عبد اللـه رضـوان.. غياب البسمة الدافئة والحرف الجميل

(ثقافات)

عبد اللـه رضـوان.. غياب البسمة الدافئة والحرف الجميل

 

نايف النوايسة

      تفقدُ قاطرةُ الثقافة في الأردن بين الفينة والأخرى عدداً من أعمدتها إما بالمرض أو الهجرة ولكن أقسى حالات الفقد على النفس هو الموتُ الذي خطف العديدين من الأصدقاء في السنوات الأخيرة، وإذ يحرص الإنسان على تعميق العلاقة مع بقية أركان هذه القاطرة وتأثيثها بالدفء والفعل الثقافي المتواصل فلا مفر من الألم والفجيعة عند فقد أحد الأصدقاء حينما يُلوّح بأشرعة الرحيل إما فجأة أو على مهل ولم يزل يتعهد غرس الثقافة بالعناية وتحسين العطاء وإنضاج النتاج، دون كلل أو تذمر أو وهن.

   المرحوم عبد الله رضوان هو أحد المترجلين من القاطرة، وكان شجرة متألقة لا تتوانى مطلقاً عن العطاء وطرح الثمر.. هو ربيع دائم بخلقه، وحسن معشره، وحرصه على دوام العلاقة مع أصدقائه وغير أصدقائه.. ربيع يانع بحرفه الجميل سواء متحدثاً أو شاعراً أو ناقداً.. هو فقيد بحق لأنني ما عرفته طوال الخمسة والثلاثين سنة الماضية إلاّ رمحاً لا ينكسر ومثقفاً لا يتبدل أو يتأرجح وصاحب موقف ثابت وما عُرِف عنه أنه حاد عنه نحو فرصة يقتنصها أو موقعاً ينشده.. هو قريب من النفس وحق على النفس أن تتفجع لفقده.

   عرفتُهُ في مطلع الثمانينيات من خلال رابطة الكتاب؛ مثقفاً حاضر الذهن، مطبوعاً بميسم القضية العربية الواحدة( فلسطين)، لا يساوم على مبادئه ولا يبيع ذاته المثقفة لقاء مصلحة عابرة أو مكسب سريع، لذلك بقي هو هو بلون واحد لا يزداد إلاّ أصالة مع مرور الوقت، وكنت حينما أستمع إليه أجده الأديب اللبق وصاحب العبارة الساحرة واللغة النقية، والموضوعيَّ في قراءاته النقدية اللمّاح في إشاراته الحوارية، وأدركت من ذاك الزمن بأنني أتعاطى الصداقة مع مثقف عميق واعٍ واسع الاطلاع والمعرفة على فنون الثقافة المختلفة وألوان الأدب المعروفة، فضلاً عن تماسه الشديد مع الشأن السياسي بكل مضامينه.

   وتوطدت العلاقة مع المرحوم حين عمل بوزارة الثقافة، وكنتُ قد تركتها منذ فترة، وتوثقت الوشيجة بيننا من خلال اللقاءات التي احتضنها مكتبه في الوزارة الذي أصبح ملتقىً لأصدقائه من مثقفي الأردن والعرب وعنواناً، ويبدو أن حلاوة معشره التي هي مفتاح شخصيته قد أسرت أصدقاءه ومحبيه فبكوه بألم وحرقة يوم وفاته، وعدّوا غيابه فجيعة مؤلمة للحركة الثقافية في الأردن والوطن العربي.

   بعد أن ترك المرحوم وزارة التربية والتعليم في مطلع التسعينيات واستقر في وزارة الثقافة وهو لم يزل عضواً نشيطاً برابطة الكتاب جرى الحديث في مكتبه حول تأسيس فرع للرابطة في الكرك، وأخذتُ على عاتقي الاتصال بأعضاء الرابطة في الكرك والجنوب وبخاصة الزملاء في جامعة مؤتة ولقيت الفكرة ترحيباً حسناً عند الجميع، واتفقنا مع المرحوم عبد الله رضوان على عقد اجتماع في الكرك بتاريخ 24/1/1997م للشروع بتأسيس هذا الفرع، لكننا أجلنا البحث فيه إلى ما بعد شهر رمضان المبارك، فالتقينا في 4/4/1997م بحضور المرحوم رضوان في الكرك، وتم انتخاب لجنة لإدارة الفرع من الدكتور يحيي عبابنة رئيساً وعضويتي والصديق زكريا المحادين، وحاولنا طوال تلك الفترة عمل شيء يُذكر ولكن لم نستطع، فترك الدكتور يحيي رئاسة اللجنة ليحل مكانه الشاعر حكمت النوايسة وحاولنا جميعاً فعل شيء لإنهاض هذا الفرع من كبوته التي رافقت ولادته لكن الحظ العاثر لهذا الفرع لم يمكنّا من عقد مجرد اجتماع وكانت آخر محاولة لذلك هي الدعوة لاجتماعٍ في 11/12/1997م ولم نوفق، عند ذلك جُمّد هذا الفرع حتى الآن..

   كل ذلك لم يؤثر على طبيعة الصلة مع المرحوم وكنتُ قد قدمتُ مخطوطة معجمي( أسماء الأدوات واللوازم في التراث العربي) لوزارة الثقافة أواخر سنة 1998م لطباعته، وكان المرحوم رضوان آنذاك مديراً للنشر فيها، فوجدت ترحيباً لديه لنشر مثل هذا العمل بعد أن علم باشتغالي على إعداده أكثر من عشر سنوات، فوقّعت مع الوزارة اتفاقية عقداً لنشره، وكنتُ آنذاك أرغب بنشر بعض الصور التوضيحية في المعجم غير أن المرحوم ابلغني بعدم وجود مخصصات لمثل هذه الغاية، وصدر المعجم أخيراً ضمن المشروع الثقافي للوزارة( كتاب الشهر).

   ويترك وزارة الثقافة ليتسلم منصب مدير الدائرة الثقافية بأمانة عمان الكبرى مطلع سنة 1999م، ويبدو أن هاجس مشروع الرواد الكبار من المثقفين يلح عليه، فقد تلقيت منه في الثالث من كانون الثاني من العام نفسه مكالمة هاتفيه أوضح لي فيها انه يسعى لعقد ندوة كبيرة عن المرحوم الشاعر حسني فريز في أواخر شهر نيسان من عام 1999م، وكان يعرف عمق علاقتي بالشاعر خلال فترة عملي بوزارة الثقافة وطلب مني كتابة بحث عن الشاعر وتمّ ذلك، ولكن تأجيل موعد انعقاد الندوة في مركز الحسين الثقافي إلى ساعة متأخرة اضطرني إلى الاعتذار، المهم في الأمر أن هاجس الرواد الكبار الذي سكن خاطر المرحوم تبلور ليكون منتدى رفيع الشأن ويصير هو مديره التنفيذي في ما بعد.

   خلال فترة إدارته للدائرة الثقافية في الأمانة كان له الفضل الكبير بطباعة أكثر من كتاب من كتبي وهي: مجموعتا ( رحيل الطيار، ووشم الصباح) القصصيتان، وكتاب( نقوش على كف الأقحوان).

   نشطت وزارة الثقافة زمن وزيرها الدكتور عادل الطويسي فأسفر ذلك عن تشكيل اللجنة التوجيهية العليا للثقافة وكنت أحد أعضائها، وعقدت اجتماعها الأول في 20/4/2006م وكنت والمرحوم متجاورين في الاجتماع، ومتوافقين على فهم واعٍ لجدول أعمال الاجتماع في ما يخص المدينة الثقافية والتفرغ الإبداعي ومكتبة الأسرة ونحو ذلك من محاور الاجتماع، والتقينا مرة أخرى بوزارة الثقافة في السابع والعشرين من الشهر نفسه لمناقشة خطة التنمية الثقافية للوزارة، ولم أكن أعلم بأنني سأكون في يوم من الأيام المنسق العام للكرك مدينة الثقافة الاردنية2009م، والمرحوم المنسق العام للزرقاء مدينة الثقافة الاردنية2010، وقد اتصل معي مراتٍ للحضور إلى الزرقاء والحديث عن نجاح تجربة المدينة الثقافية في الكرك وحضرت فعلاً أنا ومدير ثقافة الكرك الأستاذ خالد البرقان وبينا نقاط القوة والضعف في هذه التجربة وكان حضور الأستاذ محمد المشايخ فاعلاً في كل مشاركاتنا في الزرقاء، وتوجنا جهدنا في تجربة المدن الثقافية بلقاء موسع في الجامعة الأردنية صبيحة السادس من تموز عام2010م بدعوة من رئيسها ليتحدث كل منسق عن مدينته.

   قبل ذلك وفي مطلع آذار 2008م هاتفني المرحوم عارضاً علي مشروعاً ثقافياً تراثياً تنوي دائرته الثقافية في الأمانة تنفيذه وهو مشروع حكاية جدتي وطلب مني وضع تصور شامل لهذا المشروع، واتفقنا على اللقاء في مكتبه ومعي التصور، وتم الأمر على النحو الذي خططنا له وقمنا مع مجموعة من الباحثين وبرئاسة الدكتور هاني العمد بجمع أكثر من(1000) حكاية شعبية من كافة مناطق الأردن، وتابع المرحوم بعد ذلك مراحل تنفيذ المشروع.

   بعد إنشاء منتدى الرواد الكبار حمل المرحوم رضوان على عاتقه مواصلة الجهد في رفد الحركة الثقافية بقوة، والذي يتابع نشاطات المنتدى يدرك عمق هذا الجهد وأهميته؛ فهو به متواصل مع كافة المثقفين بمختلف اهتماماتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وهو به قائم على حالة حوار واعية حول قضايا محورية في الثقافة والتراث والسياسة والتربية والفن والحياة الاجتماعية ونحو ذلك، هذا النهج الذي سلكه المرحوم هنا لم يختلف مطلقا عن نهجه في كل المواقع التي شغلها.

   وحين نطّلع على رسالة المنتدى الثقافية نجد اهتماماً ملحوظاً بالمكان والشخصية وسير المبدعين وتجاربهم، واستطاع المرحوم رضوان من النهوض بأعباء هذه الرسالة وترجمتها ترجمة عملية فاعلة بتنظيم عشرات الندوات واللقاءات وكنت من المشاركين في أربع منها حول الكرك في ذاكرة المكان  بورقة رئيسة عنوانها( الكرك سيدة العصور)سنة 2010م، وعن الدكتور هاني العمد بشهادة ثقافية عنوانها( الدكتور هاني العمد: الأخ والصديق والمثقف الأصيل) في نيسان2012م، وعن المرحوم روكس بن زايد العزيزي بورقة عنوانها( روكس بن زايد العزيزي ابن مادبا الخالد) في أيلول سنة 2012، وعن المرحومة رفقة دودين بورقة عنوانها( رفقة: ما زلنا نذكرك) في شباط سنة 2014م.

   ولا تنتهي العلاقة مع المرحوم رضوان بانتهاء فعالية ثقافية هنا أو هناك وإنما تستمر من خلال الاطلاع المتبادل على النتاج الثقافي بينه وبين زملائه وأنا من هؤلاء، وأعلم أنه قرأ لي أكثر من كتاب وفعلت مثل ذلك باطلاعي على العديد من مؤلفاته، ويسعدني أن أقدم نصاً من أحد دواوينه في هذه العجالة التي استذكر بها صلتي الطويلة معه.

   أهداني المرحوم سنة 1995 نسخة من ديوانه( يجيئون.. يذهبون.. وتظل الحجارة) الصادر في دار الينابيع للنشر والتوزيع وضم ست عشرة قصيدة استوقفتني جميعها ولكنني تلبثت طويلاً عند قصيدته التي عنوانها( ويكون أن يرثي الشاعر نفسي) التي كتبها في كانون الأول سنة1992م، أي قبل وفاته بثلاث وعشرين سنة، وللتأريخ دلالته على ما استكن في نفس الشاعر، بمعنى أنه يريد أن يصرح للمتلقي بأن الموت يترصده اليوم أو غدا فما جدوى الحياة إذاً؟؟ أهو قلق الموت؟ أو انعدام الجدوى من هذا الحراك الذي لا يقنع ولا يحقق شيئاً؟؟ هي نفثات شاعر استشرف المستقبل من قنطرة الواقع فبادر مصافحاً الموت بهذه الرثائية وهو لم يزل يعانق الحياة بقوة.. وقد سألته حينذاك عن هذا الوجع الذي يسكنه فأفرغه في هذه القصيدة، فقال لي مبتسماً: ابحث عني فيها فإن وجدتني فلك أن تدعي ما تريد بأنني ما زلت حياً.. ابتسمت بدوري وترحمت عليه وعلى نفسي.. ومن الأجدى أن أضع القصيدة أمامكم لنبحث فيها عن المرحوم الذي مات قبل ثلاث وعشرين من وجهة نظري.

ما الذي تُحدِثُ الأرض بعدي

ولستُ سوى عاشقٍ

شاغلَ العمرَ والناس،

مُستقبِلاً، إرثَ جَدي

وأحلامه.. وانكساراتِهِ

بقايا مُهلهلةً كالرياح

وتَتْرى عليّ المصائبُ من كل حدّ

   السؤال الذي طرحه المرحوم في مطلع قصيدته مشروع والإجابة عليه متعالقة معه في بقية القصيدة، فهو كالمتنبي شاغل الناس والعمر سنيناً وحمل على عاتقه إرثاً صعباً تركه الأجداد وتلقى المصائب وهو صامد وصابر.

ما الذي سوف يبقى ورائي

سوى ضجّة المُدُنِ المستباحةِ

عُرْيِ الشوارع،

دمعِ النساء اللواتي رسمتُ على جيدِهِنُّ نجوماً مُشاغبة

وصهيلاً تركتُ،

وعُمْراً ضلالاً مضى ليس يُجْدي

    ويلح عليه السؤال مرة أخرى، وليس ثمة فرق بين( بعدي) في المقطع الأول و( ورائي) في المقطع الثاني سوى دلالة كل كلمة على مسألة مفارقة الدنيا؛ ففي الأول ارتبطت( بعدي) بإرث الجد وأحلامه وانكساراته، وهي ضياع الأرض وتوالي المصائب على الشعب الفلسطيني، وفي الثاني عبّر في كلمة( ورائي) عمّا يخص الشاعر في حياته الشخصية، والتي انقضت بلا جدوى.

ألستُ أنا الكل والكل وحدي

فماذا ستجترح الأرض بعدي

أتطلعُ شمسٌ على بشر لم يَرَوا صورتي!!

ويرقص غيمٌ على أفق لا أراهْ

أتنمو قِعال الكروم لِتسقي سوايَ

ويضَّوعُ الزَهْرُ من أجل غيري

أتعشقُ أنثى.. وقد وُسِّدتْ هذه الأرض لَحْدي..

  ويسوّغ لغيابه بقضية فلسفية هي( الكل جزء والجزء كل)، بمعنى أن غيابه سيؤثر على سنن الأرض والكون، وما دام الأمر كذلك فلا فائدة من الاستمرار بهذا العذاب والمعاناة.. لا بد من الغياب.

لا..

كل شيء عدايَ هو الظِّلُّ

.. يقفو خطايَ

ويلهثُ نحو جنونِ هوايَ

ألستُ أنا سارقُ النارِ

                           …. والكلُّ ضدّي

فماذا سيبقى على الأرضِ…

…. بَعْدي

     وهنا يتأسّى بقصيدة( سارق النار) للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي وسارق النار هو بروميثيوس في الأسطورة اليونانية وقد عطف على البشر فسرق لهم نار الآلهة وعلمهم كيف ينتقعون بها ويستضيئون بنورها فعاقبه كبير الآلهة زيوس بأن صلبه عله جبال القوقاز وسلط عليه نسراً ينهش كبده في النهار، فإن أتى الليل التأمت جراحه ليعود النسر ينهش كبده في اليوم التالي حتى خلصه هرقل من هذه المحنة.

   ومثله المغني الأثيني هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، وفيرجيل الذي كان قائداً لدانتي صاحب الكوميديا الإلهية في العالم الآخر، وأبو العلاء المعري وطه حسين الذي غامر في الظلمات ورحل إلى باريس ليعود إلينا بقبس من نورها.

   وكأنني أرى المرحوم رضوان في هذه القصيدة قاصداً نفسه بسارق النار بروميثيوس فيعلن غيابه ليرتاح، رثائية موجعة مبكرة.

   رحم الله الأخ والصديق المرحوم عبد الله رضوان الذي شاغل الدنيا وقلوب أحبائه ومضى بعد أن ترك سيرة عطرة من الأخلاق والنتاج الأدبي الرفيع.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *