فتح عمورية: ماذا نفعل بقصيدة مدهشة تمجّد الخراب؟
عمر خليفة
لا تحتاج قصيدة أبي تمام الأسطورية في فتح عمورية لكثير من التقديم، وليس هذا المقال محاولة لتسطير قراءة شاملة لهذا النص الخالد. تحولت بعض أبيات القصيدة وحكايتها وسياقها إلى استعارات كبرى تتردد كثيرًا على ألسنة العرب المعاصرين، متخصصين كانوا أم غير متخصصين في الأدب العربي. وفي عالم عربي تراجيدي مليء بأسباب الهزيمة ومظاهرها، فإن قصيدة عمورية ظلت ملجأ يفيء إليه العربي الذي يبحث، لغة، عن شيء يرقّع به خروق الواقع الأليم. سيصبح مطلع القصيدة المرعب “السيف أصدق أنباء من الكتب” نصًّا مستقلًا تلقاه حتى على شكل “ميمز” شبكات التواصل ومواقعها، والحال نفسه ينطبق على عبارة “وامعتصماه” التي ارتبطت بالقصيدة وسياق تأليفها.
لكنّ بعض التأمل في أجزاء هذه القصيدة قد يفتح مجالًا لتساؤلات أخلاقية لا نجدها لدى النقاد العرب القدامى، وهي تساؤلات تفرضها الحساسيات المعاصرة التي ترتبط بفكرة الصواب السياسيّ، والموقف من الآخر، والتعامل مع العدو المحارب، وإشكالية الحرب نفسها. هذه التساؤلات لا تهدف بالطبع إلى إعادة قراءة القصيدة بهدف التقليل من شأنها، لكنها تلفت الانتباه إلى أن قصيدة أبي تمام، وغيرها من قصائد الشعر العربي القديم، قد تولد ثانية مع كل قراءة مختلفة، فكل زمن ينتج فهمه للنص، ويعيد تأويله حسب روح العصر الذي يسود فيه.
تثير القصيدة إشكاليات عديدة في الأجزاء التي يحتفل فيها أبو تمام بالخراب والدمار الذي لحق بعمورية على يد جيش المعتصم، والهزيمة الساحقة التي منيت بها الإمبراطورية البيزنطية في هذه المدينة. يصور أبو تمام هذا الخراب بطريقتين، ترتكز الأولى على تصوير الدمار المادّي الذي لحق بالمدينة، والحرائق التي اشتعلت فيها، وما نتج عن هذا كله من محو شبه كامل لفضاء عمورية الجغرافي. بأبيات في غاية الإتقان الفني، يقدم أبو تمام المشهد التالي:
لقد تركتَ أمير المؤمنين بها للنار يومًا ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى يشلّه وسطها صبح من اللهب
حتّى كأنّ جلابيب الدجى رغبت عن لونها، أو كأنّ الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشّمس طالعة من ذا وقد أفلت والشمس واجبة من ذا ولم تجب
عبر صور متلاحقة عجيبة، يفتخر أبو تمام بمقدار هذا الدمار الذي لحق بالمدينة، وهو دمار حوّل ليلها نهارًا لشدة الحرائق، حتى يشعر الناظر أن الشمس لاتزال ساطعة وسط الليل. لم يعد الخشب نفسه قادرًا على المقاومة. ذابت المدينة، وذابت صخورها في حرائق جيش المعتصم.
الطريقة الثانية التي تبيّن هزيمة المدينة تركّز على ما وقع لأهلها وسكّانها، فرجال المدينة، حسب أبي تمام، أبيدوا عن بكرة أبيهم:
لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على بانٍ بأهل، ولم تغرب على عزب
أما نساء المدينة فقد أصبحن سبايا لجيش المعتصم، وفي بيتين معيّنين يقيم الشاعر مقابلة بين ضوء عمورية، الذي نتج من حريقها، وضوء النساء الروميات اللواتي وقعن في الأسر، ويبيّن أبو تمام، منتشيًا، أن قتل رجال عمورية كان جسرا مكّن جيش المسلمين من الوصول إلى عذراوات المدينة:
كم نيل تحت سناها من سنا قمر وتحت عارضها من عارض شنب
كم كان في قطع أسباب الرّقاب بها إلى المخدّرة العذراء من سبب
عبر هذا كله يواصل أبو تمام رحلته العجيبة في التغني بخراب عمورية، ليصل إلى ذروتها عبر تحويل المدينة إلى امرأة، في سابقة ملحوظة للسرديات القومية المعاصرة التي تماهي بين الوطن والمرأة. وفي عمله هذا يستحضر الشاعر بعض مشاهير عشاق العرب، كذي الرمة، ليبيّن أن عمورية، في خرابها، أكثر جمالًا من ديار المحبوبة نفسها، وأن خدّ عمورية الذي داسه الجيش أبهى من خدود النساء اللواتي اعتراهنّ الخجل والحياء. هكذا تظهر عمورية المدمّرة في عيون أبي تمام:
ما ربع ميّة معمورًا يطيف به غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
ولا الخدود وقد أدمين من خجل أشهى إلى ناظري من خدّها التّرب
كيف نتعامل مع الطابع الرومانسي الذي يقارب عبره أبو تمام كل هذا الخراب؟
ليست المشكلة في القصيدة وصف الخراب الذي حلّ بعمورية، فالخراب جزء من الحروب قديمها وحديثها، وكل طرف محارب يعتقد أنه يحقق العدالة عبر حربه، فسرديّات الحروب تتصارع كما تتصارع الجيوش ذاتها في أرض المعركة. المشكلة هي أن أبا تمام، بقدراته الشعرية الخارقة، قد حوّل هذا الخراب إلى مادة للاحتفال، ومصدر هائل للجمال والاستمتاع والانتشاء. وهو، بفعله هذا، لم يظهر أي نوع من التعاطف مع ضحايا جيش الأعداء، حتى لو كانوا من غير المحاربين، بل اعتبر أن عمورية، بكل ما فيها، فضاء مشروع لجيش المعتصم وجبروته.
ثمة أسئلة عديدة هنا، لعلّ أبرزها هو التالي: لماذا لم تثر مثل هذه الأبيات نفورًا أو سخطًا عند النقاد القدامى؟ سبب هذا التساؤل يعود في جزء منه إلى أن الثقافة الإسلامية، في جانبها الفقهي على الأقل، تمتلك تشريعات متعددة تحكم سلوك الجيش في الحرب، وثمة أحاديث نبوية كثيرة تنهى عن التعرّض لمظاهر الطبيعة في الحروب، وتدعو إلى الكفّ عن غير المحاربين. بمعنى آخر، فإنّ أبيات أبي تمام السالفة تناقض كثيرًا من التصورات العربية الإسلامية لآداب الحروب وطباعها، ومع ذلك فإننا لا نجد في النقد الأدبي الكلاسيكي إلا الإشادة والتغني بقصيدة فتح عمورية.
لا أزعم أنني أملك جوابًا قاطعًا عن هذا التساؤل المشروع، لكنّي أظن أن سبب القبول لهذا النوع من الأبيات هو أن النقد العربي القديم نقد جمالي بالمطلق، يفصل فصلًا شبه كامل بين البعد الأخلاقي، المرتبط بالأحكام الشرعية والقانونية، والبعد الأدبي، المرتبط بالفضاء التخيلي المجازي. الرؤية السائدة للشعر، كما عبر عنها قدامة بن جعفر في كتابه “نقد الشعر”، هي أن من حق الشاعر أن يتحدث في أي موضوع يشاء، دون حظر، ومعيار جودة الشعر ليس مضمونه، بل قدرة الشاعر على التعبير عن هذا المضمون. يقول قدامة: “وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه”.
بهذا المعنى، فإن مستوى القصيدة، بالنسبة لقدامة بن جعفر، لا يتحدد برأينا الأخلاقي في موضوعها، بل بقدرة الشاعر على الإجادة الفنية عند تناوله هذا الموضوع. قد يبدو هذا الرأي غريبًا ضمن الصور النمطية المرسومة عن الثقافة العربية ومحافظتها وتدينها الجوهري، لكن الفضاء الأدبي العربي في العصور القديمة كان أقرب لما يعرف بمذهب الفن للفن، الذي يرفض أن يحاكم النص بناء على رؤى أخلاقية وثقافية تتعلق بمضمونه، وهذا بالضبط ما فهمه أبو تمام عند تأليفه هذه القصيدة. الشاعر، في رسمه لصورة الخراب المرعب، يدفع بقدراته الشعرية إلى مستويات عليا غير مسبوقة في شعر الحرب العربي، كأن شدة الخراب الذي لحق بالمدينة يلزمه توهج شعري هائل يلائم توهج الحدث واشتعاله.
قد ترفض الحساسيات المعاصرة هذا الموقف الجمالي المطلق من الفنون والآداب، سيما أننا نعيش لحظة زمنية تأثرت بعقود من النقد الثقافي المضموني الذي يرتكز على كشف التحيزات والإساءات التي تحملها النصوص الأدبية، في مدارس نقدية متنوعة مثل النسوية وما بعد الاستعمار. قصيدة أبي تمام تضعنا أمام اختبارات عدة. هل يجب علينا أن نطبق معاييرنا المعاصرة على النصوص الأدبية القديمة؟ هل نمارس نوعا من “التطهير” للمدونة الأدبية العربية، نحذف معه من الدرس الأدبي أية نصوص تحمل قيما مخالفة لنوع المجتمع المعاصر الذي نطمح إليه؟
لن نتفق على إجابات واحدة لهذه الأسئلة، سيما أن الشعر القديم مليء بنصوص شبيهة بقصيدة أبي تمام، ومن ثمّ فإن تطبيق معايير أخلاقية معاصرة على ذلك الشعر سيؤدي إلى حجب عدد كبير من عيون قصائده وأكثرها إتقانا فنيا. الشيء الأكيد هنا هو أن النقد القديم كان أكثر تقبلًا للعمل الفني من النقد المعاصر، وأن الأدب، بوصفه قولًا جماليًّا مجازيًّا، لم يكن فضاء لأحكام الصواب والخطأ. وإذا كان بعضنا سيرفض قصيدة “فتح عمورية”، فإن من الضروري أن يبيّن، وهو يرفضها، أن أبا تمام، والجمهور المتلقي للعمل في عصره، لم يكن يفكّر بمعاييرنا التي نفكر فيها نحن.
- عن موقع صوت ألترا