ترك غياب الشاعر محمود درويش الذي رحل قبل سبع سنوات، شكلاً من أشكال الفاجعة، لدى جمهوره العريض، سواء داخل فلسطين المحتلّة، أو في البلاد العربية ودول العالم. لم يكن درويش ليترك التّحوّلات التي يمرّ بها الشّعب الفلسطيني أو الأمّة العربية، دون أن يساهم في مقاربتها من خلال شعره، فقد كتب عن مأساة (تلّ الزّعتر) في العام 1976، وعن الصمود الفلسطيني العظيم إبّان الغزو الصهيوني للبنان في العام 1982. عن خروج الفدائييين بعد ذلك وعن مجازر صبرا وشاتيلا. كما كتب أيضاً عن الانتفاضتين الأولى والثانية.
عن هذه التّحوّلات، ترك درويش بين أيدينا عدداً من النّصوص المهمّة، التي استقرّت عميقاً في الوجدان العربي، مثل: أحمد الزعتر، قصيدة الأرض، مديح الظلّ العالي، قصيدة بيروت، حالة حصار، وغيرها الكثير من النصوص. بعض هذه النّصوص طاول تأثيره الكيان الصهيوني، كما حدث مع قصيدة (عابرون في كلام عابر)، التي أدّى نشرها إلى تشكّل حالة من الفزع في الكيان الصهيوني، وإلى مناقشتها في الكنيست الإسرائيلي.
في السّنوات السبع التي تلت رحيل درويش، صرنا لا نكاد نعثر على نصوص شعرية عربية تقارب ما يحدث، وتشتبك معه، كما فعلت قصائد محمود درويش من قبل. في هذه الفترة شنّت الآلة العسكرية الصهيونية أكثر من حرب مدمّرة على غزّة. في هذه الفترة اشتعلت ثورات الربيع العربي، في عدد مهم من البلدان العربية: في كلّ من تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، وقد أطاحت بالعديد من الأنظمة الدكتاتورية في هذه البلدان، قبل أن تتحوّل هذه الثورات إلى نوع من أنواع الحروب الأهلية الضارية.
في هذه الفترة أيضاً شهدت البلدان العربية أضخم الهجرات الجماعية التي تمّت في التاريخ الحديث، والتي انطلقت من الشواطئ العربية في تونس والجزائر وليبيا ومصر وسورية والمغرب، مخترقةً عباب البحر الأبيض المتوسّط باتّجاه أوروبا. وخلال تلك الرحلات المرعبة في عرض البحر، كانت السّفن والقوارب التي تنقل المهاجرين عرضةً للغرق، ممّا كان يتسبب بوفات المئات من أولئك المهاجرين.
كلّ هذه الثورات والحروب، لم تجد في الواقع من يكتب عنها، باستثناءات قليلة ونادرة. ولو كان محمود درويش حيّاً ما تركها تفلت من بين يديه، قبل أن يروزها ويتأمّلها، ويدفع بها إلى مختبر الكتابة، ليخرج علينا بتلك النصوص الشرسة المدمّاة، القادرة على أن تستنطق المأساة الكامنة في أعماقها.
محمود درويش بذلك، يكاد يشكّل ظاهرة متفرّدة في الشعر العربي الحديث، فهو الشاعر الوحيد الذي بقي يزاوج بشكل فذّ بين تطوير الكتابة الشعرية، ومعانقة هموم الجماهير. في الأمسيات التي كان يقيمها، كان يسعى إلى تدريب ذائقة النّاس، ويحاول في كلّ مرّة أن يقدّم لهم ما هو جديد ومختلف. في بداية الأمسية كان يقول للجمهور: الآن سوف اقرأ عليكم النّصوص التي أعتقد أنكم تحبونها. في الثلث الثاني من الأمسية، كان يقول لهم: الآن جاء دوري، لأقدّم إليكم مقترحاتي من النصوص الشعرية التي أرغب أنا أن أقرأها. وفي هذه الأثناء كان يقرأ على الجمهور منتخبات جديدة من شعره، ذات أنفاس تجريبية، قائمة على التجديد والابتكار.
بواسطة هذه العلاقة القائمة على المحبة المتبادلة بين الشاعر وعشّاقه في الأمسيات، كان درويش يربّي جمهوره ويوسّعه، حتى غدا جمهوره هو الجمهور الأكبر في تاريخ الشعر العربي الحديث. ومن اللافت أنّ هذا الجمهور كان متعدّداً، ففيه كنّا نرى اليساري والقومي إلى جانب المتديّن، والمتحرر إلى جانب المحافظ. كان كل منهم يرى في درويش شاعره ومنقذه، كما يرى في النّصّ المقروء المرآة التي تتلألأ في أعماقها أحلامه.