أحمد بزون *
أطال الفنان موسى طيبا غيابه عن بيروت، وقد استقر في محترفه بمدينة «شارتر» الفرنسية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، متابعاً نشاطه الفني هناك، ومتنقلاً بمعارضه بين عدد من العواصم الأوروبية. وفي تردده الدائم على لبنان كان منشغلاً ببناء متحفه في بلدته الجنوبية قانا، وقد اكتمل بطابقيه، ضاماً عدداً كبيراً من أعماله، التي أنتجها في مراحل مختلفة من حياته الفنية التي بدأت في نهاية الخمسينيات. بالإضافة إلى أعمال آخرين.
معرض موسى طيبا لم يكن استعادياً بالمعنى الشامل للكلمة، إنما ضم أعمالاً تمتد من بداية الثمانينيات حتى اليوم، أي غطى تجربة تزيد على ثلاثين عاماً. كأنما أراد الفنان أن يطلعنا على المرحلة التي غاب فيها عنا، وإن كانت بعض الأعمال من الثمانينيات تصل الحضور بالغياب، فتذكرنا بالأعمال «الفضائية» التي عرضها في بيروت قبل سفره إلى فرنسا. حيث اللوحة عنده تتحول إلى فضاء، يحاول من خلالها التعبير عن ثورة غزو الفضاء واكتشاف الكواكب التي سادت عقد الثمانينيات، بالإضافة إلى أن رغبة موسى طيبا في الاشتغال على الأبعاد الداخلية في اللوحة سبقت ذلك في السبعينيات، وقبلها في نهاية الستينيات، وقد أغرم في توسيع فضاء اللوحة الافتراضي، أو أنه حوّل اللوحة إلى «مسرح فضائي»، عندما راح يصور جموع الناس بقامات قصيرة ليبدو الفضاء من حولهم شاسعاً.
في «فضائيات» معرضه الأخير مساحة للعب الذي يهواه طيبا، اللعب الذي يحول فيه المشهد إلى ثلاثي الأبعاد أحياناً، خصوصاً عندما يستخدم تلك الأشكال الهندسية الطائرة، وأحياناً الأشكال البهلوانية. فالمساحة عنده مسرح لحركة أشكال تجريدية وألوان، لا أكثر، إذ إن لوحة طيبا لا تذهب إلى البحث عن أفكار، ولا إلى التعاطي مع أحداث والتعبير عنها، فهو يذهب إلى حالات انطباعية ولعبة تآليف لونية تنتمي إلى تعبيرية تجريدية، تنقل حالات نفسية أكثر مما تنقل أفكاراً. العديد من الفنانين انتبهوا إلى أن مدرسة التجريد الصافي انتهت، وأن اللوحة باتت مساحة لحضور يتسع لأكثر من مدرسة واحدة، إلا أن طيبا حافظ على عالمه.
في بعض لوحاته الأخيرة يبدو الفنان منحازاً إلى تشكيل كتل لونية فالتة، تتحرك في فضاء اللوحة، كأنما يضعها مكان الأشكال الهندسية السابقة، ربما بحثاً عن حرية أكثر، أو عن أسلوب جديد في ضخ الحركة في فضاء اللوحة. فالحركة هدف أساسي ودائم في لوحة طيبا، الحركة التي ربما بدأت مع تحريك الناس، فكانت لوحته تشكيل لحركة التظاهرات، أو الدفق البشري عموماً، وهي تتابعت في «فضائياته» بحثاً عن سراب، وتعبيراً عن قلق أعمى، ثم ذابت الحركة في لعبة التجريد لتصبح داخلية أكثر، ثم تتحول معها المساحة إلى نوع من التقميش اللوني، الذي يأخذنا إلى مشهد اللوحة السجادة ليس إلا.
يبدي طيبا ولعاً في التعامل مع اللون، فهو عالمه الذي يسبح فيه صبح مساء بالطبع، بل هو العالم الذي يتشكل أمامه ومن حوله كل لحظة. يكاد اللون يكون المنظار الذي يرى من خلاله الطبيعة والناس والحياة اليومية، فالفنان يذوب في اللون ويذوّبه، ليرسم من خلاله هواجسه. على أن لعبة اللون باتت لعبته المفضلة، وقد باتت الألوان تلين بريشته وتسيل وتتشكل بحركة عفوية. فتلقائيته في التلوين لا تذهب إلى الفوضى بقدر ما تصيب في التعبير عن عالمه الداخلي، عن مخاوفه وحزنه وفرحه عموماً. وهو في كل أعماله يُظهر حرفة وحنكة وقدرة عالية على ترتيب بيته اللوني، فهو ملون لبناني من الدرجة الأولى.
في المعرض قرابة سبعين لوحة كسر في بعضها المساحة ببعض الكولاج، ثم كسر في بعضها الآخر الكادر، أو حتى ألغاه، ليقدم لنا قماشة تتحرر من المستطيل أو المربع، في نزوعها للتماهي مع شكل أو رمز، أو حالة من التمزق والريبة
( السفير اللبنانية )