جئت على قدر يا موسى

(ثقافات)

جئت على قدر يا موسى *

موسى حوامدة

أما لماذا موسى، فلا أعرف، لماذا اختار أبي هذا الاسم بالتحديد، فلم يشرح لي لاحقًا، وشكَّل لي هذا الاسم نوعًا، من العقدة، فقد كنت أفكر دائمًا، في معنى الاسم، ولماذا لم يختر لي أبي غير هذا الاسم الذي ارتبط باليهود، وهم من يحتلون بلادنا اليوم، وتسببوا لنا بكوارث لم ولن تنتهي حتى وقت طويل، أنه “موشيه” اسم يهودي، لكني كنت أعود وأقول لماذا أحمِّل أبي كل هذه المسؤولية، فالاسم متداول بكثرة لدينا، وهو فعلًا أحد أنبياء الله، وصرت أعيد قراءة القرآن، ووجدت أن القرآن أتى على ذكره 136 مئة وستا وثلاثين مرةً، بينما ذكر اسم النبي عيسى خمسة وعشرين مرة، واسم محمد خمس مرات فقط، فهل أحب أبي الاسم في القرآن، ربما، لا أدري، لكني لم أحب اسمي منذ الصغر، وظللت أسأل نفسي، ما معنى الاسم، وتبين لي فيما بعد أنه اسم فرعوني، فموسى ولد في مصر، وقصته بدأت فيها، ويتشكل من كلمتين هما مو وسا، أو شا، وهما الماء والشجر، أي الذي وضعته أمه في الماء وبين الشجر، كما تم تفسيره قصته، وتركيبها مع اسمه، وهو الاسم العبري الذي نقل حرفيا عن اللغة الهيروغليفية القديمة، فهل كني بهذا الاسم بعد حدوث قصته، أو هل “سا” تعني ابن، كما قرأت مرة، أن “سا رع” هو ابن رع إله الشمس، أم هل تعني عابر، وهو الذي عبر الماء، فيكون قد حمل الاسم بعد هروبه من فرعون، وشقه البحر بعصاه؟
وإن كان كذلك، فماذا كان اسمه قبل حدوث قصة شق الماء، أو حين ألقته أمه في اليم طفلًا، وهل الاسم هو الذي أسمته إياه زوجة فرعون، أم أمه، أم هل ما قاله عالم النفس سيغموند فرويد اليهودي الديانة أيضًا: أن موسى لم يكن عبرانيًا بل مصري، وأن اليهود هم من قتلوه، وصرت أقرأ وأعيد قراءة الآيات القرآنية التي تحمل اسم موسى، فوجدت أنه ذكر في القرآن 136 مئة وستة وثلاثين مرة، بينما ذكر عيسى خمسة وعشرين مرة، بينما لم يذكر اسم محمد حرفيًا إلا خمس مرات.
وتضمنت الآيات التي ورد فيها اسم موسى مقرونا بالقول، أكثر من نصف هذا العدد، فوردت كلمة “قال موسى” وحدها ثمانية عشرة مرة، وجاء العديد من الآيات يحمل فعلًا ماضيا في القول أو الكلام، مثل كلمات؛ قالوا، قلنا، قلتم، أوحينا، أرسلنا، أتينا، سألوا، سئلَ، نادى، كذَّب، أوتي، سكت، آمن، كما وردت الآيات التي تتضمن معنى الكتابة، مقرونة بالقول أيضًا، مثل (كتاب موسى، نبأ، صحف موسى وهارون، عدة مرات، وهل أتاك حديث موسى، مرة واحدة، أما الأفعال التي تتضمن الحركة فكانت أقل بكثير من أفعال القول والكلام، ومنها مثلًا؛ اقبل، جاء، جاءهم، جئتَ، خرَّ، اختار، رجع، يرجع، اتخذ، أقتلُ موسى، قضى، وَكَزَه، ألقى، يطيَّروا،
آذوا، ألقها، منَّنا، أما بقية الآيات فقد جاء فيها أيضًا نداء إلى موسى، وتردد رب أو إله موسى، أو رب موسى وهارون، عدة مرات، ومرة واحدة وردت كلمة سؤال، (كما سئل موسى)، ومرة ثانية جاءت بصيغة السؤال: وما تلك بيمينك يا موسى، وقد اكتشفت أن أغلب الآيات التي ذكر فيها اسمه، ركزت على فعل القول والكلام والكتابة، والسؤال.
ولم يمر معي الاسم مرور الكرام، فقد استخدمته في الشعر، أكثر من مرة، كانت الأولى في عام 1991 حين كتبت قصيدة مآرب، والتي نشرتها لاحقًا في مجموعتي الشعرية الثالثة “شجري أعلى” عام 1999 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وهي واحدة من ثلاث قصائد، وُجِّهت لي عليها أو عنها، تهمة التكفير أو الردة عام 2000 بعد أن أصدر عدد من قياديي الإخوان المسلمين في الأردن، من بينهم المرحومان النائب الدكتور ابراهيم زيد الكيلاني، والمرحوم النائب عبدالمنعم أبو زنط، والنائب محمد الحاج أطال الله عمره، إن كان لا يزال حيًا، فتاوى بتكفيري، وانصاعت لهم حكومة عبدالرؤوف الروابدة (دولة أبو عصام) الذي أقدر ذكاءه وروح الدعابة لديه، وقد التقيته مرارًا في السنوات الأخيرة، وزرته في بيته، وبيننا من الود الكثير، لكنه في ذلك الوقت كان غاضبًا مني لموقف آخر، ربما أذكره لاحقًا، أطال الله في عمره أيضًا.
وتم اقتيادي إلى محكمة ماركا الشرعية في عمان، ووجهت لي تهمة الردة رسميًا، واستمرت محاكمتي مدة سنتين، وربما أعود للحديث عنها في فصول قادمة، وقد رفضت التهمة، وظلت القضية بين المحاكم الشرعية والاستئناف الشرعي، وربما جلست فيهما في بعض الأسابيع مرة أو مرتين، وبعد أن برأتني محكمة الإستئناف الشرعية، فوجئت بطلبي مجددًا من قبل الشرطة، وتم تحويلي إلى “قصر العدل” المحكمة المدنية لأن وزارة الأعلام في ذلك الوقت هي التي رفعت القضية ضدي، ولكن جاءت التهمة هذه المرة حول قصائد أخرى، وكانت الحجة، أنني خالفت قانون المطبوعات والنشر، رغم أني حاصل على إجازة رسمية للديوان، وبعد عام برأني القاضي النزيه وليد كناكريه، ولكن النائب العام أو المدعي العام عاد بعد أسبوعين وفسخ الحكم، وأعادوني من جديد إلى المحكمة، وعند قاض آخر، واستمرت المحاكمة هذه المرة، أكثر من سنة، وانتهت بالحكم عليَّ بالسجن ثلاثة أشهر، بارتكاب جنحة، أو استبدالها بالغرامة، ولكني رفضت دفع الغرامة، ولم يطلبني بعدها أحد، وطويت القضية، دون أن أعرف السبب حتى اليوم. ولهذا الحديث بقايا..
وها هي القصيدة:
أعطاني سحرَ الكلمات
وكَلَّمَني تكليما
يا ألله
هَلْ يلقي عبدك موسى
في الناس نبَّوته وعصاه
بيضاءُ يدي
والطورُ طيورْ
سأشق البحرَ
وأرفعُ عن أرض الكنعانيين الجورْ
هارون أخي
والشعر شقيقي الأوفى
ولساني لا بد يدورْ
إني للرب الأقرب…منذور
مذ ألقتني أمي في اليمَّ
ومذ منحتني زوجة فرعون النورْ
***
نور… نور
نور … ما
وسما
هي ذي نورما ؛
ماء رقراقٌ ،
شفافٌ ،
ما أصفاه
وما أحلاهْ
هي ذي نورما
لم تترك للربَّ دفاتر أو فرشاهْ
كسر اللوح المأثور رماه
لما طلعتْ من بين أصابعه
من تشبهه في علياه
وبدت إنجيلا معجزةً توراهْ
قراّنا لا بل نور حياة
لا تشبهها الملكاتُ
ولم تصنعها كل وصاياه
ضاع الدين
وعبدك يا الله
في سيناءِ مفاتنها تاه
هي ذي نورما
امرأة …
من عين الله
حلم…
سر من كُنه الأسرارْ
نور من قبس الأنوار
وحيٌ…
إلهامْ..
من لدن الله
وكما…حول القبة أسوار
وكما…فوق الهيكل
تحت الهيكل أشرارْ
حولَك يا ربي أشباه
لكني لا ألقي بالاً لبناتِ شعيبَ
ولا للقبطيات
إني عبد اللهْ…
ونبي الكلمات…
فأعد لي أرضَ الميعادْ
لأعود اليك
وأقيم لك الصلواتْ .
تشرين ثاني 1991
قبل أن تثار القضية، كنت قد بدأت بكتابة قصائد جديدة، وبطريقة مختلفة عن المجموعة السابقة، ورغم الوقت الذي كنت أقضيه لمتابعة القضية وتبعاتها وذيولها، لم أتوقف عن كتابة القصائد، بل صرت أشعر أن لما أكتبه قيمة، وكنت قد وضعت نصب عيني، أن يكون الكتاب الجديد على غرار التوراة، ولكن نقيضها، وقد صدرتها بهذا الاقتباس من التوراة :
(أنصتي أيتها السموات فأتكلم
ولتسمع الأرضُ أقوال فمي).
العهد القديم
أطلقت على المجموعة عنوان: أسفار موسى العهد الأخير، يعني لا القديم ولا الجديد، وكانت أسفاري على الشكل التالي؛ سفر الخطيئة، سفر الهزيمة، سفر اللعنة، سفر التثنية، (وهو أحد أسفار التوراة فعلًا)، وقصدت التشابه، وصدَّرته هذا الجزء بهذا الاقتباس، ومن التوراة أيضًا: “قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر” الاصحاح 34/سفر التثنية
ثم سفرالرؤيا، سفر الأيام، سفر الرموز، سفر الخيانة، سفر العبث، وقد صدرته بنص توراتي أيضًا: “الساكنُ في السموات يضحك”، سفر القرن العشرين، سفر الدائرة، وقد صدرته؛ بهذه العبارة “الدائرة مالها باب والنقطة في وسط الدائرة معنى الحقيقة” وهو طسٌ من طواسين أبي منصور الحلاج المتصوف، والذي صلب وعذب وقطعت يداه ورجلاه، بعد أن وافق الخليفة المقتدر العباسي على تنفيذ حكم القضاء فيه.
وكان لمحتوى “أسفار موسى العهد الاخير” على هذا النحو:
أ- سفر الخطيئة 11
خطايا / نزق / عدوتي
أراني عدوى
ب- سفر الهزيمة 21
وظل عالياً / الفلسطينيون
ختم عورتي
ج- سفر اللعنة 35
اللعنة / منشار / مصير
في مترو باريس
د- سفر التثنية 43
عالياً أصرخ / يشكو الصداع /
هي سيدة الأرض / أنفاس الشهداء 57
ه‌- سفر الرؤيا 61
(عودات) / رؤى /
لن أنْسى / ساحرة
و‌- سفر الأيام 69
سرقات / ايام / أيام الأسبوع
الأربعون / الألفية الرابعة
ز‌- سفر الرموز 79
أرباب / آلهة / ولفَّ يديهِ
النيل / البغلة / خلود
مملكة النمل / في الأعالي
ح- سفر الخيانة 97
أكاذيب / الوصايا التسعة
ط- سفر العبث 105
أحزان الروح
ي‌- سفر القرن العشرين 117
طبيب البكارات / فقأتُ عين البوم /
آخر أيام القرن الأصفر / الدائرة /
عام 2000 / فرصة تالية
كنت قد جهزت المجموعة خلال المحاكمات، وأرسلتها إلى دائرة المطبوعات والنشر في عمان، لإجازتها، واتصلوا بي بعد أيام، وعندما ذهبت كانوا قد أحضروا شيخًا، وصار يناقشني فيما أقصد، في هذه الكلمة أو تلك، واعترض على كلمة أن الله حزين، فقال لا يجوز وصف الله بالحزن، قلت لكننا وصفناه بالغضب والمكر، والحزن أقل درجة من الغضب أو المكر، فقال الغضب والمكر والبأس لله أما الحزن فهو للإنسان وليس لله، قلت الغضب والبأس والقوة والمكر كلها صفات بشرية أيضًا، فقال: لا، وأصر على موقفه، وتم شطب الكلمة، كما تم شطب عدة كلمات وجمل أخرى، وقبلت لأنني كنت مصممًا على إصدار المجموعة، في أسرع وقت، وحتى خلال المحاكمة، وبالفعل وافق ماهر الكيالي على طباعتها، قائلًا وهو يبستم: المهم ألا تسبب لنا مشكلة جديدة، قلت لا تقلق، لقد تمت إجازتها عن طريق شيخ من وزارة الاوقاف، وبالفعل حصلنا على إجازة الموافقة، وعلى رقم إيداع في المكتبة الوطنية.
وتذكرت مقالة الدكتور صلاح فضل، رحمة الله عليه، عن “شجري أعلى” والتي نشرها أول مرة في جريدة الحياة، عام 2000 ثم في كتابه تحولات الشعرية العربية، وجدت أن بعض الفقرات تناسب المجموعة الجديدة، فاقترحت وضعها على الغلاف، وتم ذلك بالفعل، وكان د. فضل بعيد النظر، ثاقب الرؤيا لاستخدامي الرموز القرآنية، ومما جاء في مقالته:
توظيف القصّ القرآني:
لكننا لن نراوغ أشعار موسى حوامدة طويلا حتى نخلص إلى تلك التقنية التي فجّرتْ سخط المتطرفين عليه، واتهامه بالمساس بالمقدسات، وتمثلت في معايشته العميقة لنصوص القرآن الكريم، والاجتراء على التناص معها بالتوافق حينا والتخالف حينا آخر، مثلما تسمح التقنيات الشعرية المتداولة. وقبل أن نتعرّض لقصيدة / قصة يوسف الشهيرة، لنبدأ بقصيدة أخرى عن سميّة الأول “موســى(1). فقد توهم الشاعر أنه بامتلاكه الاسم يستطيع أن يشارك صاحبه الكليم، ويناجي ربه ويتوه في سينائه، ثم يطلب في النهاية أرض ميعاده كما فعل نبي الله. إنه هنا يسير في قصته الجديدة على غرار الخطوط الأساسية للقصة القديمة، لكنه لن يتمكن من صناعة الشعر بهذا الاتفاق، بل عليه أن يعمد إلى شيء من المخالفة للنموذج الديني المأثور. ولذا؛ يعمد إلى صياغة معبود جديد يختلف عن العجل الذهبي الخوار الذي صاغه قوم موسى، وهو معبود يتألف من كلمتين مدمجتين تشيران إلى معبودته فلسطين المعجونة من نور وماء. يقول الشاعر متّكئا على عصا موسى بعنوان “مآرب أخرى”:
أعطاني سحر الكلمات وكلّمني تكليما
يا الله
هل يلقى عبدك موسى
في الناس نبوّته وعصاه
بيضاء يدي
والطور طيور(2)
سأشقّ البحر وأرفع عن كل الناس الجور
هارون أخي
والشعر شقيقي الأوفى
ولساني لا بد يدور
إني للربّ الأقرب منذور
مذ ألقتني أميّ في اليمّ
ومذ منحتني زوجة فرعون النّور
فأنا المتكلم هنا – صوت القصيدة يلامس ذكرى النبي التوراتي ويتوازى مع معجزاته، بما يماثلها في القدسية في عالم اليوم وأشواقه للحرية والعدل. لكنه يتخذ الشعر شقيقه الأفصح منه لسانا بدلا من هارون. وعندما يصل إلى تشكيل معشوقه يجعل اسمه “نورما” معجونا من ماء ونور؛ إنه:
ماء… من عين الله
سرّ من كنه الأسرار
***
وكما حول القبّة أسوار
وكما فوق الهيكل أشرار
حولك يا ربّي أشباه
ويَنْذُرُ صوت القصيدة إن عادت إليه فلسطين – أرض الميعاد للعربيّ المشرّد اليوم – أن يعود بدوره للربّ ويقيم له الصلوات. وليس هناك أقوى ولا أبلغ من هذا التوظيف الناجح للمقدس الديني؛ لاستعادة المقدس الوطني والقومي. ليس هناك في طوايا هذه المفارقات الجادة أيّ ظلّ للسخرية أو التجديف.
إن الشاعر الفلسطيني الذكي يقاوم قهر الروح وطغيان الأمر الواقع، باستثارة أنبل المكنون في تراثه الأصيل. وإذا كان عدوه الصهيوني المهووس قد أقام حلمه القومي المتعصب على أساس التأويل التوراتي، فإن التوظيف القرآني الناجع يصبح مصدر الرؤية الخلاقة للمستقبل. وتحريم مثل هذا التوظيف على الشاعر تجريد له من سلاحه الروحي. وبدلا من الإدانة؛ حريٌّ بنا أن نشجع الشعراء على التواصل الجمالي المبدع والتغذي الفني الخصب بالنص القرآني المعجز.

*جزء مما أكتبه حاليًا في سيرتي..التي ستكون بعنوان “يد يتيمة”

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *