مَنْ مِن بين كُتّاب عصرنا سيكون شهيرا في عام 2123؟

مَنْ مِن بين كُتّاب عصرنا سيكون شهيرا في عام 2123؟

مولود بن زادي

يتزايد عدد المؤلفين في العالم بوتيرة سريعة، ففي عام 2021، بلغ عدد الكُتَّاب العاملين في المملكة المتحدة 85.3 ألف كاتب، وتجاوز الرقم 49.4 ألف في الولايات المتحدة، حسب تقرير شركة الإنترنت الألمانية (ستاتيستا)، المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين. الأرقام في ارتفاع مذهل وعالمنا العربي ليس غائبا عن هذا الواقع الذي تطبعه ثورة أدبية كاسحة تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي، التي منحت أقلاما صغيرة وبراعم جديدة متنفسا وفتحت لها آفاقا واسعة للبروز والتألق والتحليق، رفقة الكبار في فضاء الكتابة والفكر والإبداع الفسيح. فيا تُرى، مَنْ مِن بين هؤلاء الكُتَّاب جميعا من أبناء عصرنا سيجتاز اختبار الزمن، فيكون شهيرا في عام 2123؟ وهل الشهرة الأدبية قابلة للتكهن؟ ولمَ يعتلِ منصة الخلود كُتاب ويخلد آخرون في غياهب النسيان؟

الشهرة الأدبية غير قابلة للتكهن

في عام 1929، أجرت صحيفة «المانشستر غارديان» البريطانية – المعروفة حاليًا باسم «الغارديان» – استطلاعًا للرأي سألت فيه قراءها عن «الروائيين الذين يمكن قراءتهم في عام 2029». اعتلى قمة الشعبية الكاتب جون غلزورثي متحصلا على 1180 صوتاً. تلاه الروائي والمؤرِّخ البريطاني إتش جي ويلز صاحب أكثر من خمسين رواية وعشرات القصص القصيرة بـ933 صوتا، ثم أرنولد بينيت مؤلّف أكثر من 30 رواية بـ654 صوتا وروديارد كيبلينج 455، وجي إم باري 286. كان جون غلزورثي روائيا وكاتبا مسرحيا، تلقى تقديرا عالميا لكتاباته، وفاز بجائزة نوبل في الآداب عام 1932.
بعد مضي ما يناهز القرن من الزمن، اتضح أن التنبؤ كان خاطئا. إذ لم يعد أحد من هؤلاء الأدباء يحظى بشعبية في الجزر البريطانية أو خارجها، رغم ما حققه من شهرة عالمية في عصره على منوال جون غلزورثي الذي فاز بالجائزة الأكثر شهرة في العالم: جائزة نوبل! وهكذا يثير استطلاع «المانشستر غارديان» تساؤلات: لماذا يفقد أدباء يتمتعون بشعبية مذهلة في عصرهم شهرتهم؟ وما السبيل إذن إلى العالمية التي لا تزول بزوال أصحابها؟ وهل يعني استطلاع عام 1929 أنه، على عكس الاقتصاد والعلوم والسياسة والطقس، فإن الشهرة الأدبية لا يمكن التنبؤ بها؟ للإجابة على أسئلتنا، علينا بالتأكيد أن نتأمل السبل التي يحقق بها الكُتَّاب شهرتهم، وأن نفحص التاريخ بحثا عن إشارات ودلائل.

الجوائز الأدبية

ليس ثمة من يشك في أهمية الجوائز الأدبية في عالم النشر اليوم. فالجوائز المرموقة تتصدر دوما عناوين الأخبار، وتثير اهتمام الرأي العام، وترفع مبيعات الكتب. وفضلا عن ذلك، الفوز بالجوائز يعدّ ترويجا للأعمال الفائزة، ودعاية للمؤلفين. لكن على الرغم من كلِّ الإيجابيات المرتبطة بالجوائز، ثمة سلبيات لا يمكن تجاهلها. فمن عيوب الجوائز الأدبية سعي الكُتَّاب لإرضاء لجان التحكيم بدلاً من سعيهم لنشر رسالة المحبة والتسامح والسلام وخدمة الإنسانية. فقد أصبحت هذه المسابقات تثير جدلا كل سنة مع إعلان نتائج الفائزين بها. التشكيك في نتائج المسابقات الأدبية يتكرر كل سنة: كيف يمكن لخمسة حكام لهم ذائقة معينة أن يحددوا أفضل كتاب في السنة، دون قراءة كل الكتب الصادرة في السنة؟ وربما دون قراءة كل الكتب المشاركة لكثرتها؟ وكيف يمكن أن يكون قرار لجنة تحكيم الجائزة صائبا عندما نعلم أنّ الذائقة الأدبية تختلف من شخص لآخر. فما يستحسنه أحد، يستقبحه آخر. فإن عرضنا الكتب المشاركة على لجان مختلفة لشاهدنا قوائم طويلة مختلفة، وقوائم قصيرة مختلفة، وأسماء فائزة مختلفة. ومن الانتقادات الموجهة إلى الجوائز الأدبية أيضا قدرة كُتاب على المشاركة المتكررة في المسابقات وعجز أسماء أخرى المتكرر عن المشاركة نتيجة شروط الترشح المعقدة التي لا تخدم أقلاما جديدة غير معروفة في الساحة، ولا تحظى بثقة الجهات المرشِّحة.

الشبكات الاجتماعية

والمفارقة هي قدرة الجوائز الأدبية المذهلة على صناعة نجم لامع بين عشية وضحاها، وعجزها عن ضمان استمرار نجوميته، وخلود اسمه بعد وفاته. فمَن مِنَ القراء وحتى من المثقفين اليوم يعرف الكُتَّاب الفائزين بجائزة نوبل في الآداب في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الماضي، بل حتى في مطلع هذا القرن؟ وفي المقابل، من ذا الذي لا يعرف ويليام شكسبير، تشارلز ديكنز، فيكتور هوغو أو جان بول سارتر، وهي كلها أسماء نُقشت بأحرف من ذهب في سجل التاريخ مع أنها لم تفز بجوائز؟ كثرة الجوائز ونسبية أحكامها بلا ريب تنبئ بموتها الحتمي في الأجيال القادمة، وبضرورة البحث عن بدائل أخرى أكثر مصداقية وواقعية لا تستثني أي مؤلف.
عكس الجوائز الأدبية التي ليست في متناول كل الكُتَّاب، ويخضع فيها المؤلف لقرارات هيئات مرشِّحة وحُكام، ثمة وسائل أخرى يستطيع الكاتب من خلالها التحكم في مصيره وصناعة شهرته بيده. من هذه الوسائل منصات التواصل الاجتماعي التي تمنح الكُتَّاب فرصة الوصول إلى الجماهير، وخلق مساحة تفاعلية والتواصل مع قرائهم الذين يصبحون «أصدقاءهم»، والترويج لمؤلفاتهم. وهي طريقة مربحة لبلوغ الأسواق الدولية وبيع الكتب. مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد النخب تسيطر على الأدب. تستطيع كل الأقلام المساهمة فيه الوصول إلى الجماهير في أنحاء العالم. وقد كشفت دراسة جديدة أن الشبكات الاجتماعية هي أكثر تنبؤا بالشهرة، وأنّ الأفراد الذين يمتلكون مجموعة متنوعة من الأصدقاء والعلاقات، في موقع أفضل لتحقيق الشهرة.

أبعاد إنسانية عالمية

يمكن للمؤلفين الكتابة عن أي شيء في الكون. يمكنهم كتابة قصص مستوحاة من أحداث واقعية أو من نسج الخيال. لكنّ التاريخ يعلمنا أنّ الأعمال الأدبية العظيمة هي تلك التي ركزت على موضوعات عالمية تهم كل البشر. فثيمات الحياة والموت والحرب والسلام والكراهية والحب والألم والشهوة والرغبة في الانتقام تلفت لا محالة انتباه الجماهير. فهي ثيمات مشتركة تلمس قلوب القراء من خلفيات مختلفة وتخاطب جماهير من فئات عمرية متعددة. اليوم، لا تزال أعمال تشارلز ديكنز تجذب اهتمام قراء عصرنا ببساطة، لأن موضوعاته كلها حاضرة في حياتهم. تتغير الأزمنة وتتغير معها اللغة لكن هذه الثيمات تبقى حية، منتقلة من جيل إلى آخر. «هذا جعل العالم يستمر في عشق تشارلز ديكنز»، تقول «بي بي سي» مضيفة: «من بين كل كُتّاب العصر الفيكتوري المشهورين، يحتفظ تشارلز ديكنز بمكانة خاصة في قلوب الجماهير في كل أنحاء الدنيا، ويعشقه الأمريكيون كما لو كان منهم. ربما كان هذا لأن ديكنز كتب من صميم فؤاده، مصوّرا المشاعر والمواقف التي تبقى حاضرة في حياة البشر إلى يومنا هذا. فمع أنّ اللغة الإنكليزية قد تغيرت منذ زمن ديكنز، إلا أن جوهر كتاباته لا يزال وثيق الصلة بالحاضر، كما لو كان في القرن التاسع عشر «.

القدرة على الإلهام

وبالمثل، يعلمنا التاريخ أن الأعمال الأدبية العظيمة هي التي يمكن أن تلهم الآخرين. الكتاب العظماء هم أولئك الذين يمكنهم إلهام الكتاب الآخرين، ليس فقط في عصرهم، ولكن أيضا في العصور المقبلة. يمكن أن يستمر تأثيرهم لعقود أو حتى قرون. هذا التأثير يعزز فرصهم في الخلود. ولا يحقق الكُتَّاب شهرة أبدية من خلال كتب شهيرة بالضرورة. يمكنهم أيضا إلهام الأجيال من خلال قوة الكلمات والأفكار المختصرة في اقتباسات أدبية قوية قابلة، لأن تتردد على ألسنة البشر للأبد. فاقتباس «أكون أو لا أكون» على سبيل المثال يتردد منذ قرون. وعلى عكس الكتب التي يمكن أن تقع في مئات الصفحات، فإن الاقتباسات طريقة بسيطة للتعبير عن فكرة. الاقتباسات موجزة ومثيرة للاهتمام ومثيرة للفضول، وأكثر من ذلك كله يسهل حفظها وتداولها. ومع تسارع وتيرة الحياة، من المرجح أن يعرف الناس المؤلفين من خلال اقتباسات قصيرة وملهمة أكثر من الكتب الطويلة التي لا يملكون وقتا كافيا لقراءتها.

سبيل اجتياز اختبار الزمن

يظهر استطلاع «الغارديان» أنه على عكس التوقعات الاقتصادية، قد يكون من الصعب التنبؤ بالشهرة الأدبية، لكن هذا التوقع ليس مستحيلا تماما. يقول الكاتب الأمريكي هوارد ماركس، «مفتاح التعامل مع المستقبل يكمن في معرفة مكانك، حتى لو كنت لا تستطيع أن تعرف بالضبط إلى أين تتجه». فلا شك أنه باستطاعتنا إلى حد ما التحكم في مصيرنا الأدبي بقراءة التاريخ، والتاريخ يعلمنا أن الجوائز وإن كانت السبيل إلى شهرة آنية فإنها لم تكن يوما السبيل إلى الشهرة الأبدية. فكثير من الكُتَّاب بلغ منصة الخلود دون الفوز بجوائز على منوال شكسبير وجاين أوستن وتشارلز ديكنز. يعلمنا التاريخ أيضا من خلال تجربة استطلاع «الغارديان» لعام 1929 أن تحقيق الشهرة في زمن ما – وإن كانت عالمية – لا يعني بالضرورة تحقيق شهرة أبدية. فخير سبيل إلى الخلود الكتابة لأجل الإنسانية والخوض في مواضيع وثيمات عالمية تثير اهتمام كل البشر. ومن خلال معرفة موقع الكاتب وثيماته وأفكاره ومواقفه ومستوى تأثيره في الآخرين، يمكننا بلا ريب التنبؤ إلى حد ما بما إذا كان مرشحا لاجتياز اختبار الزمن. وفي النهاية، يبقى السؤال قائما للأجيال القادمة: مَن يا ترى بين كتّاب عصرنا كافة سيكون شهيرا، تُقرأ مؤلفاته، وتتردد اقتباساته، وتُذكر أفكاره ومواقفه في عام 2123؟

كاتب جزائري

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *