أنصاف الحلول في رواية “هروب” لعبد الرزاق قرنح

(ثقافات)

أنصاف الحلول في رواية “هروب” لعبد الرزاق قرنح

 صالح الرزوق

يقدم عبد الرزاق قرنح مشروعا استعاديا لتفسير مشاكل الحضارات النائمة، ويبتعد ما أمكنه عن منطق الحضارة الجريحة (أسلوب سلفه نيبول). والحقيقة أن منطق نيبول اللاتيني يبدو أقرب للتصالح مع الغرب، ولذلك اختار أن يسل سيفه ويقتحم أسوار الحواضر الغربية. وإن اختار لبعض شخصياته أن تحارب في المشرق، فهذا فقط ليضعها بالنتيجة أمام جدار قدرها، وهو اليأس، والمطالبة بالاندماج، حتى أن وهم المساواة لم يطرأ على ذهنه، وراوح كل الوقت بين المغالبة والإقرار بالخسارة (بمعناها العسكري – الشعور بالعجز وإلقاء اللوم على النوع).  بينما كانت شخصيات قرنح قلقة وغامضة، ويمكنها أن تحتار لكن لا أن ترفض، ناهيك عن الإقرار بضرورة الثورة أو التحرير. وفي واحدة من أهم رواياته الوسيطة وهي “الهروب –  Desertion”* قدم عدة أصوات غربية وإفريقية لتسليط الضوء على مفاهيم سائلة مثل الحداثة والاستقلال والمعرفة والمجتمع وسوى ذلك. تبدأ الرواية من اكتشاف حاسانلي لجثة بيرس في الخلاء قرب المسجد عند صلاة الفجر، ثم تنتقل لمتابعة تفاصيل ومحطات كل منهما. وأعتقد أن هذه النقطة لعبت دورا مزدوجا. فهي نقطة تنوير (لحاسانلي – لأنها فتحت نافذة في جدار وعيه الباطن على دور الرجل الأبيض)، ولكنها نقطة تستر وتعمية (بالنسبة لبيرس، فقد أغلقت كل منافذه ووضعته أمام ألغاز المجتمع المحلي – ووسعت من مساحة الجيب الغامض الذي يشتمل على أخلاق وعادات تبدو له غنوصية أو بأسوأ الأحوال تمرينات ماسونية ناجمة من علاقة الوجدان الثابت مع الطبيعة المتحركة ).

ولذلك اعتمد قرنح في تطوير الأحداث إلى حد كبير على نقطتين.

الأولى إدارة الحوار بين أنداد، فهو لم يسمح لشخصية شرقية بالدخول في جدال مع وافد غربي في كل مشاهد الرواية. وكانت النقاشات تدور بين ذكور استعماريين لديهم تصورات عن استغلال القرن الإفريقي والأراضي المجاورة (امتد نطاق الرواية من الهند وسلطنة عمان شرقا وحتى أوغندا وزنجبار غربا)، أو بين مواطنين محليين أغلبهم أطفال ويافعون ونساء.

الثانية التركيز على الشأن الحضاري وليس السياسي ولا التاريخي. وإذا قدم عرضا مفصلا لتاريخ زنجبار ونشوئها، فقد تناوله من الأعلى، وبمنطق الأنثروبولوجيا العرقية، وحرص على ترك هذه المهمة لكل من مارتن أو بيرس – مغامر ورحالة يحمل اسمين. وفريدريك – مزارع ومستوطن (بمعنى آخر بين إنسان يؤمن بدين المعرفة وآخر يؤمن بدين العمل الإنتاجي – أو الاقتصاد). وتباين وجهات النظر لم يفسد للود قضية. كان مارتن من طرف القوة الناعمة واستخدام طرق الترغيب وليس البطش والعنف. ولذلك آمن أن “الوقت سيأتي لنرى أن أفعالنا هذه ليست بطولية. وأن أنفسنا أقل جمالا وفتنة”. وأن الوقت  “سيحين ونخجل به مما جنته يدانا”. وعلى هذا الأساس تدير الرواية علاقة مارتن مع ريحانة، فيبتزها جسديا ثم يشعر بالعبث واليأس ويفر منها عائدا إلى “مملكته السعيدة” على حد تعبيرها. وريحانة أخت التاجر حاسانلي الذي يمثل عصر الانفتاح، والمقايضة على ما تقدمه الأرض مقابل الضروريات. بتعبير آخر كان نموذجا للاقتصاد الصغري والاستهلاكي، ونخاسا صغيرا ضمن آلة  استغلال وعقوبات كبيرة.

ويأخذ فريدريك الموقف المعاكس، ويؤكد أن الأرض لا تقدم نفسها لأحد طواعية. وجريا على عادة قرنح في بقية أعماله يقدم أنصاف حلول فقط.  ففريدريك لا يكره أحدا على شيء ولكن يوظف كل الطاقات المحلية المتاحة في خدمته. ويمكن القول إنه أنشأ مجتمعا أتوقراطيا تستسلم فيه الأغلبية لطرف واحد (حتى كلمة الأقلية تبدو ترفا مستحيلا).  وبهذا المعنى يقول: علينا أن نقودهم ليعودوا للانضباط تدريجيا. ثم يضيف: جاء العرب إلى هذه البلاد ليعيثوا بها فسادا، ولكن لا مفر من الإقرار أنهم رسخوا بعض الضوابط وفرضوا القليل من النظام. وتذكرني هذه الحالة بوضع ميراندا بطلة رواية “في بلاد الآخرين” للفرانكوفونية ليلى سليماني. فهي صورة نسائية من بيرس، الشخصية التائهة في رواية قرنح. كلاهما ينظر للأرض على أنها هبة من الرب ولكنها غريبة، ويخشى أن ترفض  مشروعه الاستعماري. وإن استسلمت ميراندا بالنتيجة للقلق الشرقي وآمنت به فإن بيرس يهرب منه. وليمرر قرنح هذه الأفكار اختار  أسلوب المذكرات (فالرواية هي مذكرات رشيد). ولكن قدمها بشكل فصول كل واحد منها ينقل صوت إحدى الشخصيات ووجهات نظره وبضمير الغائب (لذلك يمكن أن تعتبر أنها شهادة محايدة لم تكن تحابي أحدا. وهي عن حاضر دائم يروي شهادته عن غائب مؤقت).  ولكنه قيد صوت الرجل المحلي بشكل ملحوظ (وهذا الكلام ينطبق على رشيد مدون المذكرات وعلى أخيه أمين – أو أستاذ المدرسة وتابعه اللذين مثلا إشكالية  الوعي والإدراك – أو معنى الهوية النوعية. كما أنه ينطبق على حاسانلي – نموذج المواطن المحلي البسيط). ويمكن أن تقول إن قرنح فرض على الرجل المحلي وعيا منزليا يعلو فيه صوت النساء. حتى أن الرجل كان سلبيا بمعنى أنه محروم ومحاصر passive والمرأة إيجابية، تعرف واجباتها.  وهذا يفسر أسباب إسقاط معنى البيت على مفهوم الوطن، واستعمال المصطلحين بالتبادل ليدل على نفس المفهوم (كقوله home  و land).

لا شك أن الرواية تدخل في عداد أعمال الصدام غزو الغرب للشرق كما هو الحال في “بيلا دونا” لروبيرت هيتشنز (وهي رواية استعمارية بقالب  سياحي أو رحلة عمل واستجمام)،  وكما هو حال “رباعية الإسكندرية” للورنس داريل (التي تتطور جدلا بقالب سياسي).  فكلاهما يوفد رجلا غربيا لقلعة شرقية ويسلط سيف الذكورة الغربي على نساء شرقيات ضعيفات، وكلاهما ينظر للمرأة على أنها جزء من الأرض ولا بد من استغلالها، وذلك بصور ليلية ومائية تقيد جبروت وطغيان الشمس والجفاف (وربما جاء ذلك بتأثير مباشر من حادثة دنشواي ودور الشمس في إلحاق الهزيمة بعسكري إنكليزي – فضربة الشمس كانت جناية واستحقت العقاب بالطريقة التي انتقم بها الشرقي من المرأة الغربية. وبرأيي أن الطرفين يحمل عقدة تستعمل سلاح الذكورة للانتقام من المشاعر الطبيعية للنساء أو من السلوك العفوي للطبيعة).

ولكن يعالج قرنح نفس الأزمة بحشد مجموعة من التمثيلات الذهنية، ومنها إلزام الرجل الشرقي بالحركة في أرض محدودة (المتجر والبيت – حالة حسانلي- أحيانا المسجد لينادي منه إلى الصلاة وهو المنفذ الوحيد لتحرير الروح واستعباد أو قهر الجسد). وإضفاء معنى الرجولة على المدينة ومعنى الأنوثة على القرية، وهي حيلة استشراقية بدأت منذ أن كتب ماسينيون سيرة المتنبي وفرض عليه السفر بين عدة محطات للتبشير بآرائه الثورية.  وقد سارت ريحانة على خطواته وتبعت وحيها أو إلهها (وهو مغامر ذو وجوه متعددة يظهر باسم بيرس ثم باسم مارتن- ويأخذ دور رب خالد لا يفنى – كأنه يريد أن يرمز بذلك لعودته من الموت في بيت حاسانلي، وانتقاله إلى بيت فريدريك – وأخيرا مع ريحانة إلى منزله الاستعماري في مومباسا). وهو في كل هذه المحطات يركز على استمرارية الرسالة الحضارية للنوع الأقوى دون تحديد لأي عرق أو شعب، وكأنه شيء متحول، يدخل في دورة حياة كاملة، ويتناوب عليه طور الموت والعودة إلى الحياة. وقد عرّض الطبيعة – الأرض للغبن مرتين، لأنها كانت مشروعا استثماريا (لما اصطلحنا على تسميته بالغرينغو – بالاستعارة من أمريكا اللاتينية التي تنظر للشمال وكأنه فرد واحد أو صنم أبيض يتصف بالتعالي وقوة الشكيمة والأنانية – وهو نفسه ما اصطلح القرن الإفريقي على تسميته باسم المزنغو)، ولأن الحبكة أغفلت مشكلة التضحية بالبيئة وتبديل معالم الأرض والحياة عمدا لتلحق بركب الحضارة الغريبة (والبيئة تشمل الوجدان الإنساني الذي لحق به “التشوه والتغريب وإعادة ترتيب تفاصيل حياته” سواء من ناحية الشكل ومقاييس جمال المرأة ووسامة الرجل أو من ناحية الأخلاق وأسلوب الحياة، والكلام لمايكل ألبيرت)**.

وهو ما حدا بنادين غورديمر أن تقول عن هذه الرواية إنها “رؤية لنطاق واسع من العواطف والعلاقات بين المستعمرين (بكسر الميم) وخريطة بلدان كثيرة ورد ذكرها”. ولا يمكن أن تفوتني هذه الإشارة الغامضة.. أن الموضوع بين أضداد حصرا، بشر وطبيعة، أو طبائع إنسانية  ومساحة لها اسم على الورق فقط.

وإذا اتفقنا أن الرواية تنضوي تحت مظلة الروايات بعد الاستعمارية (وأفضل مصطلح روايات حروب الاستقلال) فقد اختلفت عنها بعدة مسائل.

أولا، أنها نأت بنفسها عن الأعمال العسكرية والغارات وحروب الشوارع، ولم يطلق فيها أي شخص رصاصة واحدة. مما يضعها في عداد الحبكات المسالمة أو القصص البيضاء، لتمييزها عن القصص الدموية.

ثانيا، لم تتناول لا الإضرابات ولا المظاهرات أو الثورات المدنية، وكانت حياة الأشخاص هادئة وتخضع لقانون الكسب المشروع أو الاقتصاد الاستعماري. وهذا يجنبها أيضا مشكلة أدب حالات الطوارئ وإعلان التعبئة أو المحاكم العسكرية.

ثالثا، لم ترسم ولو صورة واحدة لثائر أو متمرد يطارده المحتلون أو السلطات المحلية المتعاونة معه، واكتفت بتصوير مظالم اجتماعية وحياتية عامة تطرأ بالعادة في فترات التحويل الاقتصادي أو حقب الانقلابات العسكرية التي يزخر به عالمنا الثالث. ولذلك تستطيع أن تلاحظ بوادر التململ والتهيؤ للثورة دون أن تصورها علنا، وكأنه أراد أن يعيد تركيب أعمال الأدب الأبيض الذي ظهر في جنوب إفريقيا على يد ج. م. كويتزي وعلى وجه الخصوص في عمليه الهامين “العار”، وقبله “حياة وعصر مايكل كي”. لقد اتفق كلاهما على إدانة القوة البيضاء دون إغراق الأحداث بسيول من الدم. وبنفس الوقت اعتمدا على تعميق الوعي بأسباب التناقض. بتعبير آخر لم يتابعا التناقضات المباشرة وإنما حفر قرنح في الجيوب الحضارية المسببة لها، وتبع أثرها كويتزي في الجيوب النفسية التي تبدل موقف الغريزة من الطبيعة سواء كانت عاقلة أو غير عاقلة.

رابعا، يعبر الأسلوب بلغة ميتة عن شكل تجريبي حي مثلما هو حال كل الروايات المهاجرة، ولا سيما أن المشكلة تشمل ذاكرة قديمة وهوية جديدة. وحتى إذا رفعت الشخصيات صوتها بهجاء الاستعمار فاللسان لا يخالف اللغة الاستعمارية من ناحية القواعد والتراكيب. ولا يصل بها الأمر لنقطة اللاعودة كما هو الحال في الرواية الاسكوتلاندية التي ظهرت في الثمانينات وما بعد على يد جيمس كيلمان وروج غلاس وآخرين…

*صدرت الرواية عن دار بلومزبري. 2005. لندن. 272ص.

** مقالة في ZNet عدد 29 آذار 2023.

شاهد أيضاً

عبد الصّمد بن شريف يُحاضر بفاس حول تحوُّلات الإعلام بالمغرب

(ثقافات) عبد الصّمد بن شريف يُحاضر بفاس حول تحوُّلات الإعلام بالمغرب متابعة: إدريس الواغيش احتضنت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *