عباس بيضون *
في مصر ما عادت أخونة الدولة وأخونة المجتمع مجرد تهمة ترمى في وجه الأخوان، ما عادت مجرد توجس واستباق. ما عادت مجرد مسألة سجالية. المسألة قد تكون نفسها في تونس وقد تكون بتفاوت في تركيا. لا ننسى ان المظاهرات الأخيرة اتهمت العدالة والتنمية بالتسلط وتلك التظاهرة، التي حمل فيها المشاركون علب البيرة، معبرة. أقول الأخونة ولا أقول الأسلمة فهذه المجتمعات مسلمة على طريقتها منذ مئات السنين وقد تعرض إسلامها لما تعرضت له من تطورات امتصها وتعايش معها. انها مجتمعات مسلمة في القرن الواحد والعشرين. أما إعادة تعميدها وتجديد إسلامها فنابعان، أياً كانت أطروحتهما وخطابهما، من نفس تكفيري يرفض العصر ويعتبره على نحو ما جاهلية جديدة. ليس الجهاديون وحدهم تكفيريين فالإسلام السياسي الداعي إلى رد المجتمعات إلى الإسلام والمشكك بإسلامها الواقعي إنما يصدر عن أطروحة تفكيرية. لعل موضوعة الجاهلية الجديدة، مضمرة أم معلنة، هي ملتقى دعاة الإسلام السياسي. تجديد الإسلام والعودة به إلى منابعه الأولى هما قاعدة هذا الفكر. ولأن النموذج الإسلامي المنشود غير واضح تاريخياً. إذ لا يمكن البحث عنه في الدول التي قامت باسم الإسلام، أموية أو عباسية أو فاطمية أو مملوكية، فإن النموذج المنشود ليس واحداً، ويتعدد بتعدد الفقهاء وقد يصل إلى حرفية تامة.
المهم أن أخونة الدولة وأخونة المجتمع في مصر وغير مصر مسألة جدية والصراخ المبكر ضدها ليس فقط دعاوة وليس فقط تعبئة وليس فقط شعاراً، فالملاحظ أن هذا الصراخ منذ بدأ لم يؤثر في سياسة الأخوان ولم يحق أي تعديل لها. الديموقراطية تقضي بأن يتفاعل الحاكم مع شعبه، والديموقراطية تفترض أن يعنيه الصراخ ويعنيه الحشد المعترض، والديموقراطية تتطلب سياسة مرنة تقبل الجرح والتعديل، بل والتراجع والتغيير. أما ما يجري في مصر خصوصاً فيقول عكس ذلك: الحكم ماض في سياسته والناس ماضون في اعتراضهم وصراخهم. الحكم لا يتأثر بالاعتراض والصراخ والناس يزعقون ويتحركون جهاراً ويخرجون إلى الشوارع. لم يتأثر الحكم حتى حين تتحول المواجهات إلى مجابهات دموية، وحتى حين تتحول إلى شغب وتحطيم. انه ماض في طريقه وخطابه لا ينزل عن حرف فيه. لو كانت الديموقراطية هي فعلاً أساس الحكم، في نظر الأخوان، لكانوا اكترثوا، أيما اكتراث، بحراك الشارع، ولكانوا حساسين فعلاً لتموجاته ومزاجه، ولكانوا باشروا منذ البداية حواراً حقيقياً معه. أما الذي حدث إلى الآن فهو مزيج من اللااكتراث والتحايل والالتفاف. منذ الإعلان الدستوري حتى الاستفتاء إلى قانون القضاء لم يفعل الأخوان سوى ذلك. لم يكن بينهم وبين الشارع تفاعل وحوار بل معركة دائمة وبكل الوسائل.
تعامل الحكم الأخواني مع الشارع المعارض على أنه عدو ولم يبال بتزايد دينامية هذا الشارع وحجمه. لم يبال بتوسعه وامتداده، كما لم يبال بتطوراته. قد يبدو هذا لأول وهلة تعنتاً وغباوة سياسية، قد يبدو تصلباً في غير موضعه، قد يبدو سياسة غير حكيمة. كل هذا جائز لو كان الأخوان، الذين أتوا إلى الحكم بطريقة ديموقراطية، ديموقراطيين فعلاً، ويتحسبون من أن يخرجوا كما اتوا بطريقة ديموقراطية. لكن الديموقراطية ليست من تراث الأخوان ولا في تربيتهم ولا في توجهاتهم وتطلعاتهم.
هناك نظرية الجاهلية الجديدة وهؤلاء الذين يحتشدون في الشارع ضد الأخوان هم في نظرهم أهل هذه الجاهلية الجديدة، التي من رسالة الأخوان أن يخلصوا المجتمع منها. ليس غريباً في نظر الأخوان أن تنتفض ضدهم هذه الجاهلية الجديدة. انها تراث أجيال وقرون ابتعد فيها المجتمع عن الإسلام وتوالت عليه الانحرافات والمفاسد، وإذا خرج الناس إلى الشوارع ضد الأخوان فهذا لأنه مفسودون ولأن ابتعادهم التاريخي عن الإسلام أضلّهم وحرفهم وشوّههم. الذين يجابهون الحكم الأخواني هم فاسدون مفسدون إذاً. انهم أبناء الجاهلية الجديدة وطبيعي أن يكون لهذه الجاهلية أعوان وأنصار، ومن الطبيعي أن تكون أفسدت الواقع وشوهت ونخرت أساساته، فلا عجب إذا خرج الناس واحتشدوا ضد الأخوان فقد بعدت الشقة بينهم وبين الإسلام وبات الإسلام ثقيلاً عليهم، بل باتوا في القرارة أعداءه وخصومه فالجاهلية الجديدة في نظر الأخوان ملكت على نفوسهم واستعبدتهم وأخرجتهم عن الجادة وأبعدتهم عن الحق، فإذا تحركوا في الشارع واحتشدوا ضد الأخوان، فإنما يتحركون ضد الإسلام، وإنما يحركهم الشيطان. وإنما هي ضلالات ورواسب القرون، انه الكفر فلا داعي لمحاورته وللتفاعل معه ولا داعي للامتثال له والتعديل من أجله ومسايرته. انها الجاهلية الجديدة تغلي وتفور وتزبد فلنتركها ـ يقول الإخوان ـ في غليانها ولنبق نحن في طريقنا المستقيم لا نبدله ولا نغير فيه مهما علا الصراخ. تلك معركة جديدة بين الإسلام والجاهلية فلا بأس من خوضها. أما صلة الإسلام بالإعلان الدستوري والاستفتاء على الدستور وحق التصويت للجنود ورجال الأمن وقانون القضاء فمسألة غير مطروحة. الإسلام هو إسلام الأخوان وما عداه جاهلية وكل ما يقرره الأخوان هو من الإسلام وما يردونه فهو ضده.
هل الأخوان ديموقراطيون ما داموا أتوا عن طريق الديموقراطية. لن نعود إلى تاريخ الأخوان ولا إلى تراثهم. الأخوان هم الأخوان الآن لكن السؤال الذي يبقى هل يخرج الأخوان عن كونهم حزباً أيديولوجياً. واستتباعاً فهم حزب ثوري، الأحزاب الأيديولوجية لا تحكم لأربع أو ست سنوات، والأحزاب الأيديولوجية تأتي لتبقى ولتؤدلج الدولة وتؤدلج التعليم وتؤدلج الثقافة وتحتكر الحياة السياسية وتنفرد فيها. لم يستطع الأخوان بطبيعة الحال ان يحتكروا الحياة السياسية في مصر فقد جاؤوا في أعقاب ثورة ليست لهم، لكن حلم الأدلجة الشاملة والانفراد بالسلطة لن يفارقهم. أحزاب كهذه لا تفهم الديموقراطية ولو أتت عن طريقها فمن الواضح أن الحركة التي تعتبر نفسها الفئة الناجية وتعتبر نفسها على ذلك معلمة الشعب، لن تنظر إلى معارضيها الا على انهم قصار وجاهليون، على انهم الفئة الضالة لذا لن تستمع إليهم ولو تظاهرت بالسماع، وستتحايل عليهم طال الوقت لتفرض برنامجها. الدولة في يدها، إذاً هي ملكها. الدولة دولتها وينبغي أن تبقى لها، انها تجديد الإسلام وإعادة الناس إلى الإسلام وهذا يعني ضمناً الانتساب للأخوان أو الانتصار لهم. جاء الأخوان عن طريق الديموقراطية لكنهم لن يقبلوا بالخروج عن طريقها. ها هو شأن الأحزاب الأيديولوجية. رفض البلاشفة نتيجة الانتخابات وألغى النازيون والفاشيون الانتخابات. الثورة تعني النيابة عن الشعب والاحتجاج بالمستقبل، لا يبدو ان الأخوان يفكرون بطريقة أخرى. لقد ربح الأصوليون بالطريق الديموقراطي لكن هذا الطريق لن يكون سهلاً ولا معبداً لإخراجهم من الحكم.
– السفير