“وقائع صغيرة” قصة قصيرة لعدي مدانات

(ثقافات)

“وقائع صغيرة” : قصة: عدي مدانات*

   كانا يشغلان المطبخ عند العاشرة صباحاً، السيد علاء الخروقي وزوجته. السيد علاء قاضٍ سابق في محكمة التمييز، أعلى سلطة قضائية، وقد أُقصي عن مقعده القضائي الرفيع قبل أربعة أشهر، بحجة بلوغه السبعين، كما جاء في القرار المُعلن، وقد يكون لسبب آخر، وهو ما يرجّحه ويثير ريبته وأسفه. أما زوجته التي لم يتبدّل عليها الكثير، فهي في بداية عقد عمرها السادس أو تزيد قليلاً، إذا أخذنا بالحسبان طفح البياض على شعرها وترهّل جسدها. كان إشغالهما المطبخ في هذا الوقت من الصباح ولبُرهة وجيزة، قد ترتّب كواقعة صباحيّة متّفق عليها، منذ فقدانه وظيفته، ومنذ أن فضّل ملازمة المنزل على الظهور كرجل متقدّم في العمر وحسب، وليس القاضي الذي كان يُحسب له حسابا. كان يرتدي حلّة خفيفة من الحرير فوق منامته، فيُخفي بذلك هزال جسده الذي كان محلّ تندّر زملائه المُصانين، الذين في ما عدا انكبابهم على دراسة القضايا المعروضة عليهم، لا يجيدون شيئا آخر. كان يتناول قهوته على مهل، فيما كانت زوجته تشدّ إزارا حول خصرها وتوليه ظهرها، منهمكة بغسل فنجان وركوة قهوتها وبضعة كؤوس أخرى.

    تناول منديلاً ورقياً ومسح قطرات القهوة التي انسكبت على حوافّ فنجانه، تبجيلاً مبالغاً فيه لطقس جديد عليه، وطفق يتأمّله، ويفكّر في الوقت نفسه أن تقسيم النهار بفواصل من هذا القبيل، يجعل وقته الطويل محتملاً، وقد أحسنت زوجته بهذا الترتيب. خطر بباله أن يعبّر لها عن امتنانه بكلمات بليغة تتّفق مع قوة العاطفة التي انبجست بنفسه في تلك اللحظة، فخاطبها بنبرة بدت كما لو كانت بداية خطاب خُطّ بعناية فائقة :

    ــ أشكرك من صميم قلبي على هذه النفحة الطيّبة.

   لم تجد داعيا لهذا الشكر، فقد اعتادا معا احتساء القهوة في فترة الصباح، بعد انتهائها من الانشغالات المنزلية الأوليّة، وهي لم تزد فيما فعلت، عن إضافة القهوة إلى الماء، ووضع الركوة على النار، فما جدّ إذن؟ عقّبت وهي تضع المزيد من الكؤوس في رغوة صابون التنظيف المتجمّعة في حوض الغسيل :

  ــ على أيش! ما هو فنجان قهوة!

  رفع جذعه وتابع الخطاب الذي وَضع على لسانه :

  ــ إنّ لاحتساء القهوة في هذا الوقت بالذات ميّزة تجمّل النهار كلّه وكأنّك تطلبين من النهار الذي يمضي على مهل فسحة لشيء مختلف، يجعل ما سيأتي بعدها وصلة يمكن تخطّيها دون تذمّر، بانتظار وصلة جديدة جميلة. بالطبع إنك تقدّمين لي تماما ما كنت أصبو إليه.

   تلمّس فنجان القهوة بأنامله،  وجعل يتأمّل لمعانه، ثمّ رفعه بأناة إلى شفتيه وتناول حُسوة . كان في ما ندر يعبّر عن امتنانه لإعدادها القهوة، فليس احتساء القهوة بالشأن الكبير ولا يستغرق في العادة إلاّ دقائق قليلة يفترقان بعدها ليجتمعا مرّة ثانية ولدقائق أخرى مع نشرة أخبار الظهيرة ثمّ مع طعام الغداء ثمّ مع قهوة المساء عند السابعة مساءً، وما عدا هذه الوقائع الصغيرة المشتركة، فإنّ أوقات النهار الأخرى كانت ثقيلة الوطأة عليه، غير أنّ قهوة الصباح هذه وفي هذه اللحظة، بدت له ضرباّ من الابتكار الجميل. كان من قبل يطلب القهوة وهو منهمك في العمل، فلا يعلق مذاقها بفمه كثيرا. شعر بأسف لأنها لا تشاطره مشاعره، حتى إنها نهضت فور احتسائها قهوتها وشرعت في التنظيف، وكأن جلسة احتساء القهوة لا تزن لديها أكثر من لحظات احتسائها.

   كاد ينهض بدوره وينتقل إلى مكان آخر، غير أن نفسه لم تطاوعه، فلديه بقيّة من كلام لم يقله بعد على جمال جلستهما المشتركة، ويريد بقوّة أن يشركها فيه، فالجلسة التي لا تزيد في العادة عن بضع دقائق وبخاصّة هذه التي تحصل عند فتحة باب المطبخ، حيث تعجز الشمس الحارة عن اجتياز عتبته، تأذن له بالقول : إنّ نهاره الجديد في المنزل، ما هو إلا سلسلة من وقائع جميلة متتابعة، وحدات من الزمن، مزيّنة على نحو يسرّ الخاطر، فها نفسه تتّسع لرؤية شجيرة الورد التي تسامقت في غضون هذه السنة، ولم يكن من قبل يملك الوقت أو سعة النفس لملاحظة كهذه.  قال :

  ــ هو فنجان قهوة صحيح، غير أنه يأتي في سياقه الصحيح، ضمن منظومة الوقائع المتماثلة في صغرها والكبيرة في أثرها، التي تجعل العيش، ليس محتملاً وحسب، وإنما سلسلة متّصلة من الوقائع الجميلة الشبيهة بطوق الياسمين، ولهذا أريد أن ترتقي هذه الواقعة بنظرك أيضا إلى مصافّ ما يستحقّ منّا الشكر لأجله. لديّ أكثر مما قلت. اجلسي من فضلك.

   كانت تحسب الوقت على أساس منجزات العمل، بحيث أنّ أيّ تطاول من جزء منه على جزء آخر سيربك نهارها بالكامل، فعارضت رغبته، متحجّجة بأن أعمال المنزل لا تعرف التأخير. كان يعرف ذلك دون شكّ، فهو مطّلع على ما تتكبّده من جهد، ويشاركها الشكوى من أن النهار بطوله يمضي على هذه الحال، غير أنّ ما يطلبه منها الآن قد لا يزيد على بضع دقائق أخرى، يطرح خلالها فكرته عن جمالات وقائع الحياة الصغيرة هذه، ثمّ يدعها تمضي في مَهمّات نهارها. قال :

 ــ ربما تستهينين باللحظة وترين فيها فعلا ماديًاً آنيّاً لا أكثر، ولكنّها ليست كذلك، فهي لحظة تكثيف للذات، حيث تتجمّع الكلمات على طرف اللسان، تلك التي تكون في العادة حبيسة الصدر ومتمنّعة لأسباب أخرى، لا تخصّ الأنا بالضرورة، إنما الغير كذلك. وهنا تأتي أهميّة أن يلتقي على فنجان القهوة اثنان في واحد، حيث تعمل كهرباء خاصّة على إطلاق الكلام ليحوّم في فضاء الإثنين. وهذا ما أنا بصدد فعله، وربما ليس فعله، وإنما السماح به. فما يحدث في الواقع ما هو إلاّ ….

    جلست متبرّمة وصالبت يديها على صدرها، فعلقت الفكرة بنفسه إذ ذاك وتأبّت الحضور، فلم يقل شيئا آخر. أدركت المأزق الذي حشرته فيه، فأسبلت يديها وأخذت من غير استعجال تراقب شجيرة الورد ثمّ قالت :

  ــ أنت محقّ. يسعدني أن ترى الأمر على هذا النحو وأن تعطيه ما يستحقّ من اهتمامك، وأن تختصر جمالات العالم بجلسة قصيرة كهذه. هذه الجلسة كلّ ما لديّ، وكلّ ما يمكن أن أمنحه لك. سأعترف : شعرت بالقلق أوّل الأمر، فقد اعتقدت أنّ الملفات المتخمة على ما فيها من حشو وقضايا، هي كلّ ما لديك، وأنك ستنظر إلى وجودك في المنزل على أنه دفع بك إلى سلّة المهملات، في حين أنّ المنزل هو جنّتي. أنت لا تعرف كم من صباحات، ربما آلاف الصباحات قضيتها وحيدة، كنت أقف لأسقي شجيرات الورد هذه، منذ أن كانت شتلات صغيرة، فأجد نفسي متلَبّسة بحالة غريبة، حيث يخطر ببالي أنني لو كلّمتها لأصغت لي، فتتجمّع الكلمات على لساني، وأقول ما بنفسي، فيما أنت كنت تعبر الباحة إلى الخارج حاملاً تلك الحقيبة المنتفخة، ولا تعطي بالاً لتلك الوردات التي تكون قد تفتّحت في الصباح الباكر. كنت أقول لنفسي : هو مشغول البال في القضايا. ولكن دعني أسألك : كيف يمكن أن تعطي بالاً لقضايا الناس إن كنت لا تستطيع ملاحظة وردة متفتحة مبلّلة بالندى؟

  سكب المزيد من القهوة وأشعل لفافة تبغ، وفيما كان يتأمّل الدخان المتطاير استعاد ذلك التاريخ، ووجد أن ما تشير إليه صحيح في جانب منه، وهذا ما كان ينقُصه، والآن فات الأوان. قال لها :

  ــ ما أدراك؟

ثمّ عدل عن صيغة السؤال وقال :

  ــ أقصد ما أفطنك! ولكنّك تلقين بأربعين عاما من جهدي في سلّة المهملات، أكان فعلاً جهداً فقيراً إلى هذا الحدّ ؟

   نهض من فوره عاتباً، غير أنه توقّف عند وردات الصباح، ما شاخ منها وذبل، وما هو منها في أوّل تفتحه، وشهق من الغبطة، فلقد أذنت له الحياة أخيراً أن يرى تلك المعادلة الغائبة وأن يفهم لغة الأشياء المشتركة. لاحظ أنها كانت ستوضّح ما أساءت عرضه بسؤالها، غير أن تلك السنوات الأربعين تراجعت أهميتها، إزاء تجدّد الحياة عبر تفتّح ورداتها، ورأى أنّ الجهد الذي تبذله زوجته في هذا السبيل جدير بأن يحتلّ مكانة في نفسه، فختم كلامه بالقول :

  ــ كنت غافلاً وحسب، والشكر لما فعلت وتفعلين، فلولاكِ ما كنت لأعرف كيف سأتقبّل حياتي بعيدا عن تلك الملفات.

                               ***************

  من مجموعة ” تركة الأيام الثقيلة” /  الدار الأهلية في عمان ــ العام   2013

  ويكتب القاصّ والكاتب الأردني ” يوسف ضمرة” في نقده وتحليله لقصص عدي ، التالي:

    “عدي مدانات” هو القاصّ العربي الوحيد الذي يشعرك بالمتعة والرعب، وهي مفارقة لا تتوفّر عليها قصص الكاتب العادي غير المعنيّ بكل ما يتعلّق بالحياة البشرية من قيم وهواجس وأحلام وأفكار، والغريب هو أن “عدي مدانات” يفعل ذلك كلّه بالقارئ في هدوء تامّ، ومن دون ضجيج، وكأنه يشبه ذاته في اختيار كلماته برويّة وأناة، لئلا تسير الأمور في طريق أخرى غير المقصودة.

   ينبّهنا “عدي مدانات” إلى حقيقة مؤلمة، وهي أننا نمضي حياتنا جاهدين لإبراز الصورة التي شكّلها لنا الآخرون، وهو ما يتطلب منّا جهداً مضاعفاً لإخفاء عالمنا الداخليّ، وملامحنا الحياتيّة  وعندما نكتشف ذلك، نصاب بارتجاج نفسيّ لثلاثة أسباب، (أوّلاً) : لإدراكنا الصريح انتفاء قدرتنا على الانعتاق من تلك الصورة التي خطّها الآخرون،  (ثانياً) : إدراكنا المفجع لحقيقة قاسية، وهي أننا خلال هذا الشوط، الذي قطعناه من أعمارنا، لم نربح شيئاً سوى خساراتنا، (ثالثاً) : الحسرة التي نتشرّبها جرّاء معرفتنا بأنّ الزمن لا يعود إلى الوراء كي نقوم بتصحيح أخطائنا، وبأنّ ما تبقّى من الوقت لم يعد كافياً لاستئناف الحياة من نقطة الصفر.

* عدي مدانات: أديب أردني (1938 -2016)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *