأخرس بن صمام ” و نلاحظ في صياغة هذا العنوان انه يهتم أكثر بمحتوى القصة ” حدّثني … ” كما انه يهتم به من حيث هو علاقة بين باثّ و متقبّل بما يجعل من الحديث يتنزّل في سياق تواصل انساني حول موضوع ما
اذن نلاحظ من خلال عتبة العنوان ان الخضيري يترقّى في تعامله مع القصة القصيرة جدا من مستوى الاهتمام بتعريفها الى مستوى الثاني هو الدخول فيها مباشرة و تحويلها الى علاقة انسانية تفاعلية.
تتحوّل القصة القصيرة جدا هنا الى حديث، الى فعل انساني حيّ يجمع بين متحاورين أحدهما السارد و الذي سينقل لنا ما حدثه به ” الأخرس بن صمام “..
ب / القصة القصيرة جدا في رداء المقامة :
يشير الناقد الكبير الدكتور جميل حمداوي في كتابه” من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا (المقاربة الميكروسردية ) أن ” الكثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بالخاصة التراثية ، حيث تتميّز كتاباته بالأسلبة التراثية تناصا و تهجينا و محاكاة و حوارا “. و من أهم ما نلاحظه من خلال الكتاب القصصي ” حدّثني الأخرس بن صمام ” للمبدع جمال الدين الخضيري هو استدعاءه لخطابات بعيدة عن جنس القصة القصيرة جدا التي يجعلها ملتقى أجناس أدبية متباعدة زمنيا و أدبيا فهو يجمع بين القصة القصيرة جدا و المقامة الأدبية أي انه يساهم في كسر الحواجز بين نمطين أدبيين مختلفين كليا مما يعني ان القصة القصيرة جدا لا تعترف بمسألة نقاء الأجناس الأدبية وبذلك يتحدى الخضيري الضوابط المعيارية التي تفصل بين هذين الجنسين.
اذن اختار القاص المغربي جمال الدين الخضيري المقامة بما هي واحدة من أهم الفنون الادبية التي ذاع صيتها في الأدب العربي قديما و جعلها رداء للقصة القصيرة جدا التي تعتبر من أحدث الأنماط الأدبية التي وفدت على الساحة الأدبية العربية، و لعلها تلك طريقته ليقول بتجاور الثقافات و تداخل أنماط الابداع المختلفة و أعتقد انه نجح كثيرا في ذلك على اعتبار ان القارئ يقرأ هذه القصص القصيرة جدا فيستمتع بفن المقامة .
تتكون المقامة من ثلاثة عناصر أساسية هي : الراوي ، البطل و موضوع القصة :
– الراوي / البطل :
يقول آلان روب جرييه ” لا تستقيم الشخصية في السرد الكلاسيكي الارباعطائها اسما و لقبا “
لذلك و مثلما اختار الهمذاني ” عيسى ابن هشام ” ليكون راويا لمقاماته و مثلما اختار الحريري ” الحارث ابن همام” راويا لمقاماته اختار القاص الخضيري راويا لقصصه القصيرة جدا هو ” الأخرس بن صمام ” ..و اذ يبدو انه لم يبتعد كثيرا في تسمية هذه الشخصية على مستوى الايقاع الصوتي عن عيسى ابن هشام او الحارث ابن همام و لكن اعتقد انه يبتعد عنهما كثيرا من حيث الدلالة .
اختار الخضيري أن يسمي بطله بالأخرس الصمام فقد شاع بين العديد من الكتّاب اختيار هذه الاسماء المتناقضة لطبيعة الشخصيات التي تحملها وهي طريقة لمراوغة القارئ و نصب كمائن له .
اذن يبدو ان الخضيري اختار لهذ الحكيم اسما مناقضا تماما لطبيعته و لعل المفارقة ان ” الأخرس” لغة هو من يعجز عن الكلام ولا يملك القدرة على التواصل مع المحيطين به وفق نسيج لغوي متعارف عليه لكن الخضيري ينطق في قصصه هذا ” الأخرس ” فيجعله مصدر القصص وبالتالي مصدر المعرفة بل صاحب حكمة و أهل ثقة في الاخبار، فنجده يتقن الكلام و ينطق بالحكمة ويحمل أوجاع الناس وهمومهم. الخضيري في هذا الكتاب يصنع من هذه المفارقة الفنيّة لحظة حقيقة فينطق الأخرس بالحكمة و يجري على لسانه كل القصص بل يحوّله الى ناطق رسمي باسم المضطهدين والمظلومين والفقراء، ولعلّه يتماهى و الاعتقاد السائد من أن ” مجنون القرية حكيمها ” فكل من خالف السائد و تعارض مع المألوف يمكن أن يحمل الحقيقة المتخفيّة عن الجميع.
اذا كان أبو الفتح الاصفهاني بطل مقامات الهمذاني و أبو يزيد السرّوجي بطل مقامات الحريري فان الخضيري يجعل لقصصه القصيرة جدا الأخرس بن صمام بطلا يروي قصصه و طرائفه و ملحه وهي شخصية خيالية ابتكرها الخضيري فجعل من ملامحها الفيزيائية انه ذو هيبة و وقار ولكنه أحول و من ملامحها الشخصية انه متلائم مع مجتمعه متمرّسا بمشاغل الناس متمثّلا همومهم وهذا ما ضمن له خلفية معرفية متينة بالواقع الذي يعيشه و يعبّر عنها فكان مرات عديدة حكيما وواعظا ولكن يسهل خداعه (من طرف ميّت بن نعسان ) و في كل حالاته يبدو قوي الملاحظة و سريع البديهة و خطيب مؤثر.. يتحدث مرة فيميل الى الايجاز البليغ و اخرى يميل الى الهذر الخفيف و في كل ذلك يستعمل لغة متينة ومفردات ثرية وأحيانا غريبة.
لكن يبدو ان الخضيري أراد ان يتماهى و طبيعة المقامة فجعل بطلا آخر لقصصه القصيرة جدا وهو ميّت بن نعسان ومرة أخرى يبدو الخضيري يخاتل قراءه على مستوى سيميائية هذا الاسم فنحن في الحقيقة لسنا الا في مواجهة رجل يضجّ بالحياة و الأسئلة و يقودنا الى حيث الحراك الاجتماعي على أشده فيلفت انتباهنا الى أزمة العصر بتأزم قيمه الانسانية و الاجتماعية و تناقضات الواقع .
يقدم لنا الخضيري ملامح شخصية ميّت بن نعسان فنفهم أنه رجل يحب لذائذ الحياة من طعام كما يمكن أن تراه مترنّحا من السكر سريع البديهة مشاغبا و جريئا ومضحكا .
3 / الشخصيات الساردة و لعبة الأدوار :
يقدم الخضيري لعبة طريفة في التعامل مع الأخرس بن صمام و ميّت بن نعسان فلا يجعلهما بطلين لقصصه القصيرة جدا فقط بل يمنحهما وظيفة السرد أي يقدمان القصص القصيرة جدا للقراء وبذلك يبث الخضيري روحا جديدة في النفس السردي خصوصا و أن شخصيتي كل من ابن صمام و ابن نعسان مختلفتين كليا ، فان بدا الأخرس بن صمام ساردا عليما بكل تقنيات الخبر و خبيرا بكل طبائع الشخوص و متحكّما في كل الأحداث بحيث يصبح ما يقوله جديرا بالتدبّر فان ميّت بن نعسان في المقابل يبدو ساردا ساخرا بشخصية متهالكة تميل الى التهكّم يظهر في كل مرة فيضفي على الحدث طرافة وعلى الخبر دعابة وعلى الشخوص المحيطة به مفاجآت مضحكة ومن ثمة يخلّف في نفس القارئ ابتسامة لا تخلو من اعجاب بسرعة بديهته و رشاقة ردوده و خفّة روحه ..
من جدّة الكتابة القصصية لجمال الخضيري في هذا الكتاب أنه ينوّع في ملامح السارد و في وظائفه فنجد أنفسنا أمام ثلاث مستويات للسارد وهي :
أ- السارد الأول هو الراوي : يقدم لنا القصص القصيرة جدا في شكل خبر له متن و سند و عادة يكون في شكل المخاطب يستهلّ القصص بأفعال من قبيل (مررتُ، قصدتُ…)
” مررت على الأخرس بن صمام فاذا به منكبّا على محراثه / انّا لوقوف في بطحاء عبارة عن ملعب لكرة القدم اذ اقبل علينا الأخرس بن صمام متقوّسا على عصاه / قصدت الأخرس بن صمام / أسدل عنا الاخرس بن صمام حجاب كلماته مدة / روى الاخرس بن صمام قال / مكثنا بين يدي الاخرس بن صمام سنين نتلقى عنه الحكمة …. “,
بعد السارد الأول نجد في الدرجة الثانية ساردين اثنين :
ب- السارد الاول في الدرجة الثانية هو الأخرس بن صمام :
يعتبر ” السارد الداخلي ” وهو الذي يقع ضمن المتن الحكائي القصصي للسارد الاول الذي ينقل قصته / حكايته في شكل خبر له متن و سند يقدم الحكمة الوافية و المعرفة العميقة و الموعظة الحسنة وهو بذلك موسوعي المعرفة وموضع ثقة.
لا نتبيّن وجه العلاقة بين السارد الأول و السارد الأول في الدرجة الثانية سوى ما نلاحظه من أن السارد الأول يكتفي بتنزيل الحكاية في اطار عام يمهّد من خلالها للقارئ ثم ينسحب ليترك للسارد الموالي (الأخرس بن صمام ) مهمة سرد الحكاية .
ج- السارد الثاني في الدرجة الثانية وهو ميت بن نعسان :
ميت بن نعسان يأتي دائما في نطاق ما يسرده السارد الثاني وهو الأخرس بن صمام فلا ينسحب هذا الاخير ليترك ابن نعسان يروي قصته و انما يظهر دائما ليغيّر الحدث و يضفي عليه بعض من روحه الساخرة و دعاباته المضحكة ، له وظيفتين :
– من جهة يأتي فيكسّر من نمطية القصص و رتابة الأحداث فيعدّ مقالب لذيذة عندما يستفز الأخرس بن صمام مرة ويستغبيه أخرى فيخلّف لدى القارئ الابتسامة و من ثمة يضفي على الحكايات من روحه الخفيفة فيزيل عن القصص القصيرة جدّيتها المفرطة..
( مثلا قصة ” سهوب ” ص 30 )
– من جهة أخرى يكسّر من الشخصية النمطية لحكيم القرية أو شيخ القبيلة التي يكون عادة ذو هيبة وفخامة وكأن الخضيري يريد كسر كل الأنماط الجاهزة للمعارف السائدة في المجتمع كما للشخصيات السائدة ، يريد زعزعة كل ما هو مألوف يتنزّل ضمن قوالب جاهزة و علب تفكير جاهزة و يبدو هذا واضحا منذ بناء شخصية الحكيم الأخرس بن صمام الذي يجعله صاحب هيبة و وقار و لكن أحول ..
اضافة الحَوَل من طرف القاص الخضيري أجدها طريقة فنّية ذات دلالة للمسّ من هذه الشخصية حتى لا تبدو ذات هيبة مطلقة وبالتالي صاحبة تأثير مطلق على المحيطين به و على القارئ فكأن الخضيري يريد الاطاحة بكل الثوابت الاجتماعية و زعزعة المقولات الجاهزة وهي أفضل طريقة يراها الفلاسفة لاجبار الناس على التفكير الشخصي و اعادة تأسيس العوالم المعرفية و من ثمة الاجتماعية التي يعيشونها لذلك كان الفيلسوف آلان يقول ” ان نتفلسف هو أن نقول لا” ، لا للأحكام الجاهزة و المعارف المسبقة ، لذلك أجد الخضيري ينكّل بهذه الشخصية من خلال ما يفعله بها ميّت بن نعسان فيحوّله أحيانا الى أضحوكة.
( مثلا قصة ” مصيبة حولاء ” ص 8 )
بين السارد الثاني ابن صمام و السارد الثالث ابن نعسان تبدو العلاقة مرتبكة ، متشنجة فابن نعسان لا يخضع الى السلطة المعرفية و الاجتماعية لابن صمام ولا يتهيّبه و لا يرى فيه الشيخ الجليل و لا ” الأخ الكبير ” وانما يعبث به مرة و يسخر منه أخرى و هذا ما يجعل من ابن صمام شخصية مهتزّة يسهل التلاعب بها و تحويلها الى أضحوكة ، و لعل هذه العلاقة المستفزة بينهما كانت وقودا يدفع بالأحداث الى جهات غير متوقّعة و من ثمّة تضفي على هذه الحكايا روحا خفيفة و على القصص القصيرة جدا طرافة بيّنة.
عندما تتضمن القصة القصيرة جدا الشخصيات الساردة الثلاث ( السارد الراوي الذي يرد عادة في شكل المخاطب و السارد الأول ( في الدرجة الثانية ) ابن صمام و السارد الثاني ابن نعسان فاننا سنلاحظ هذا التوزيع الفني للأدواروكأنه عمل ممسرح ينتهي بنا الى قصة قصيرة جدا ناجحة في شكل مقامة جميلة .
لنأخذ مثالا عن ذلك قصة ” انتشال ” ص 12 :
يظهر السارد الأول بما هو راو وكعادته يمهّد للحدث بجملة مبتسرة جدا يقدم فيها بطل القصة وهو ابن صمام يقول :
” روى الأخرس بن صمام قال ..”
ثم ينسحب لينطلق السارد الأول في الدرجة الثانية وهو الأخرس بن صمام ليقدم القصة في شكل مخاطب و كعادته يدخل بنا في صميم الحدث :
” قادني الطوى الى مطعم في السوق يضجّ بالخلق..”
نتوقّع سردا هادئا يعتمد الأسلوب الوصفي ليقدم لنا السوق وحراكه الرتيب ولكن يأخذ الحدث منعرجا شائكا يغيّر كل ذلك عندما يتدخل فجأة ميّت بن نعسان :
” بغتة سدّ الفراغ امامي ميت بن نعسان متخطّفا مني الضبّ اخفاه بيده و زج به دفعة واحدة في فمه..”
لنصل الى خاتمة القصة
ما هذه الا شخمة يا من أبيت اللعن ” .
بهذه الخاتمة غير المتوقّعة التي تخلّف غيضا على ملامح الأخرس بن صمام وترسم ابتسامة على شفاه القارئ أجد القاص الخضيري يستجيب الى واحدة من الخصائص الهامة للقصة القصيرة جدا التي تتمثل في خواتمها التي تكسّر انتظارات القارئ وفق ما حدده الناقد المغربي الدكتور جميل حمداوي في كتابه …………. عن
4 – مواضيع القصص القصيرة جدا :
ككل المبدعين الذين يغرسون أقدامهم في طين الواقع و يكونون قريبا من نبض المجتمع كان القاص جمال الدين الخضيري وفيا للحظة التي يعيشها صادقا في تفاعله مع هموم الناس من حوله.
لذلك انبثق الواقع في قصصه القصيرة جدا فعبّر عنها من خلال مستويين لا يمكن الفصل بينهما الا اجرائيا :
أ- مستوى الوعي السائد من خلال الاهتمام بمنظومة القيم الاخلاقية والعادات و التقاليد ..
ب – مستوى المعاملات الاجتماعية السائدة من خلال الاهتمام بالقواعد السلوكية المختلفة ..
لذلك كان القاص الخضيري يلتقط ما يدور حوله و يضمّنه قصصه القصيرة جدا التي بدت سريعة ووامضة و لاسعة. كان يتعامل مع ظواهر المجتمع بالسخرية السوداء و يواجه السلوكيات الرعناء بالحكمة الرصينة ويتعامل مع الغوغاء فيقصّ عليها القصص المعبّرة و الطرائف المضحكة بطريقته الأخاذة و المميّزة التي اختار فيها فن المقامة بما هي نمط أدبي قديم يأتي به ليقول اللحظة الراهنة.
5 – الخصائص الفنية للكتابة عند الخضيري :
لعل الأسلوب الذي اعتمده الخضيري في كتابة القصص القصيرة جدا لهذا الكتاب تعكس مهارة متفرّدة في التعامل مع اللغة بل تجعله من أكثر كتّاب عصره اتقانا و تجويدا على مستوى التعامل مع اللغة العربية فقد أثبت ان اللغة العربية يمكن أن تكون حيّة و ثريّة دائما و أن تكون وعاء لكل كتابة أدبية، وعندما نكون على اطلاع بالكتاب القصصي الأول لجمال الدين الخضيري و عنوانه ” وثّابة كالبراغيث” ندرك جيدا انه لا يتصنّع هذه المهارة اللغوية ذلك أن كتابه الأول يعكس مهارته اللغوية التي قلّ نظيرها في مجايليه بما يعني أنها أسلوبه في الكتابة و بالتالي تجعلنا أمام أحد أهم المبدعين في الكتابة القصصية ليس في تعامله مع اللغة بما هي مادة فقط بل في تعامله داخل اللغة من خلال تنويعه لأساليب القصّ.
أ – أساليب الكتابة :
في كتابه القصصي الأخير ” حدّثني الأخرس بن صمام ” يقدم القصة القصيرة جدا بأساليب مختلفة : أسلوب عجائبي وأسلوب واقعي وأسلوب ساخر .
الأسلوب العجائبي :
يقول تدوروف ” اذا حكى لنا سارد معين حدث غير طبيعي فاننا نكون داخل العجيب ” فالسارد شخص طبيعي و الاحداث غير طبيعية و هذان الشرطان يصنعان مفارقة ” تخلق العجيب و تكسّر الأشكال الكلاسيكية في بنية الق الق ج و يسمح باطلاق العنان للخيال و هذا من عناصر التجديد في القصة القصيرة جدا التي ترتقي بنا الى مستوى التجريب الأدبي..
مثال قصة ” ميّت رغما عنه ” ص 19
الأسلوب الواقعي :
اعتمد الخضيري في كتابة القصص القصيرة جدا على التعامل الحيادي مع الأحداث و نقلها موضوعيا كما هي في الواقع معتمدا على الحوار و الوصف لنقل ماهو موجود و هكذا نجده يتحدث مثلا عن الظلم و الصراع الاجتماعي و مظاهر الفساد و الفوضى .
مثال قصة ” أمّة ” ص 10
الأسلوب الساخر :
تبدو القصة في ظاهرها جديّة و في باطنها تبعث على السخرية و تثير الضحك وهو رسم كاريكاتوري يكسر من نمطية القصة القصيرة جدا و يجعلها دعابة تميل الى تسلية القارئ و تخفّف من حدّة الواقع وأزمات المجتمع و هموم الناس فيضحك منها وهي ردّة فعل سيكولوجية لعلها طريقة للدفاع عن الذات التي هدرت كرامتها و صعبت عليها الحياة .
مثال قصة ” الدرّاجة المغتالة ” ص 21
ب – قيمة الحواشي :
لعلّ تنوع الأساليب يحتسب لهذا الكتاب القصصي و يكشف الخضيري انفتاح القصة القصيرة جدا مما يعني قدرتها على استيعاب التجريب و مرونتها في التفاعل مع كل ما هو مختلف و ربما لذلك نلاحظ اشتغال الخضيري في قصصه على عتبات أخرى هي الحواشي :
يستعمل الخضيري الحواشي في نصوص عديدة لتقديم مفاتيح تساعد القارئ على تبيّن ما جاء في بعض القصص فتزوده باشارات تساعده على فهم دلالات النص و توسّع مجال ادراكه ، من هذا المنطلق يمكن ان نتبيّن وظائف الحواشي فهي من جهة :
تفسيرية توضيحية لبعض ما التبس من مفردات غير مألوفة ( مثال قصة ” مقايضة ” ص 39 “)
و من جهة أخرى توسّع مجال النص بتقديم معلومات اضافية تصبح ضرورية ( مثال قصة ” سهوب ” ص 30 )
الحواشي اذن لا تؤدي دورا جماليا فقط يمكن الاستغناء عنه بل تقدم مفاتيح و تزوّد القارئ باشارات تساعده على فهم النص و من هذا المنطلق تأخذ وظيفتها وأهميتها السياقية في ما تمنحه للقارئ من معرفة أفضل بالقصة القصيرة جدا و بالتالي أضحت العتبات نصا موازيا للمتن و لعل في هذا أحد عناصر التجديد في الكتابة القصصية القصيرة جدا .
اختار القاص المغربي جمال الدين الخضيري أن يصوغ كتابه القصصي بلغة عربية متينة لذلك بدا النسيج اللغوي صلبا ذو بلاغة، قويا لا يخلو من ذلك الايقاع الداخلي الجميل إن على مستوى الجناس والسجع فنقرأ ويضفي ذلك على اللغة المستعملة أناقة تتأتى من فن التزويق اللفظي من تشبيهات و كنايات و استعارات مثلا :
” ألفيت في كل مسجد ألجه من الباب الى المحراب زرابي مبثوثة، و عطورا منثورة، و حيطانا مصقولة، و قبابا محبوكة ، و مكيّفات مصفوفة و يمكن ان تجد فيها اكثر من ذلك ما عدا الصلاة. ” (ص34)
لم يكتف الخضيري بما في اللغة العربية في ذاتها من ثراء و تنوّع بل يبدو انها جعلها مادة ليضفي عليها قدرته على الصياغة الشعرية مما زاد لغته الكثير من الجمالية يقول مثلا :
” رأيت في سهوب ” الريّ و الرّاء ” وأنا أتأبّط لوح الكُتّاب الخلاء يمتدّ حافيا حاسرا كالحقيقة. وحدها الريح كانت تمضغ جلبابي المتهالك ، رجّني هسيس راعي غنم يراقبني من كوّة ما ” (ص 30).
و أيضا :
” ما بال قوم متى حدثتهم الا و تفلّ شفرة فهمهم ، و متى ما أولمتهم الا و يزداد لغطهم ونهمهم ؟
صحيح ان الدجاج لينفذ اليه الاستدلال و الحجاج ” (ص 24 ).
بحيث ان مهارة القاص الخضيري تمثّلت في اللعب داخل اللغة و صياغتها وفق رؤية جمالية تنتصر للقيم الانسانية التي من أجلها يكتب قصصه فكان في كل مرة يشهّر بالفساد و الظلم و النفاق لينتصر
للعدالة و الخير.
ما يشبه الخاتمة :
في هذا الكتاب القصصي ” حدثني الأخرس بن صمام ” أجد الخضيري يرتقي بالقصة القصيرة جدا التي شهدت في البداية تراكما اختلط فيه الغثّ بالسّمين و لكن كان يجب أن يقع تجاوز تلك المرحلة وتؤسس القصة القصيرة جدا المرحلة الموالية حيث تتخلّص من تشابه القصص و تناسخها و اجترار بعضها و هنا سيتمظهر ابداع المبدعين و تميزهم الذي أعتقد ان اسماعيل البويحياوي قد رسم خطه الأول بكتابه القصصي ” قطف الأحلام ” حيث يوظّف كل القصص القصيرة جدا من أجل الاشتغال على تيمة واحدة هي الحلم دون أن يسقط في اجترار الأفكار أو الصور كما نجد من ملامح التميّز أيضا عند القاص الطاهر لكنيزي الذي يختار أن يشتغل على مفهوم السارد فيحيله الى الضفدعة التي تصبح حمّالة معاني ..
القاص جمال الدين الخضيري في كتابه القصصي هذا يرفّع من نسق الابداعي في كتابة القصص القصيرة جدا عندما يعود الى التراث الأدبي و يوظّف اللغة من خلال استحضار فن المقامة واعدادها لتقول اللحظة الراهنة بكل زخمها و تشظيها و أحلامها و أعتقد أن من أراد أن يكون مبدعا في هذا النمط الادبي أن ينافس هذا الكتاب و ان لم يأت بأفضل منه فليأت بمثله .
* شاعرة وكاتبة من تونس