الديكتاتورية الجديدة: نفق مغلق وأفق مسدود .. ولكن ..

(ثقافات)

الديكتاتورية الجديدة : نفق مغلق وأفق مسدود .. ولكن ..

إبراهيم عبد المجيد

 

هذا كتاب جديد للكاتب والصحفي الكبير أنور الهواري صادر هذا العام عن دار “روافد”. وبالمناسبة الكتاب رغم رفعه من ارفف الناشر في معرض الكتاب الاخير لم تتم مصادرته وموجود لدي الناشر وعلي تطبيق ابجد منذ ايام . قرأت من قبل كتابه الرائع ” ترويض الاستبداد” الصادر العام الماضي عن دار “روافد” أيضا وكتبت عنه. معرفتي بكتابات أنور الهواري قديمة ورائعة، من خلال مقالاته في الصحف التي عمل فيها أو تولى رئاسة تحريرها أو تأسيسها، مثل الأهرام الاقتصادي أو المصري اليوم أو الوفد، وأخيرا أتابعه في موقع “مصر 360” . كان “ترويض الاستبداد” عن محاولة المصريين في العصر الحديث منذ محمد علي الحصول على مكاسب ديموقراطية من الحكم حتي ثورة يناير 2011. وجاء هذا الكتاب علي الجانب الأخر. كيف كانت محاولات هذه النظم في “استعباد” الشعب منذ محمد علي ثم “استبعاد” الشعب من معادلة الحكم بعد ثورة يوليو حتى وصلنا إلى الديكتاتورية الآن، التي أخذت من النظم السابقة كل شيئ وزادت فيه بقوة. يمكن تلخيص الكتاب في أن العصر الذي سُمي بالحداثة منذ محمد علي، لم تكتمل تسميته بذلك أو لم تكتمل حداثته، لأنه وهو يتأثر بأوربا في العمارة وتكوين الجيش والصناعة وغير ذلك، لم يتزحزح عن كونه مالكا للأرض والشعب، يحكمهم حكما عائليا، ويحيط بالعائلة الأقارب أو الغرباء من الأترك والجركس وغيرهم . الشعب يظل في خانة العبيد. مفهوم الدولة الحديثة لا معنى له دون ديموقراطية. الحداثة الأوربية التي نتشدق بها في مشروعاتنا لايجب أن تنفصل عن الديموقراطية التي صارت قائمة هناك.

محاولات الشعب في الحصول علي حياة ديموقراطية باءت كلها بالفشل رغم ثوراته، منذ ثورة عرابي إلى ثورة 1919 إلى ثورة 1952 إلى ثورة يناير 2011. طبعا تفاصيل ما جرى بعد كل ثورة. وكيف استطاعت هذه النظم الالتفاف عليها والعودة إلى نقطة الصفر. حظي محمد على بالحكم نتيجة لحركة شعبية وصلت ذروتها ضد الحملة الفرنسية التي بعد فشلها وخروجها، نصَّبه المصريون واليا رافضين فرمان الخليفة العثماني بخورشيد باشا. حظي ابناؤه بعد ذلك بالموافقة العثمانية كتحصيل حاصل، فحين اجتمعت عليه أوربا في اتفاقية 1840 لتحجيم قدراته، والتي كان من أهم بنودها تقليص الجيش ليكون ثمانية عشر ألف جندي، أُعطي الحكم بالوراثة لأبنائه. ومنذ استعان الخديوي توفيق بالإنجليز ضد الثورة العرابية صار صك الحكم من قبل الإنجليز فهم من يعينون الحاكم أو يقيلونه، وتأكد ذلك مع فرض الحماية على مصر ثم بعد زوال الخلافة العثمانية. تفاصيل ذلك مع كل حاكم . لم ينقطع نضال المصريين وخاصة حين قامت ثورة تكاتف فيها الجيش مع الشعب هي الثورة العرابية، ثم ثورة شعبية دون الجيش هي ثورة 1919 ، ثم ثورة يوليو التي قام بها الجيش وحده، ثم ثورة يناير التي قام بها الشعب وحده. بعد أن وقعت ثورة يوليو صارت تستمد صك وجودها ليس من انجلترا التي خرجت من الحرب العالمية منهكة، لكن من أميركا بشكل غير مباشر. أميركا التي احتلت مكان انجلترا في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لكن حظيت ثورة يوليو بالاعتراف بها من الاستفتاءات والانتخابات المزورة التي كانت لا تقل عن 99 % . يأخذ الوضع المصري حتي ثورة 1952 مساحة مهمة يتضح منها كيف كانت الثورة في وقت صار الملك فيه عاجزا فاشلا، وكيف كانت انجلترا مُنهَكة من الحرب العالمية الثانية، وكيف كانت أميركا تطل في الصورة بعصر الانقلابات، وكيف كان حزب الوفد قد قدم أكبر ماعنده من أجل حياة ليبرالية لكن من خلال الكفاح السلمي، حتى انتهي الأمر بالكفاح المسلح في القناة فحدث حريق القاهرة وأُزيح الوفد. باختصار كانت الأرض ممهدة لحركة الضباط الأحرار الذين تأثروا بتيارات سياسية في مقدمتها حزب مصر الفتاة الفاشي والأخوان المسلمين الفاشية وأيضا الحركة الشيوعية. أول وأهم الدروس السارية حتي الآن هو تخلص الضباط الأحرار من كل من ساندهم في البداية، هذا هو مافعله محمد علي مع من قدموه لحكم البلاد على غيره، وهذا هو ما يستمر حتي الآن. يظهر هذا بجلاء بعد ثورة يونيو 2013 وإزاحة الإخوان، فأصاب الكثيرين ممن أيَّدوا ثورة يونيو الوهن أو السجن أو النفي أو الصمت. لقد كان المجلس العسكري هو الحاكم وتم تقديم الإخوان ليتم التخلص منهم. لم يفهم الإخوان ذلك ومشوا في طريق التملك والتمكين وحين ثار الشعب ضدهم سواء بأفكار شباب يناير البريئة أو الدعم الخارجي، عاد الحكم العسكري إلى مقدمة المشهد. استعان الضباط الأحرار بعد يوليو 1952 بنفس الطريقة الخديوية. أصبحت مصر خديوية علي رأسها باشوات وبهوات جدد من العسكريين والمقربون منهم. أعطاهم الحكم الجديد المراكز الاجتماعية والسياسية واليد العليا فحدثت هزائم متكررة مثل حرب 1956 وحرب 1967 وحرب اليمن، وتفصيل ذلك كله. كيف كانت هناك نهضة اقتصادية واجتماعية أيام عبد الناصر، لكن علي جبهة الحياة السياسية فالرئيس هو الملك والحاكم الفرد. وحين وقعت حرب 1973 أعادت الحرب العظيمة للجيش قيمته وللوطن، لكن مالبث النظام أن عاد إلى قديمه وظلت الانتخابات المزورة والاستفتاءات هي رخصة وجوده. الأمر أخذ أبعادا أكثر خطورة بعد 30 يونيو 2013 وحتي الآن. كانت الخديوية سمة العصور قبل 1952 فيها الخيوي هو الدولة فصارت الخديوية سمة الحكم بعد يوليو 1952. تفاصيل الصراع بين الضباط الأحرار وكيف كسبها عبد الناصر حتي وهو مهزوم في كل الحروب، وخاصة صراعه مع المشير عبد الحكيم عامر. شهادات موثقة من مذكرات لبعض القادة مثل عبد اللطيف البغدادي والفريق محمد عبد الغني الجمسي عن خطأ اشتغال الجيش بالسياسة وكتّاب مثل طاهر البشري وعبد العظيم رمضان وهشام يونس وغيرهم ورأيه في بعضها.

مقارنات مهمة جدا بين ديكتاتورية محمد علي التي واكبتها حروب توسعية، وديكتاتورية يوليو التي واكبتها هزائم وحروب لا معني لها. بين ديكتاتورية الخديوي اسماعيل التي واكبتها مشاريع حداثية في البناء والتعليم، وديكتاتورية الآن التي واكبتها طرق وكباري ومدينة جديدة في الصحراء ومسألة تيران وصنافير ومياه النيل وأثيوبيا.

مايحدث الآن زاد عن كل ما قبله، وتأصيل لديكتاتورية جديدة يمكن أن تظل مائة سنة، لكن هناك دائما أمال فيما نشرته ثورة يناير رغم فشلها بسبب ما أحاط بها من مؤامرات، ومن أخطاء لها علي رأسها افتقاد القيادة.

الوضع القديم الذي ناضل المصريون ضده عاد بعد ثورة يوليو 1952. فالدولة المملوكية التي انهاها محمد علي عاد هو بها، وعادت بها ثورة يوليو، وعادت الدولة الخديوية بعد التخلص من آخر ابنائها وهو فاروق. صار الرئيس حاكما فرديا مهيمنا ومسيطرا وقابضا فوق الدولة التي صارت جهاز ضبط وسيطرة فوق الشعب أكثر من كل وقت. وكل مظاهر الديموقراطية من مجالس نواب أو دستور صارت في يد الحاكم الفرد ولصالحه أكثر من كل وقت!. تفاصيل ووقائع تاريخية واستقصاء بحثي عظيم في كل ما يتحدث عنه انور الهواري . ينهي الكتاب بما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد بما لايمكن كتابته الآن في الصحف، عن القواعد التي صارت بديهية في الغرب ولم تزل غريبة عندنا أو منفورا منها، في شكل خمسة وعشرين سؤالا عن مفهوم الأمة أو الشعب وماهي الحكومة وماهي الحقوق العمومية وماهي الحقوق الشخصية وماهو شكل الحكم الأصلح وماهي صلاحيات الحكومة وماهي حقوق الحكام وسؤال الضرائب والجباية وغير ذلك، حتي يصل إلى السؤال الأخير وهو مبحث السعي في رفع الاستبداد وكيف يكون. وينتهي الكاتب متفائلا رغم أن أمام المصريين معركة طويلة الأنفاس، لكن يجب أن تكون دون تعجل ودون يأس ودون فتور للهمم والعزائم، وهناك أمل رغم عنوان الكتاب.

شاهد أيضاً

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

(ثقافات) الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة! ساسي جبيل   يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *