الذينَ أورثونَا قبورَهم

(ثقافات)

الذينَ أورثونَا قبورَهم

مرزوق الحلبي

 

اعترفتم أو لم تعترفوا

الرصاصُ عالقٌ في الجُثَثِ وجدرانِ الحُفرةِ

والوجوهِ

ما من أحدٍ أخبرَهمْ كيفَ يكونُ المكوثُ في قبرٍ جماعيّ

كبارُ السنّ يبحثونَ عن عكّازاتِهم في الزّحمةِ

يؤشّرون بِهَا للجنودِ أنْ يُطلقُوا عليهِم ويترُكُوا الباقِين

والنساءُ كوّرنَ أجسادَهنّ النحيلةَ

لحمايةِ الجميعِ من العتمةِ

والأطفالُ يُمسكُون بالهواءِ كيْ لَا يخرجُ

اعترفتُم أو لَم تعتَرِفُوا،

فالقريةُ التي أطلعَها الحريقُ

من خبايَا الحرشِ تبوحُ بكلّ شيءٍ

والأرضُ المُدرّجةُ

مدرّجةٌ،

كمَا تركَهَا أصحابُها

والصبايَا ما يزَلنَ هناكَ عند العينِ يملأنَ الجِرارَ

يضحكنَ لصورِهنّ فِي الماءِ

ويصعدْنَ إلَى السماءِ

اعترفتم أو لَمْ تعتِرفُوا

فالبلادُ كلّها مزروعةٌ بالقبورِ

فِي كلِّ جهةٍ قبرٌ

ولكلّ قبرٍ اسمٌ

وألفٌ ينتظرونَ سكّانَه النائِمِينَ

ريثمَا يحينُ الوقتُ

لعودةٍ إلَى مقابرَ أكثرَ رأفةٍ بالميّتينَ

اعترفتم أو لم تعترفوا

فإنّ المحاكمَ في السفحِ تدوّن أحكامَها

أسرع مِنْ أيدِي الجنودِ علَى الزنَاد

تشطبُ مِنْ أعمارِنا سنواتٍ

ومِنْ مماتِنا

من عائلاتِنَا

وأرزاقِنا

سنواتٍ

والقُضاةُ باردونَ

كأنهم خواتمُ في أصابعِ الجنِرَال

اعترفتُمْ أو لَمْ تعترِفُوا

فالغائبونَ هناكَ، هُنا

ينتظرونَ علَى صُرَرٍ

لفَّ الناسُ فيهَا حياتَهم علَى عجَلٍ

فِي كلّ صُرّةٍ روايةٌ،

رِوايتَان

وخرائطُ البيوتِ والحقولِ

والممرّاتِ إلى شجرٍ في الأعالي

ومسالكِ الرُّعاةِ

وناياتِهم

في كلّ صرّةٍ ذاكرةٌ تجوبُ اللغاتِ

وتقطعُ طُرقَ الذين أخَذُوا التاريخَ رهينةً إلى لُغتِهم

اعترفتم أو لم تعترفوا

فالحواجزُ الّتي تقطعُ أوصالَنا

وجنازاتِنا

تقولُ كُلَّ شيءٍ مهمَا تكتّمَ الجنودُ

الوقتُ في ساعاتِكُم مدبّبٌ

أو هوّةٌ سحيقةٌ

تصوّبونَ البنادقَ علَى كلّ شيءٍ،

علَى الغيمِ

علَى الطيرِ

على العامل الّذي لن يمرّ

والطالبِ الّذي لنْ يعود

والمرأةِ التي وَلَدت بِكرَها في سيارةِ الإسعافِ

وعلَى الطفلةِ الّتي تلوّح بدفترِ الحِساب

كلّ الحواجز نُصُبٌ تذكاريّةٌ لحياتِنَا الّتِي تقنصُونَها كلَّ صباحٍ

وأنتُم تضحكَونَ

اعترفتُمْ

أوْ لمْ تعترِفُوا!

فالزمانُ علَى أيديكُم مقتلةٌ ممتدّةٌ

والمكانٌ يعجّ بالذين قطعتُم بهمْ حبلَ الوقتِ

وأورثُونَا أسماءَهُم وقبورَهم

اعترفتُم أو لم تعترِفُوا

ليسَ من العدلِ أن تنثُروا رمادَ ضحاياكُم

فوقَ أرضِنَا كأنّها مشاعٌ

وأن تلمُّوا صباحاتِنا المُشمِسةَ في حقائِبِكُم

كأنّها لقايا في الطريقِ إلى مجدِكم

ليسَ من العدلِ أن تتذكّروا أسماءَ موتاكُم

وتمنعوا الناجينَ منّا أن يتذكّروا الموتَ دمعةً أو دمعتيْن

وأن يورثوا أبناءَهم لغةً لتسميةِ

القبرِ

ووصفِ الساكنينَ علَى وجلٍ

بينَ قريةٍ مهجورةٍ ومجزرَة

(نسيان 2023)

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *