*نصير شمه
بطاقة سفر واحدة نقلتني إلى عالم آخر، مختلف وخاص، عالم ليس له مثيل، اليابان: خليط من السحر والجمال والحب، تقاليد وأرث وتراث مشبع باحترام الغير، شعب له طبع خاص.
قبل هذه الرحلة عرفت اليابان من خلال روايات مترجمة لكواباتا وميشيما، وقصائد قليلة جمعها كتاب حمل عنوان «واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق». كنت أريد حقا أن أكتشف هذا العالم. البداية كانت رحلة مع مجموعتي (عيون) لموسيقى الصالة العربية، حفلات في أكثر من مدينة، طوكيو أولا ثم هيروشيما وناكازاكي.
ربما كانت الحفلات التي قدمناها في مدن اليابان من أجمل حفلاتنا، فالجمهور الياباني جمهور خاص، له طريقته في التعبير التي لا يشبه فيها أي جمهور آخر.
في هيروشيما وناكازاكي وقفت مع مجموعتي على ضريح الشهداء، شهداء القنبلة النووية التي لن ينساها العالم أبدا. في المتحف رأيت وجه طفلة صغيرة أصبحت في ما بعد رمز السلام، السلام الذي يريده الأطفال كما نريده نحن. وعلى الرغم من تاريخ المدينتين إلا أن الجمال كان ينساب غصبا عن العالم كله، كانت بضع حشائش بدأت تنمو بعد كل هذه السنوات، لمستها بيدي وأنا أرى الجمال ينهض من قلب البشاعة، ليعلن ولادة جديدة لمدن أصحابها على جمال روحي ونقاء كبير.
«بجانب حافة نافذتي/ تطفح أزواج/ من زهور أشجار الكرز/ كم آمل أن يشاهدها أحد ما/ قبل هبوب النسيم» هذه الأبيات لشاعر ياباني حضرت في ذاكرتي بقوة وأنا أنظر جمال مدن اليابان، وجمال أهلها، فهم لا يكتفون بأن ينعموا بالجمال لوحدهم، بل يتمنون أن ينعم بالجمال كل إنسان على وجه الأرض.
مع السيد سوزكي بن ومرافقنا المصري مؤمن كانت رحلتنا إلى جمال كنت اعتقدت أنه موجود فقط في الخيال، صعدنا الباخرة وأبحرنا في بحر صاف، لونه من لون الفيروز، وهناك ذهبنا إلى معبد قديم أخاذ في جماله، حيث تقف الأعمدة الحمراء في وسط الماء، في البحر، جزيرة لا مثيل لها، يأتيها السائحون من كل أنحاء العالم، هناك التقطنا صورا عديدة، فالمكان لا يتركنا من غير أن نستعيده حتى لو عبر الصور.
مشينا في شوارع قديمة ونظيفة، محلات كثيرة تبيع أشياء مختلفة للسائحين، وحين خرج أطفال المدارس كان منظرا رائعا وهم يلتفون حولنا ويلتقطون الصور معنا.
في اليابان قدم لنا مضيفونا السوشي، الأكلة اليابانية الشهيرة التي تتكون من سمك نيئ، كثيرون منا طبعا يرفضون فكرة أن يأكلوا السمك نيئا لأنه ليس في تراثنا، ولكننا لو أكلناه في اليابان سنحبه. شعب اليابان شعب محب، كثير من الهدايا تلقيناها من أناس لا يعرفوننا، رجل بوذي، قدم لنا البخور، وأهداني من منزله قطعة يعتز بها عبارة عن مبخرة قديمة وجدت في أحد المعابد وفيها رماد يشبه التراب ليقف بداخله عود البخور، سيدة قدمت لنا حقائب صغيرة، وأخرى أهدتنا حلويات، ومنهم من أتى بشعار يشبه علاقة المفاتيح، وأعواد خشبية يستخدمها اليابانيون في أكلهم، وكثير من الطائرات الورقية الصغيرة أو ما يشبه شكل الطائر التي أصبحت في مدينتي هيروشيما وناكازاكي شعارا للسلام، هذه الطائرات الورقية التي تشبه الطير سميت باسم ساداكو نسبة لطفلة صغيرة توفيت نتيجة للقنبلة النووية، وكانت بعد إصابتها بالمرض وأثناء وجودها في المستشفى قبيل وفاتها تصنع طائرات صغيرة، تلك هي التي سميت باسمها لتصبح شعار سلام جديد. هدايا كثيرة وجميلة لأنها من شعب محب.
اليابانيون شعب يحترم الآخر، طريقتهم في الانحناء، طريقتهم في الحديث، في الأكل، كل شيء له تقاليده، وكل شيء محترم، عند انتهاء الحفل كان الجمهور يقف صفا واحدا لتوقيع الاسطوانات الموسيقية، كل منهم كان يفتح غلاف الـ»سي دي» ويقف باحترام منتظرا دوره، لا تدافع، ولا تجمع، يعرفون تماما كيف ينتظمون فورا في صفوف، شعب له حضارة عريقة عرفتها أولا من بعيد عبر الروايات اليابانية التي تتحدث كثيرا عن التقاليد الصارمة في التربية، ثم اختبرتهم عن قرب فأحببت هذا الشعب النبيل.
طوكيو لا تشبه مكانا آخر عرفته، رغم جولاتي الكثيرة في أنحاء العالم، هي مدينة لها طابع خاص، وطراز خاص، طابع حميمي إلى أقصى درجة، في باكر الصباح يخرج الناس إلى أعمالهم بشكل منتظم، فيه بعض الرتابة، ولكنه أسلوب الشعب، في المطاعم كان مضيفونا يختارون لنا أن نجلس على الطريقة اليابانية، من دون كراس، فقط هناك طاولات ومجالس كبيرة من الحجر ربما، وضع عليها بعض الوسائد بحيث تصير أقدامنا تحت الطاولات، كانوا يحضرون لنا أيضا الأعواد الخشبية لتناول الطعام، وفي الصباح كان الطعام غريبا عنا، إذ كان بعضه من طحالب البحر التي تغطي الأرز المسلوق، في ناكازاكي لم تكن هناك ألبان أو أجبان أو بيض، كان أفطار الصباح غريبا بشكل كلي، وعندما نريد القهوة، كانت الماكينات الكبيرة تزودنا بعلب من الصفيح ما أن نضغط عليها بأصابعنا حتى تصبح قهوة ساخنة.
وفي اليابان عليك إما أن تتحدث اليابانية أو ترافق من يتحدثها، فالشعب مخلص للغته بشكل كبير، وكل شيء مكتوب عليه باليابانية، أنواع الطعام، مستحضرات النظافة، وكل شيء يتعلق بالحياة. طريقتهم في التحية في غاية الاحترام، هم نادرا ما يديرون ظهورهم قبل أن يبتعد الشخص الآخر، وعلى الرغم من صعوبة الحركة، إلا أنها تعطي شعورا عاليا بالاحترام من قبلهم للآخر.
في المدن الثلاث التي أحيينا فيها حفلاتنا، كان الجمهور متجاوبا بشكل كبير، وعلى الرغم من تخوف بسيط في داخلي وداخل أعضاء فرقتي من ردود الفعل، إلا أننا خرجنا من الحفلات كلها بفرح كبير، كان الإنصات من قبل الجمهور عاليا، لدرجة أنني شعرت كأنما أخاطب كل فرد بمفرده، وما أن ينتهي الحفل حتى يعيدونا مرارا إلى خشبة المسرح.
كانت التذاكر قد حجزت كلها قبل أن تبدأ العروض بمدة طويلة، وأثناء الظهر كنت أرى تجمعات من اليابانيين قرب المسرح فسألت مضيفي عن سبب تجمعهم ووقوفهم مصطفين، على الرغم أن لاعروض في المسرح الآن، ومجرد بروفات أجريها وفرقتي، فأخبرني مضيفي أنهم هنا في انتظار أن يأتي أحد من الذين اشتروا التذاكر ويرغب في بيعها لسبب ما. جمهور متعطش كهذا، يستحق لا أن يقف هو لنا احتراما، بل أن نقف له نحن أيضا احتراما.
المحلات التجارية في اليابان تحتوي على كل شيء، واليابانيون استطاعوا أن يتميزوا وسط العالم بإنتاجات كثيرة، وهم تجاوزوا ثورة الإلكترونيات التي صنعوا جزءا كبيرا منها، وانتقلوا لينافسوا الأسواق الرئيسية التي تنتج الصرعات العالمية، ويكفي أن لديهم عطورا أصبحت من الأسماء الأكثر أهمية في العالم، إضافة إلى الملابس المتميزة.
عندما كنا نسير في الشوارع كنا نلاحظ كثيرات من اليابانيات في لباسهن التقليدي الجميل، كن يمشين بخطوات ضيقة ومتساوية الأبعاد، ولباسهم جميل إلى أقصى درجة، يحافظون عليه، كما يحافظون على تقاليدهم كلها.
رأينا في مجلة الطائرة أثناء تنقلنا الداخلي سريرا خشبيا جميلا جدا معروضا للبيع، وسألت مضيفي عن هذا التصميم، فقال لي أنه غريب عن اليابان، فاليابانيون لا يستخدمون الأسرة في منازلهم كما أعلمني، الأسرة وجدت حديثا، كما قال لي في الفنادق الجديدة.
ليست اليابان بلاد تشبه بلادا كثيرة زرتها خلال رحلاتي، هي بلاد مختلفة كليا، تجربة جديدة، وأفق جديد، هي رحلة أولى لا بد أن تتبعها رحلات، فالمرء لا يكتفي بأن يرى السحر لمرة واحدة، لابد أن تعود العين، ولا بد للروح أيضا أن تزور مكانا يملؤها بالسحر.
_____
*القدس العربي