“مذكرات يهودي مصري”

“مذكرات يهودي مصري”

الطفل الذي أحب مصر ولم يتركها

إبراهيم عبد المجيد

-1-

هذه مذكرات شديدة الأهمية كتبها البير آريِّه اليهودي المصري الذي أسلم فيما بعد. كتب ألبير هذه المذكرات قبل وفاته العام الماضي وقامت بإعدادها للنشر الكاتبة والمترجمة والصحفية الكبيرة منى أنيس ونشرتها دار الشروق في معرض الكتاب في يناير من هذا العام 2023 .

ينقسم الكتاب إلي أربعة أجزاء، وكل جزء من عدة فصول، ويصل عدد صفحاته إلي حوالي 400 صفحة بالحجم الكبير، بالإضافة إلى ملحق للصور في كل مراحل حياته مع آخرين.

يتحدث الجزء الأول عن الجذور والنشأة. ويتمازج الحديث الخاص مع ما حوله في مصر والعالم دائما. أقداره تشكلت قبل مولده، فالبداية كانت في إسبانيا التي بعد أن تم طرد العرب منها علي يد فرديناند وإيزابيلا. لقد بدأت حملات تنصير ومحاكم تفتيش دموية ضد غير المسيحيين وكانت تلك المحاكم تتهم اليهود بإعاقة المسيحيين الجدد وأنهم يناصرون الحكم الإسلامي فتم طرد اليهود من إسبانيا. في 31 يوليو عام 1492 تم تهجير عشرات الآلاف إلي البلقان وتركيا وبلغاريا، أراضي الدولة العثمانية، وجزء منهم الي المغرب ومصر وفلسطين. أخبرته أمه أن أصل عائلته ينتمي إلي هؤلاء اليهود الذين حملوا اسم اليهود السفارديم. وهي تعني من كانوا يعيشون في إسبانيا أو البرتغال بينما الإشكيناز تعني من كانوا يعيشون في المانيا وفرنسا ومعظم أوربا. رحلة العائلة في بلاد العثمانيين حتى وفاة الجد وتفرق العائلة ومرور السنين حتى يأتي أبوه الي مصرفي أوائل القرن العشرين. انتعشت التجارة مع الحرب العالمية الأولي فبدأ أبوه في بيع الملابس والأدوات الرياضية ويوردها إلي الجيش الانجليزي، وقام بفتح محل اسمه “نيو لندن هاوس” في شاعر قصر النيل. لا يعرف شيئا عن قصة الحب التي نشأت بين أمه التي كانت من اليهود الاشكيناز وأبيه ولا يعرف كيف تعرف أبوه عليها. المهم أنهما تزوجا عام 1922. ولدت اخته إيلّا عام 1924 في العمارة رقم 46 بشارع الفلكي وولد هو بعدها بست سنوات في 25 يونيو 1930. كان والده يحمل الجنسية العثمانية وحصل على الجنسية المصرية. عاش والده في مصر بالاختيار رغم الأحداث التي جرت في مصر وعاني منها اليهود وستأتي في الكتاب بالتفصيل. كان والده يرتدي الملابس المصرية ومنها الطربوش ويحافظ على العادات المصرية. أحاديث ضافية عن ميدان الإسماعيلية وثكنات الانجليز وكيف كانت القاهرة أوالإسكندرية، مدينة كوزموبوليتانية بها كل الأجناس والأديان. حادثتان أثرتا عليه في طفولته وعلى حياته. الأولى حين كان في طريقه مع أمه لزيارة أصدقاء في حي غمرة، وكيف شاهد مظاهرة في ميدان الاسماعيلية – التحرير فيما بعد – كانت مظاهرات عام 1935 مابعدها عا 1936 التي استشهد فيها الطالب عبد الحكيم الجراحي. الحادثة الثانية حين ذهب مع أبيه وأمه وأخته في سيارة الأب الخاصة إلي بلدة شبين القناطر وشاهد أطفالا من الفلاحين في ملابس متسخة لم يرى مثلها من قبل. لم يكن الريف مثل القاهرة أو الإسكندرية .

لم يكن الدين اليهودي وتعاليمه تشكل لهم مشكلة وكانت علاقته بالأديان سماعه لبعض قصص الأنبياء، وحين دخل مدرسة الليسيه كانت علمانية ولم تكن بها دروس دينية، بل كان الحديث ممنوعا عن الأديان. لم تكن أمه مثلا من رواد المعابد اليهودية .

يتسع الحديث للحرب العالمية الثانية والمعارك في العلمين والغارات وأحدث الحرب. بداية سماعه عن بعض البارزين في الحركة اليسارية مثل هنري كوريل الذي أسس وقتها مكتبة الميدان بميدان مصطفي كامل وبدء قراءته في المجلات السوفيتية باللغة الإنجليزية. لم يلتقي وقتها هنري كوريل رغم ذهابه إلى المكتبة. كيف أحب الشعر التقدمي وقرأ لأراجون وإيلوار، ويتذكر كيف قرأ عام 1945 في نشرة “سوفييت نيوز” كيف حين دخل الجيش السوفييتي إلى معسكر أوشفيتز في بولندا وجدوا غرف الغاز .

رحلات قام بها مع الأسرة إلى فلسطين في يوليو 1944 وزيارته لكثير من بلدانها. زيارته للمعسكرات اليهودية ” الكيبوتزات ” التي كان يُعلن أنها معسكرات شيوعية لكنه لم يرتح لحكاية إقامة معسكرات على أرض غيرهم. رحلة إلى فرنسا مع أخته التي سافرت للدراسة هناك واستقرت في باريس بعد ذلك ، وكيف حال فرنسا بعد الحرب، فكل شيئ بالكوبونات. كيف استعان ديجول بالشيوعيين الذين كانوا في مقدمة فرق المقاومة في الحكم بعد ذلك وكيف حققوا مكاسب للطبقة العاملة في فرنسا لم يمسها أحد حتى الآن. تعرف في فرنسا علي شيوعيين مصريين وكان هناك مؤتمرا لاتحاد الشباب العالمي واجتماعا للاتحاد النسائي العالمي به مصريين ومصريات بالأسماء وعاد من فرنسا ليلتحق بالجامعة لكن كل الطرق كانت قد وضعت الشيوعية في طريقه.

-2-

ياتي الجزء الثاني وعنوانه ” صرت شيوعا” . بدء العمل في رابطة قدامى طلاب مدرسة الليسيه التي كان بها طلاب شيوعيون وغير شيوعيين. تتهادي إليك اسماء كثيرة يتتبع نهاياتها سواء في الهجرة من مصر أو الاستمرار والسجن أو البعد عن الشيوعين وتبوء أماكن هامة في الوزارات فيما بعد. اسماء مثل إنجي افلاطون عبد المعبود الجبيلي ومحمد سيد احمد وأحمد رشدي صالح وصادق وهنري كوريل وشهدي عطية الشافعي وانور عبد الملك ونعمان عاشور ومصطفى كامل منيب وشريف حتاتة ورمسيس يونان وعزرا هراري وسعد زهران واسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي ومصطفي طيبة ويحيي الرفاعي وأحمد الرفاعي وفؤاد بلبع وعبد الستار الطويلة وسمير رياض وأسعد حليم وجمال غالي وعبد الحميد السحرتي وهليل شوراتز والفنان التشكيلي موريس يوسف وإيزاك نينو وهاري انتيبي ومارسيل اسرائيل. مايميز هذا الجزء كثير من الأحداث لكن أهمها كيف تكونت أحزاب شيوعية سرية متعددة وكيف جرت محاولات الوحدة بينها وفشلت في كثير من الأحيان.

أسماء أحزاب مثل “حدتو” اختصارا للحركة الديموقراطية للتحرر الوطني و”حدتوش” أي حدتو شيوعية، و”نحشم” أي نحو حزب شيوعي مصري، و”أسكرا” التي تعني الشرارة بالروسية.

حملة رئيس الوزراء اسماعيل صدقي ضدهم. ظهور الإخوان المسلمون في الجامعة ومشاكلهم مع الشيوعيين فلقد كانوا مؤيدين لسياسة اسماعيل صدقي. كذلك حديث طويل معبر كانه فيلم لا ينتهي عن محاولاتهم اخفاء الآلة الكاتبة وأدوات الطباعة من مكان الي مكان ومن حيّ إلي حيّ في جميع انحاء القاهرة. الاعتقالات وهروب البعض من المعتقلات ومحاولات اخفائهم باليوم والساعة والطريقة والمكان. رحلة الإخفاء مذهلة في السرد تستحق أن تكون فيلما سينمائيا.

كيف نشأت في مصر الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية عام 1947 التي التحق بها. في ذلك الوقت لم يكن هناك شيئ اسمه اليهودية، بل كانت الطائفة اليهودية تسمي الطائفة الإسرائيلية، وكان في الرابطة اسماء تاريخية مثل عزرا هراري ويوسف حزان وهانز بينكاسفلد الذي جنده للشيوعية.

كان التحق بكليتين، الآداب قسم اللغة الفرنسية والحقوق التي يحبها، فكان يذهب إلى الأولي صباحا والثانية بعد الظهر وساعده بداية المحاضرات فيها متأخرة.. كيف عاد الوفد إلى الحكم عام 1950 وبداية الانفراجة وخروج الكثيرين من الاعتقالات وعادوا إلي العمل الذي لم يعد سريا فأصدروا مجلات ونشرات مثل أخبار مصر بالفرنسية وصحف علنية مثل البشير والميدان والملايين. وتأسست حركات مثل حركة السلام والمجلس العالمي لحركة لسلام استجابة لنداء ستوكهولم الذي كان ينادي بمنع استخدام القنبلة الذرية. كيف اتصلوا بسفارات دولية أهمها سفارة المجر التي أعجب سفيرها برفيقه حليم طوسون فعينه فيها موظفا واجتماعاتهم فيها وتوزيع مجلاتهم على السفارات والمحلات والبنوك وغيرها. مهرجانات عالمية حضروها مثل مهرجان الشباب في برلين عام 1950 وزيارته لباريس واكتشافها مرة أخرى ولقاءات تفصيلية مع الحزب الشيوعي الفرنسي. هنا حسنات حكم الوفد. في أكتوبرعام 1951 ألغى الوفد معاهدة عام 1936 وبدأ الكفاح المسلح في القناة لكن ذلك لك يكن ليستمر. وقع حريق القاهرة. تفاصيل دقيقة للحريق في كل مكان وماتم حرقه من فنادق ومحلات بالتفصيل ومنها محل والده. من الطرائف قصة حبه مع ليليان وكيف فشلت حين قبض عليهما البوليس وهو يُقبِّلها في منطقة تريومف الخالية فدفع للبوليس رشوة خمسة جنيهات وتركوهما فتركت ليليان مصر. كيف تعيش في بلد يمنع القبلات في الفضاء! حين قرأت ذلك ضحكت وقلت كيف لو كانت تعيش اليوم !؟ يقول في مسألة الحب أنه لم يكن يشعر بالآخرين جيدا وكيف يفكرون أو ماذا يريدون، ويحكي عن قصص أخرى لم تتم . بعد حريق القاهرة أقيل النحاس ووزارته وتم تعيين حكومة جديدة بقيادة علي ماهر باشا وانتشر الجيش في الشوارع.

قامت حركة يوليو 1952 وتأتي مرحلة جديدة في تاريخ الشيوعية في مصر. يوليو هي الحركة التي كانت قبل وصولها للحكم تطبع منشوراتها السرية لدي تنظيم ” حدتو ” الشيوعي . تأزمت العلاقة بين حركة يوليو والأحزاب الشيوعية بعد أحداث كفر الدوار وإعدام خميس والبقري عام 1952 وموقف سيد قطب الموافق على الإعدام وموقف محمد نجيب الموافق أيضا والذي ندم عليه بعد ذلك. هنا وقفت كل التنظيمات الشيوعية ضد الحركة. ألغت حركة يوليو الأحزاب والحياة النيابية في 15 يناير عام 1953وفي نفس اليوم بدأ اعتقال الشيوعيين ونقلهم لمعتقل الطور وبعض البارزين من المثقفين. كل شيئ بالأسماء. لم يحدث تغيير بالنسبة لمحل والده، ويذكر أن من بين رجال يوليو صلاح سالم وخالد محيي الدين اللذين كانا من زبائنه. كان من الجديد تردد مدرس شاب هو مهدي عاكف على المحل ليشتري طلبات كثيرة باسم جماعة الإخوان المسلمين. يقول كان يأتي كل أسبوع يأخذ الطلبات، وبعد أسبوع يأتي باثمانها وللحق كان أمينا جدا . قال لهم وقتها أنهم يقيمون معسكرا للكشافة ، وفيما بعد اتضح أنه معسكر للتدريب على السلاح في كرداسة تم اكتشافه وغلقه عام 1953 – هكذا كرداسة من زمان – المهم أن مهدي عاكف كان يعرفه ويعرف أنهم يهود ولم تسبب معرفته بيهوديتهم أي مشكلة معه.

لقد بدأ العد التنازلي بين مجلس قيادة الثورة والشيوعيين منذ قضية خميس والبقري وقامت المباحث العامة بالقبض على الجهاز الفني التابع للحركة الديموقراطية للتحرر الوطني ” حدتو” بالكامل بما فيها المطبعة التي كانت من قبل تطبع منشورات الضباط الاحرار وحوكموا عام 1953 وأخذوا جميعا أحكاما بالسجن خمس سنوات وكان من بينهم أرمني اسمه ” ملكون ملكونيان” كان مسؤول الاتصال بين المطبعة والضباط الأحرار وكان يسلم النشرات لجمال عبد الناصر ولا يعلم من هو لأن عبد الناصر كان يرتدي ملابس مدنية حين يقابله، وفوجي وهو في السجن بصورة لعبد الناصر بملابسه العسكرية . بالمناسبة آلة الطباعة “الرونيو ” التي أخذوها في القضية تم وضعها في متحف قيادة الثورة وقالوا أنها الآلة التي كانت تطبع منشورات الضباط الأحرار، ولم يقولوا أنها الآلة التي كان الشيوعيون يطبعون عليها منشورات للضباط الاحرار. ضربات متعددة للشيوعيين منها ضربة أغسطس عام 1953 وحملة أخري في 3 نوفمبر قبض عليه فيها .

ننتقل الي الجزء الثالث الذي عنوانه “أحد عشر عاما في السجون المصرية” تفاصيل مذهلة عن السجن الحربي. أسماء كل من حققوا معه من الضباط ورتبهم. كيف كان من بين الضباط من هو مختلف وكريم مثل ابراهيم عفيفي البربري الذي كان في الأصل من عائلة وفدية والذي عمل فيما بعد في رئاسة الجمهورية أيام السادات. وغيره من المحترمين ضابط اسمه “أنور حب الرمان” بينما كان هناك من يتصف بالغباء ويذكرهم. قابلوا عددا كبيرا من الإخوان في الزنازين بعد محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954. بدأ الدولة تحاول جذب الشيوعيين إليها بالحوار وطلبوا منهم بيان تأييد للجيش وكتبوا بيانا عنوانه ” بيان الشيوعيين في السجن الحربي” يري أنهم ارتكبوا به خطأ كبيرا به رغم أنه وقّع عليه معهم. رحلة الانتقال الي سجن مصر بعد السجن الحربي . وصف دقيق كالعادة للسجن. مكانه وأدواره وعنابره وزنازينه ودورات مياهه وعنابر التاديب، الخ. كيف تبدا الحياة فى السجن وكيف ينامون وكيف يضربون عن الطعام أحيانا لتحقيق بعض المطالب ومن يضاف اليهم من الشيوعيين. محاكمات عسكرية برئاسة محمد فؤاد الدجوي لا أمل منها فالاحكام مقررة سلفا. بين ذلك خلافاتهم فتنظيم “الراية” يري النظام حكما فاشيا وهم “حدتو” يرونه ديكتاتوريا عسكريا. فيتهمونهم أنهم عملاء للديكتاتورية العسكرية على أساس أنهم ساعدوا من قبل رجال الثورة. تفاصيل المحاكمات وكيف صدر الحكم عليه بثماني سنوات مع الأشغال الشاقة. نقلهم إلى سجن طرة. الحياة فى سجن طرة ومن معه وكيف كان العمل في الجبل والمقطوعية المقررة علي كل فرد بالحفر ونقل التراب وغيره واختلاطهم مع الجنائيين. عالم كامل من القسوة وكيف كان يصلهم الطعام من أهلهم وشخصية جنائية لرجل عصابات قاتل لكنه كان لطيفا وكان اسمه ” البُطش”بينما اسمه الحقيقي محمد عبد الباقي خليل كان قريبا من شهدي عطية الشافعي ويعتبر نفسه زميلا لهم ويحضر لهم كل الممنوعات باعتباره من المعلمين الكبار حتى تم نقلهم إلى سجن الواحات الذي يتبع محافظة الوادي الجديد وهنا عالم مختلف. سجن من الخيام. شيئا فشيئا استطاعوا مقاومة الفئران وجرابيع الصحراء بالقطط. كان القائمون عليه مثلهم يشعرون بالعزلة فكان بعضهم أكثر لطفا. كانت المشكلة هي انفصالهم عن العالم لكن بدأت زيارة الأهالي واستطاع والده تهريب راديو له. كان معهم إخوان مسلمون لكن أكثرهم يتجنبون الكلام معهم بتعليمات قياداتهم. سمعوا من الراديو خطبة عبد الناصر في المنشية عام 1956 وتأميم قناة السويس وشملتهم السعادة بينما أصاب الإخوان الذهول. بدأو في الزراعة حول السجن لأن الخضراوات تأتي فاسدة ولم يشاركهم الإخوان فيها باعتبارهم ملحدين. كانت تصلهم مع الأهالي وخاصة زوجات المعتقلين نشرات الأحزاب الشيوعية في الخارج ثم حدث العدوان الثلاثي وحاولوا التدريب على السلاح وطلبوا المشاركة في المقاومة. كنوا يتدربون على أسلحة الحرس بلا رصاص .. قلت عمليات القبض علي الشيوعيين في الخارج وتم طرد رعايا فرنسا وانجلترا والتضييق على اليهود. ألقى القبض علي من لا يحمل الجنسية منهم واعتقلوهم وأضطرت عائلات تعيش في مصر منذ عشرات السنين أن تبيع ممتلكاتها وتغادر البلاد في أسبوع واحد. لم يتم التفرقة بين اليهود والإسرائيليين وكانت بداية الهجرة المنظمة لليهود. لقد عاصرت هذا طفلا في الإسكندرية وسمعت الكثير من الحكايات وحيرة الناس في إخراج اليهود الذين كانوا جزءا من نسيج المدينة لكن لا أحد يستطيع أن يتكلم خاصة أن الأمر لم يقف عند رعايا فرنسا وانجلترا واليهود فقط بل مع عام 1957 بدأت الدولة سياسة تحت شعار التمصير قبل التأميم 1961 . اتاحت هذه السياسة للدولة شراء 51% من أسهم الشركات في البورصة فضاق الأمر أكثر علي اليهود والأرمن والطليان واليونانيين والشوام أصحاب الشركات وبدأ الخروج الجماعي لكثير منهم حتي اذا جاء التاميم عام 1961 لم يكن تبقى غير القليلين . كان وراء الأمر شعارات اقتصادية لكن الحقيقة أن الزعيم كان لا يريد اختلافا في الرأي ولا الفكر ولا حتي الذوق، وأن تكون البلاد علي فكر واحد هو فكره، وهو ما استمر حتى الآن . كتبت عن ذلك كثيرا ومنها رواية ” طيور العنبر” وهي الجزء الثاني من ثلاثية الإسكندرية وهذا الخروج الكبير، فضلا عن مقالات وكتابي الأخير ” البيان الأخيرضد فيلم أحب الغلط ” . على أي حال لاشتراك الشيوعيين في الخارج في المقاومة في بورسعيد حدث نوع من التسامح من عبد الناصر تجاهم وانفراجة في المعاملة مع عدد من زملائهم المرضي الذين ذهبوا إلى المستشفي للعلاج في القاهرة وسجونها ومنهم هو عاد إلى سجن مصر ليكون قريبا من مستشفي القصر العيني، وكل ذلك بالاسماء كالعادة.

من الطرائف هنا كيف دخل الترانزستور إليهم قبل أن يُعرَف في مصر. أرسله زملاء في باريس مع أحد الوزراء السابقين اليساريين يدعى “بيير كوت ” جاء إلى القاهرة وقابل عبد الناصر وقابل أيضا زميلة هي “سارة بلاو” وأعطاها الراديو فهربته لهم . قضايا كثيرة جنائية لأشخاص يتحدث عنهم مثل راشد البراوي الذي كان قد ترجم كتاب رأس المال لماركس، وكيف قابله متهما بالاختلاس ومحكوم عليه بسنتين. طارق سليم لاعب كرة القديم المحبوس بالقتل الخطأ بسيارته، وكذلك اللاعب نبيل نصير الذي كان يعامل معاملة خاصة. هذه المرة كان هناك نشاط رياضي لهم كبير في السجن ولعب تنس طاولة وغيره.

حدث انقسام بين الشيوعيين فمنهم من كان مع كل أفعال عبد الناصر وفكرة القومية العربية وبعضهم دعا لمقاطعة مجموعة روما، وهي المجموعة الأوربية التي كان يقودها هنري كوريل بعد أن غادر البلاد والتي كانت ترسل الأموال لأهالي المعتقلين وتكتب عنهم في الخارج. كانت الدعوة للمقاطعة باعتبار طريق عبد الناصر إلى الاشتراكية. وبالمناسبة كانت مجموعة روما ترسل 500 جنيه كل شهر لأهالي المعتقلين مع مسافر يعطيها لوالد البير يوزعها على الأسر وكذلك ترسل أطعمة لهم، ورغم هذه الدعوة استطاع كوريل في الخارج اقناع المجموعة بالاستمرار في عملهم . أيضا خلافات بسبب الوحدة العربية فهناك من يري صعوبتها لاختلاف الشعوب وهناك من يري ضرورة مساندة عبد الناصر فيها . كل ذلك في داخل السجون وخارجها . رغم هذا الانقسام اعتبر عبد الناصر أن انتقاد الوحدة العربية أوفكرة القومية أمر خطير فوقعت الاعتقالات الكبري في يناير 1959 للشيوعيين وجرت سياسة تعذيب جديدة راح ضحيتها شهدي عطية الشافعي وفريد حداد وغيرهما. في أول اكتوبر عام 1959 توفي والده وكانت الصدمة كبيرة . كان هو قد عاد الي سجن الواحات الجديد هذه المرة الذي فيه مباني وليس خياما كالقديم وبينه أقاموا مسرحيات وندوات وتعليم لغات لبعضهم وحياة ثقافية وفنية يطول الحديث عمن ساهموا فيها من كتاب وفنانين وراء الأسوار ، والمضحك أن مصلحة السجون كانت تنشر عنها في نشرتها باعتبارها من منجزاتها. كانت الحياة في الخارج في ارتباك لوالدته التي صارت وحيدة أصابها مرض المياه البيضاء في عينيها التي كان علاجها صعبا، وبدأ بعض العاملين في المحل في سرقتها فهي سيدة وحيدة.

من أبرز ماجري عرض جاءها أن تدفع الف وخمسمائة جنيه نظير الإفراج عن ابنها وتأكد هو من صحة الكلام الذي كان وراءه رئيس المباحث لكنها رفضت وطبعا رفض هو. الحقيقة ان موضوع الرشوة والسرقات من بعض رجال الأمن كثير من بينهم ضابط مثلا كان يهوي سرقة المربى التي ترسلها أمه إليه. خرج هو وغيره في مارس 1964 بعد احتجاج الاتحاد السوفييتي الذي كان ظهيرا لمصر في سياساتها الاقتصادية والسد العالي وقبل زيارة خروشوف لمصر. عاد الي بيته لأول مرة بعد أن أمضي إحدي عشر عاما بينهم ثلاثة أعوام إضافة للثمانية التي حُكم عليه بها.

-4-

يأتي الجزء الأخير بعنوان بداية جديدة. وهو جزء حافل بمحاولات العودة الي الحياة . ان تكون في بيتك تنام وتصحو كما تشاء هي الحرية العظيمة . الحالة المادية لأمه وعملها في نفس الوقت. الحالة السياسية وكيف ظهر ما سمي بالتظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي وكيف انضم كثير من الذين خرجوا من السجون أو الاعتقال إليه. اضطر هو وأمه لبيع المحل بسبب الأزمة المالية. أحاديث مفصلة عن وضع الأحزاب الشيوعية حتي وافق الجميع على حلها. قصص زواج بعض زملائه وقصة حبه هو لسهير شفيق الصحفية في جريدة التحرير وأخت أمينة شفيق وتحوله إلى الديانة الاسلامية ليتم الزواج . كيف تنازلت والدته عن جنسيتها المصرية وسافرت إلى فرنسا لتكون مع أخته الوحيدة. أشياء وأحداث كالملاحم الاسطورية . كيف كان زواجه بسهير سببا في متاعب لها سواء في عملها أو عضويتها بنقابة الصحفيين ومكائد زملائها التي جعلت الأمن يقبض عليها وكيف استطاع بمساعدة اصدقائه اخراجها من الحبس في قسم البوليس وغير ذلك من متاعب لسفرها حتي استقرت الأمور. تأتي هزيمة 1967 وأثرها عليهم وكيف تم حبس مابقي تقريبا من اليهود . كيف تقدم هو في العمل السياسي الرسمي في الاتحاد الاشتراكي يساهم في مؤتمرات بمصر والخارج. محاولاته ليخرج من الأزمة المالية فعاد إلي الاستيراد والتصدير الذي كان يمارسه قديما مع والده وحديث طويل عن الشراكة مع غيره ونجاح التصدير لأكثر من دولة أوربية الفاصوليا والطماطم وغيرها، وشراء أرض في النوبارية ومشاكل الزراعة وبيع الأرض وبناء بيت في العجمي وغير ذلك كثير . كان السادات قد جاء إلى الحكم وبدأت مرحلة جديدة من الهجوم على مكتسبات الفترة الناصرية في الاقتصاد وفتح الباب للإخوان المسلمين والفكر الوهابي فبدأت الأحزاب الشيوعية تفكر في العودة. عاد الحزب الشيوعي المصري بشكل سري وكان فيه مع رفعت السعيد ومبارك عبده فضل ومحمود العالم وغيرهم حتى خفت وجود الحزب في الثمانينات .كان من الطف الأحاديث حديثه عن مبارك عبده فضل النوبي الذي أسموه الشيخ مبارك الشيوعي الذي ذكرني بذكريات لطيفة حين كنت في بداية حياتي في القاهرة في السبعينيات منتميا إلى هذا الحزب الشيوعي المصري، وكان مبارك عبده فضل يقابلني ليعطيني أعدادا من مجلة الحزب ” الانتصار” لأذهب بها إلى الإسكندرية باعتباري سكندري الأصل ولن يشك في أحد . حكايات لطيفة حكيتها في كتابي “الأيام الحلوة فقط” وكتابي “ما وراء الكتابة ” وكيف تركت العمل السري عام 1978.

تظل تمشي مع ماهو عام وخاص فتعرف انجابه لأبنه سامي وهاني وكيف تعلما وكبرا وصار سامي يساعده في عمله. وفاة والدته عام 1980 في فرنسا ودفنها هناك. صفحات في رثاء اصدقاء العمر في الحياة والسجون ثم يتحدث عن كيف صار مشهورا غصبا عنه حين بدأت الصحافة تطلب منه أحاديث عن اليهود وتاريخهم في مصر وموجة من الأفلام التسجيلية معه بعضها تم وبعضهم لم يتم ولقائه بالدكتور محمد ابو الغار الذي كتب كتابه عن يهود مصر وغير ذلك. كيف شجعه ابنه سامي أن يكتب مذكراته فكتبها وإن تأخر فيها بسبب الكورونا. ينهي الكتاب متواضعا قائلا انه ليس شهادة علي تاريخ مصر بقدر ماهو شهادة عن أشخاص رائعين مصريين وغير مصريين عاشوا فيها وخارجها. إن تواجد اليهود في مصر لا شك يشكل جزءا من من التراث المصري، وللأسف ان عدد أفراد الطائفة اليهودية الآن في مصريمكن عده علي أصابع اليد الواحدة. أما بقية الجاليات الأجنبية فلا أحد . لقد انتهي عصر الكوزموبوليتانية التي كانت فيه مصر أم الدنيا.

الكتاب رحلة حياة ألبير آريِّه، لكنه أيضا رحلة وطن عبر مائة عام تقريبا منذ وفد والده إلي مصر في بدايات القرن الماضي.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *