(ثقافات)
لحظةٌ ذهبيَّةٌ
(قصة قصيرة)
محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح. قراره الأخير:
-
“مديري عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا”.
اجتماع ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
“لَكْتُبْ اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ“
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ. يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية “خَلوةٌ في مِحْبَرة” قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل مع نفسه:
-
“كيف كتبها الروائيُّ..! “خَلوةٌ في مَقْبرة” ؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها “خَلوةٌ في مِحبَرة“.
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
-
“تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنّه انتحر”.
أبدعت استاذ محمد المقداد… يعطيك الصحة والعافية