(ثقافات)
الفرار إلى جهنم
يحيى القيسي*
ساهم بعض الأدباء والنقاد العرب في حملة تضليل مكشوف، قصيرة الأمد، لطرح القذافي الطاغية أديباً عبر الاحتفاء بمجموعته القصصية ذات العنوان الطويل المثير للاستهجان” القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء” التي أصدرها عام 1993، وأذكر في هذا السياق أنّ مجموعة منهم تداعوا إلى مؤتمر تمجيدي لهذه المجموعة ولصاحبها، ونقل لي أحد الذين ذهبوا هناك نادماً من أن ” الأديب القائد” قد استقبلهم في خيمة ونظر إليهم نظرة دونية، وقال بما معناه إنكم كلكم جئتم من أجل كتابي هذا..!
أي بنوع من الاستخفاف، فهو على ما يبدو لم يكن مصدقاً أنه أصبح أديباً بين ليلة وضحاها، ولكن الأدباء العرب الحاضرين، وبعضهم من الأسماء المعروفة ” ستكشف الأيام أفعالهم” صاروا يدبّجون له المدح، ويزينون له ما كتب طمعاً بالمكافأة المالية، التي تعطى في العادة، وقد يقول قائل إن أحدا من الأدباء الليبيين كتبها له، ولكني أشك بالأمر لسببين أولهما ركاكة أسلوبها، وفقر أفكارها، وضعف لغتها، وثانيهما أن طبيعته الديكتاتورية تأبى أن يشاركه احد بها، ولكني أميل إلى أنه كاتبها مع تحريرها من قبل كاتب آخر، لأنها تشبه مقالات بائسة أو خطب نارية مشتتة، وعلى أية حال فإن قراءة لها مجددا في هذه الأيام تظهر الكثير من جوانب شخصية هذا الطاغية وتناقضاته وخوفه من الجماهير، وطبيعة توجهاته التي قادت به إلى الإغلاق على شعبه على مدار أربعة عقود ومنعهم من تعلم اللغات وكرة القدم وكل تجليات الحرية بمعناها الإنساني البسيط، وصولا إلى قمعهم بمذابح مبيته هذه الأيام، إضافة إلى الفقر والمعاناة في بلد نفطي بامتياز، وغني بطريقة تجعل من ليبيا سويسرا العرب لو قيض لها القائد السوي ذي النظرة الحضارية والأفق الإنساني..!
استوقفتني قصة” الفرار إلى جهنم” ضمن تلك المجموعة، والتي تظهر الجانب الشيطاني من الرجل وأفكاره، والتي يقول فيها ” سوف أروى لكم قصة فراري إلى جهنم، وأصف لكم الطريق الذي يؤدى إليها، ثم أصف لكم جهنم ذاتها، وكيف رجعت منها مع نفس الطريق.. إنها مغامرة حقا، ومن أغرب القص الواقعية، وأقسم لكم أنها ليست من صنع الخيال.. إني هربت بالفعل إلى جهنم مرتين؟ فراراً منكم، ولكي أنجو بنفسي فقط، إن أنفاسكم تضايقني.. وتقتحم على خلوتي.. وتغتصب ذاتي..”، ويتابع في مقطع آخر قائلاً ” الطريق إلى جهنم ليست كما تتوقعون.. وكما وصفها لنا الدجالون الذين يصورونها لنا من خيالهم المريض، أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين، وتمكنت من المنام والراحة في قلب جهنم، وأقول لكم إني جربت ذلك، وكانت أجمل ليلتين في حياتي تقريبا هما اللتان قضيتهما في قلب جهنم بنفسي فقط.. إن ذلك أفضل عندي ألف مرة من معيشتي معكم..”.
ولعل قارئ هذا النص المشوش لزيارة جهنم التي يقسم على أنها تمت وبشكل واقعي، إضافة إلى قراءة نصوصه الأخرى وما بين سطورها من الفظائع يكتشف ذلك العالم السفلي الذي طلع منه الطاغية، وأن ما يبدو لنا على شكل بشر مثلنا قد يكون قادما من عوالم ظلامية، أتت لأداء دور دموي معين في الأرض، فالعالم في النهاية تتصارع فيه قوى النور والظلمة منذ خلق الله الشر والخير وقدرهما في هذا العالم، وثمة من يبيع نفسه إلى الشيطان، ويغرق في الطاقة السلبية التي تنشر الشر والسواد في هذا الكون، وثمة من يختار طريق الرحمن بالنور والإشراق المبين..!
وفي كل الأحوال فإني أعود إلى ما بدأت به فأقول بأنّ على المثقفين والأدباء العرب أن لا يزينوا للظالمين ظلمهم، ولأصحاب الشرور شرورهم، ففعل الكتابة أمر خطير، وتنويري، وكل من يعبث به، ويجند قلمه لهذه المهام الدنيئة من أجل دراهم معدودة، فهو في النهاية ينتمي إلى هذا العالم الدوني، ويكون قد حجز له تذكرة للذهاب إلى جهنم كما فعل الطاغية في كتابه، وأصبح من الملعونين من القراء وجماهير الناس الذين ينتظرون منهم الخلاص، فمن لم يستطع قول كلمة حق أو أن يدعو للخير أو للجمال فليصمت إلى الأبد..!
-
نشرت في الرأي الأردنية 2011