حرب بين الموسيقى والإرهاب في بيروت؟


عناية جابر *



في بيروت سباق محموم بين البرامج الثقافية الموسيقية الصيفية وبين برامج الحرب والسيارات المفخخة. يكاد الصيف يتحوّل إلى حفلة مشهد الموسيقى الكلاسيكية في فيلم العرّاب حيث تعزف الأوركسترا أثناء قيام رجال العائلة بالخارج وبذات الوقت بعملية تصفية خصومها من العائلات الأخرى. 
ففيما كان اللبنانيون يتحضرون الاسبوع الماضي، ككل عام، للاحتفال بعيد الموسيقى احتفاء بأول الصيف كانت أوركسترا العصبيات المتقاتلة بالشرق تسبقهم إلى افتتاح الموسم بسيارة فجرها على حاجز الجيش في ضهر البيدر أحد الانتحاريين غير المعروفين. 
اللبنانيون مشهورون بالعناد. فكلما ازداد الوضع الأمني والسياسي تأزماً كلما ازداد منظمو احتفالات الصيف إصراراً على تنظيمها مهما كانت الظروف. ليس هذا وحسب بل ازداد عدد البلدات والمدن التي تصر على تنظيم مهرجان صيفي تدعو إليه أهم الفرق الموسيقية والمسرحية المحلية والعربية والعالمية. من بلدة القبيات في اقصى الشمال إلى بيت الدين في وسط الشوف مرورا بالبترون وجبيل وجونيه والذوق وبيروت وصولا إلى بعلبك. 
الجميع يتسابق على تنظيم برنامج بمستويات فنية راقية قادرة على إطفاء نار الحروب القادمة. وعندما تلتقي مسؤولي هذه المهرجانات تحار في تفسير تفاؤلهم وثقتهم بالنجاح. كأنهم من طينة خاصة تعتقد أن الموسيقى تمتلك تلك القدرة السحرية التي باستطاعتها طرد الحرب والانتحاريين من حولهم. كأنهم من عبدة الموسيقى وآلهة السلم. غير أن آلهة الحرب ترفض أن تستسلم من أول إصرار مقابل. ومن أجل إيصال رسالة إلى منظمي المهرجانات الثقافية ربما، قام أحدهم أول من أمس بتفجير نفسه وسيارته قرب حاجز للجيش على أبواب الضاحية الجنوبية لبيروت. الملفت في الأمر أن توقيت الانفجار جاء بعد لحظات على نهاية مباراة كرة القدم التي جمعت البرازيل مع المكسيك في إطار المنافسة الدولية. حتى الانتحاريين عندنا لا يقبلون أن يموتوا قبل انتهاء المباراة وإعلان النتيجة. وأمس قام انتحاري آخر بتفجير نفسه في غرفة الفندق التي يقيم فيها عندما فاجأته قوى الأمن محاولة توقيفه. 
السباق حام بين الطرفين. كل يحاول أن يسجل نقطة في هدف الخصم. لا سلام ولا استسلام. لكن من أين يأتي ناس الثقافة بهذه القوة وهذه العزيمة لكي يقاوموا الموت الزاحف بكل ثقة؟ يستمد اللبناني ثقته من الماضي والتجارب السابقة. فعندما تسأله كيف تتجرأ على الخوض في استثمارات فنية مكلفة، في ظل أوضاع أقل ما يمكن أن يقال فيها انها مضطربة وخطيرة وتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، يجيبك بأن الوضع مشابه للسنوات السابقة حيث لم يمنع ذلك من حصول المهرجانات في موعدها وبحضور الجمهور ومن دون أي مشكلة. 
عليك أن تكون من طينة هؤلاء فقط لكي تفهم كيف يمكن ان تقنع فرقة عالمية أجنبية بالحضور إلى بعلبك مثلا لكي تقدم برنامجا موسيقياً أو مسرحياً في ظل الحروب المتفشية حولنا وبيننا وعلى بعد مرمى حجر من المسرح. عليك ان تعيش ما عاشه وما يعيشه هذا الشعب منذ عقود من توترات أمنية وحروب أهلية متنوعة لكي تعرف إلى أي حد يريد اللبناني أن يتخلص من فكرة الحرب ولو بالوهم او الخيال. يظهر لي وكأن الغرق في الفنون نوع من الهرب الهوامي من الخوف والموت أو من فكرة الموت. او كأنه يسابق الموت في لعبة لا يكتنهها إلا الذي يعايشها. 
الناس هنا تلاعب الموت والأفخاخ. فلا توقف للحياة بعد العملية الانتحارية، بل استمرارية متواصلة. هي لحظة وقوف بين حياتين، بين مشهدين. مباراة فسيارة مفخخة فمهرجان فني فمباراة كرة قدم ثانية فموت وهكذا. تتواصل الحلقات بين الحياة والموت بدون أي توقف في لعبة لا يفهمها إلا الناس هنا. ولذا ترى أن صيف بيروت الحار حار بكل ما فيه. فبالرغم من عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وهو أمر يعتبر مأزقاً في بلاد البشر الأخرى، يتابع اللبناني تنظيم الحياة الفنية والمهرجانات الصيفية التي عليها أن تسلي الضيف الإفتراضي ولو لم يحضر. 
بيروت احتفالية سوريالية من العبث محاولة كشف أسرارها. عليك أن تأخذها كما هي بدون سؤال. عليك فقط أن تحضر نفسك لحضور برامج قلعة بعلبك السحرية. فيصير بإمكانك، كسابقيك، أن تخبر أحفادك يوماً أنك شاهدت أم كلثوم هناك أو فيروز. عليك فقط أن تحضر حفلات قصر بيت الدين الخيالي الجمال. عليك فقط أن تنسى أننا في هذا العام، وفي هذه الحروب، وفي هذا النزيف البشري، وفي هذا النزوح الشبيه بالتطهير الإثني والطائفي. 
في كل شارع ببيروت مكعبات جديدة لم يرسمها بيكاسو بل عمال الصيانة بهدف حماية زعيم جديد حملت الأنباء نصف السرّية ما يشي بتعرضه لاستهداف أمني. شوارع جديدة أغلقت إلى يوم يحدد فيما بعد. حواجز عسكرية جديدة للتفتيش الدقيق عن السيارات المفخخة. عسكريون ذوو تأهيل خاص لتفحص الوجوه الانتحارية. وفي بيروت كذلك وفي ذات الوقت مهرجانات موسيقية جديدة لجعل الصيف أكثر لطافة ورقة. 
بيروت، بعد الاحتفال بليلة عيد الموسيقى، تسهر الآن على وقع مباريات كأس العالم لكرة القدم. انقسم اللبنانيون إلى داعمين لهذا الفريق وذاك وحملوا الأعلام وعلقوها على سياراتهم وأعالي بناياتهم ومنازلهم والشرفات. تحولوا بغالبيتهم إلى خبراء باللعبة عامة وبالفرق ومستواها بخاصة. وقد بلغ مستوى الحماسة حداً جعل اللبنانيين يطلقون النار بالهواء عند انتهاء كل مباراة ابتهاجاً بفوز فريقهم ونكاية بخسارة الفريق المدعوم من جارهم. 
وما أن تنتهي شعائر الحياة الرياضية لكرة القدم حتى يكون قد حان موعد مهرجانات الصيف الفنية التي تغطي هذا العام مروحة واسعة من المدن والقرى والبلدات. هنا وعلى مرّ شهرين تقريباً سوف يعيش الناس على وقع أعمال الفرق الفنية التي تتحضر حالياً للمناسبة. بيروت تغني لتطرد أشباح الحرب أم تغني لأنها لا تصدق الحرب ؟ تلك هي المسألة. 

* شاعرة وإعلامية من لبنان
( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *