سابع أيام السرد

(ثقافات)

(سابع أيام السرد)

سعيد الغانمي

 

في الموروث الصوفي الإسلامي صور كثيرة لإمكان المطابقة بين المطلق والنسبي، بين الماضي والمستقبل، بين الكمال والنقص، ولعل أوضح تعبير عن ذلك يتمثل في حكاية “منطق الطير” لفريد الدين العطار: حيث تبحث الطيور الثلاثون عن طائر وهمي اسمه (السيمرغ) أو العنقاء، فتجول العالم كله بحثاً عنه، وحين تفرش أجنحتها محلقة في طريق عودتها خائبة تنظر إلى نفسها فتكتشف أنها هي (السيمرغ)، وهذه الحكاية – الملحمية بالضبط هي ما أعاد الكاتب الأرجنتيني بورخس صياغته في كتابه “الصانع”؛ إذ يرسم فيه كل ما في العالم من أشياء ليكتشف في آخر الأمر أنه رسم صورة وجهه.

يصل ابن عربي إلى مضمون هذه الحكاية على نحو آخر: فهو يعد تسعة وأربعين اسماً من أسماء الله الحسنى يضيف إليها مثلها مما في الإنسان من حقائق – ويصفه العالم الأصغر – ويضيف إلى ذلك حقيقة السر الإلهي الموجود فيه؛ فتصير تسعة وتسعين اسماً هي مجموع مظاهر الاسم الأعظم الذي هو حقيقتها كلها.

لكن كيف يسعنا ترجمة كل هذه الأفكار الصوفية إلى نص روائي ونص رواية تاريخية على وجه التحديد؟

من المعروف أن أي نص سردي يمكن أن توجد فيه أربعة مستويات من وجهات النظر: وجهة النظر على المستوى الأيديولوجي، ووجهة النظر على المستويين الزماني والمكاني، ووجهة النظر على المستوى التعبيري اللغوي، ووجهة النظر على المستوى النفسي. وقد تتزامن هذه المستويات وقد تتفاوت، قد تتجاور وقد تتقاطع، لكن من الثابت أن كل وجهة نظر تتطلب إطاراً محدداً تفصيلياً هو علامة على محدودية الرؤية الإنسانية وانحصارها في إطار ضيق. أما الرؤية الصوفية فهي الرؤية التي تريد أن تتجاوز العالم المحدود إلى مطلق ما فوق العالم وتتخطى التحديد الإنساني إلى الزمن القيومي المتعالي على الزمن، أقول تريد أن تتجاوز هذا الزمن وإن لم تتجاوزه فعلاً.

الحل الذي تختاره رواية “سابع أيام الخلق” هو التناوب بين عدة رواة، يتولى الراوي الأول سرد أحداث زمنه والبحث عن مخطوطة (الراووق) بصوته ليقاطع كل فصل يسرده فصل آخر كتبه أحد الرواة السابقين. ويظل صوته مميزاً بعنوان يعلو كل فصل وهو (كتاب الكتب) لافتة كتاب الكتب إذن تعني سرد أحداث العثور على الأحداث لا سرد الأحداث نفسها، في حين يتولى الرواة الستة الآخرون سرد الأحداث كل من خلال وجهة نظره وبما يوافق مخطوطة (الراووق) الأصلية. ويمكن القول إننا هنا بإزاء روايتين متجاورتين: رواية سيرة مطلق وأبنائه من عشيرة البواشق، ورواية العثور على الرواية المذكورة وتصحيح أحداثها. لكن الرواية الثانية تتضمن الأولى بالضرورة.

إن كتابة رواية عن رواية (أو مخطوطة قديمة) وإعادة النظر في تسلسل متوالياتها السردية لا بد من أن تضع في اعتبارها “نظرية رواية ما”، ونظرية الرواية التي تختارها “سابع أيام الخلق” هي الرواية ذاتها. لا تكتمل الأحداث الماضية إلا في المستقبل. إن رواية سيرة مطلق، وهي بالتأكيد رواية تاريخية، تحتاج إلى إطار زماني ومكاني محدد. وقد حدثت في ماضٍ لعله عثماني بعيد، يرويها رواة ستة متعاقبون هم: عبد الله البصير، ومدلول اليتيم، وعذيب العاشق، والسيد نور، وذاكر القيم، وشبيب طاهر الغياث. لكن يظل صوت كل هؤلاء “ناقصاً” لا بد من أن يتممه الراوي التالي. ويتمم رواياتهم جميعاً الراوي السابع في “كتاب الكتب”.

والنقص الذي يعتور سرد هؤلاء الرواة هو نقص فلسفي يوضحه ابن عربي – في متن الرواية ص239- بأن كمال الوجود وجود النقص فيه؛ إذ لو لم يكن (النقص) لكان كمال الوجود ناقصاً بعدم النقص عنه. سرد هؤلاء الرواة “التاريخيين” ناقص لا يكتمل إلا بسرد الراوي الأخير في “سابع أيام الخلق”، هنا يتحول معنى الرواية التاريخية رأساً على عقب؛ إذ لا تعود تاريخية بالمرة. إن الأحداث الماضية لا تكون جزءاً من “التاريخ” الماضي إلا بمقدار ما تؤجل اكتمالها إلى المستقبل، وبالتالي ستكون طريقة عثور الراوي الأخير على أي جزء من المخطوطة القديمة جزءاً من هذه المخطوطة أصلاً؛ ومن هنا ستؤدي هذه المخطوطة دوراً مهماً في حياة كثيرين، ليس فقط في إشاراتها الكثيرة إلى استباق الأحداث وتعالق الرواة، بل إلى تغييرها تجاه الأحداث؛ فهي تسرد الماضي وتتكهن بالمستقبل، أي أنها تروي ما وقع وما سيقع أيضاً، ولا عجب في أن تعتمدها ورقاء موظفة المكتبة في الفات نظر الراوي الأخير إلى علاقتهما المرتقبة. المخطوطة ليست مخطوطاً في نقصها وحسب؛ فهي التي قررت هذا النقص، بل باكتمالها: أيضاً فهي التي ستهدي الراوي الأخير الذي سيكون “عبداً من عبيد الخالق” إلى العثور على نقصان أحداثها الماضية باكتمال أحداثها المستقبلية.

لكنْ أليس هذا اللعب بالكمال والنقصان والإحالة المتبادلة بينهما نوعاً من الدور؟ ولماذا يجعل الراوي الأخير آخر فصل من الرواية وسابع أيام السرد فيها فراغاً؟

لعل المؤلف أراد أن يقول إن القارئ هو الذي سيردم هذا الفراغ ويملؤه. أما الرواية فتعانده. إنها تقرر بمنطق المتصوفة أنفسهم: إن آخر فصولها هو الأول؛ فالمتصوفة يعتقدون أن المبدأ هو المعاد عينه، والأول هو الآخر أو فصل (الفراغ) ذاته – يعيدنا بالضرورة إلى أول فصولها – إن (النون) هي زمن الشروع في الكتابة حيث تكمن كلمة “الخلق” السرية “كن” وحيث ينتظر القلم ما يسطره على الأوراق البيض. لكن سابع أيام السرد الكتابية لن يكون يوماً آخر غير يوم السرد الأول الذي يضم الأيام كلها بنقصه وحنينه إلى الاكتمال.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *