حوار مع المستعرب الإسباني البارز خوسيه ميغيل بويرتا

(ثقافات)

حوار مع المستعرب الإسباني البارز خوسيه ميغيل بويرتا

 

حاوره: أصيل الشابي / تونس

 

ربّما علينا القول إنّ العودة إلى الأندلس في عصورها الوسطى أمر في غاية التشويق، فقد ظلّت هاته القصّة تتأرجح بين التجاهل والإعجاب، ذلك أنّ عبارة العصور الوسطى ظلّت محاطة بسيادة التعصّب والجهل والانحطاط. ولكنّ جهودا بارزة حفرت في الجغرافيا الأوروبيّة ذاتها مبرزة المثال الأندلسي الثقافي والحضاري ورفعته مجدّدا إلى دائرة الضوء، وتندرج في هذا المضمار جملة من الأعمال العلميّة الدّقيقة التي أعادت قراءة الماضي والإنصات إليه كالأمريكيّة ماريا روزا مينوكال في كتابها الأندلس العربيّة( 2002) والفرنسي غوستاف لوبون في كتابه المشهور حضارة العرب وغيرهما من الباحثين الإسبان على وجه الدقّة. لقد عمّق الإسبان معرفتنا بالأندلس وأعادوا الاعتبار إلى الفنّ العربي الأندلسي ضمن رؤية جماليّة خلاّقة ملهمة. هناك مساءل كثيرة تثير التساؤل لا فقط من الوجهة التاريخيّة، وإنّما وبشكل دقيق من الوجهة الجماليّة التي تتّصل بفلسفة الإنسان وطموحه الإبداعي الخلاّق ونظرته إلى الحياة والكون. اخترنا أن نحاور لهذا الغرض المستعرب الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا المولود في 1959 بغرناطة والمتخصّص في تاريخ الفنّ بجامعة غرناطة، اشتهر بدراسته لتاريخ الفنّ الأندلسي، ومن أهمّ كتبه البنية الطوباويّة لقصور الحمراء( غرناطة 1990) وتاريخ الفكر الجمالي عند العرب: الأندلس والجماليّة الكلاسيكيّة العربيّة( مدريد 1997) و قراءة الحمراء: الدليل المصوّر للكتابات المنقوشة في قصور الحمراء( غرناطة 2010) والنزعة الإنسانيّة والفنون الجماليّة في الثقافة العربيّة( بيروت ــ باريس 2012) و معنى فنون وعمائر قرطبة الأمويّة( مدريد 2013). سيجد القرّاء في هذا الحوار توضيحا لمفهوم الفنّ العربي أو الإسلامي وقراءة متأنّيّة ورصينة للعمارة الأندلسيّة، كما سيجد توضيحا لأبعادها الجماليّة الإنسانيّة الملهمة للحاضر والمستقبل. ونشير، أيضا، إلى أنّ الأستاذ ميغيل قد ترجم من العربيّة إلى الإسبانيّة لغادة السمّان وأدونيس و للفنّان التشكيلي الفلسطيني كمال بُلاطة، ولكنّه اشتهر بكونه القارئ، أي قارئ الحمراء، وهو ما سنقف عليه من خلال تفسيراته وتدقيقاته وتنويره هنا للكثير من الجوانب المعتمة.

سألناه: هناك اختلاف بل جدل في تحديد مفهوم ما يُصطلح على تسميته بالفنّ الإسلامي، ومن أسباب هذا الجدل اشتمال العمارة الإسلاميّة على مكوّنات لا تُنكر تمثّل الديانتين المسيحيّة واليهوديّة الناتج عن الاختلاط التاريخي، ففي مدينتي الأمّ تستور في تونس وهي مدينة موريسكيّة نجد على الصومعة نجمة داوود اليهوديّة ونجد المثلث المسيحي في أعلى المحراب والصلبان المائلة على أبواب الجامع الكبير، إنّها حقائق فنيّة واضحة المعالم لها سياقاتها التاريخيّة الدالة على التسامح الديني، وربّما من الجيّد أن نذكّر في هذا السياق بموقف الفرنسي أوليغ غرابار الذي يلغي الحدود الدينيّة في دائرة الفنّ الإسلامي، كيف تنظر إلى هاته المسألة في ضوء دراستك واطّلاعك الدّقيق على خصائص التراث العربي الإسلامي في إسبانيا وخارجها؟

أجابنا: الموضوع الذي طرحته للتعليق عليه جد مهم ويقودنا إلى كنه الفن الإسلامي فنا شاملا على ثقافات فنية عدة، شأنه شأن الحضارة الإسلامية ذاتها التي تحتضن معتقدات ورؤى أهل الكتاب وغيرها بروح التآخي وليس إلغاء الآخر. في هذا الصدد أذكر دوماً صديقي الفنان الفلسطيني الراحل كمال بلاطه الذي كان ينتمي إلى عائلة مقدسية مسيحية واعتبر فنه وفكره الفني جزءا من “الفن الإسلامي”. بدأ كمال بلاطة مشواره الفني في مشغل للأيقونات البيزنطية في مسقط رأسه مدينة القدس، ثم تابع دراسته في “مدرس الفنون الجميلة” الشهيرة في العاصمة الإيطالية، وعقب احتلال الجيش الإسرائيلي القدس في عام 1967 اغترب للأبد، أولاً إلى واشنطن، ثم فرنسا وأخيرا برلين. في الاغتراب التفت كمال، كما هو الحال لدى العديد من الفنانين العرب المعاصرين، إلى الخط العربي والى نصوص علماء الطبيعة، كابن الهيثم، والصوفية العرب القدماء، أمثال النفري وابن عربي وسواهما، لخلق فنّ عربي حديث يعتمد على الميراث العربي الرّائع الذي يعطي رسالة فنية وإنسانية بحتة لإنسان يومنا الراهن في أي مكان. لدينا كذلك درس كل من الخطاطين منير الشعراني وحسن المسعود، والتونسي نجا المهداوي، وغيرهم الذين أنتجوا روائع حديثة وطليعية منفتحة على تقنيات ومطالب الحداثة انطلاقا من أسس الفن الإسلامي الكلاسيكي، ليونة الخطوط العربية، رونق ألعاب الألوان، عمق النصوص المختارة سواء أكان من التواره أو الانجيل او القرآن الكريم، أم من الشعر والحِكَم والفكر العربي والعالمي، ما يدل دلالة واضحة على أن الفن الإسلامي ليس فقط فنا غذّى الحضارات في آسيا والمشرق والمغرب بل ذخيرة مفاهيم ورؤى للفن الحديث، ولذلك بحث فيه أعلام الطليعات الفنية الأوروبية أمثال كنديسكي وبول كلي وبيكاسو وسواهم. في فترة الأندلس، مثلاً، أصبحت مكونات الفن الإسلامي أنموذجا للفن الراقي وانتشرت النقوش العربية والمقرنصات والزخارف الهندسية والنباتية الخاصة بالفن الإسلامي في عمارة وفنون الدويلات المسيحية الإسبانية، الأمر الذي استمر بعد سقوط غرناطة عبر ما يُعرف بالفن “المدجن”. في كنيسة قريتي الصغيرة، دوركال، جنوب غرناطة وفي أغلبية الكنائس المبنية في الضياع والمدنة الإسبانية بعد احتلال هذه المنطقة أو تلك، لا تزال بينة السقوف الخشبية الإسلامية البديعة وأساليب تزييينة مشابهة استعملت في الكنائس اليهودية في قرطبة وطليطلة، مثلا، ثم وصلت إلى أمريكا على يد المحتلين الاسبان.

سألناه: تمثّل العمارة العربيّة الإسلاميّة في إسبانيا حلقة تطوّر حضاري مهمّ جدّا وخاصة فيما يتعلّق ببناء القصور، فلا يخفى على سبيل المثال أنّ قصر الجعفريّة بسرقسطة الذي بناه أبو جعفر المقتدر بالله بن هود في القرن الخامس الهجري يذكّر بالعمارة اليمنيّة الصنعانيّة، بل إنّ تصميم قصور الأندلس يذكّر ببناء القصور في مدينة سامراء في العراق حيث تتقدّم القصر الشبيه بالمدينة الأبواب الضخمة العالية والأفنية الواسعة المتتابعة وحيث تحيط بقاعات العرش والاستقبال أجنحة الحريم والأمراء والثكنات العسكريّة والحمّامات والأسواق، فيم تتمثّل خصوصيّة العمارة الأندلسيّة وإضافتها النوعيّة سواء تعلّق الأمر بتصميم القصور وهندستها وتجميلها أم تعلّق بالمدن في حدّ ذاتها؟

أجابنا: في رأيي، لا ريب أن ما يميز العمارة الأندلسية هو العلاقة التي أقيمت فيها بين فنون البساتين والبناء والشعر. من البديهي أن العمارة الأندلسية تنحدر من العمائر السابقة في المشرق وشمال افريقيا وان تلك المناطق زودت العمارة القصورية الأندلسية بتصاميم وأساليب جديدة على مر العصور، ولكنّني أنا على يقين أنّ الأندلسيين ذهبوا بعيدا في الإبداع في التصاميم المعمارية والزخرفية وفي دمج الجنان في المباني وفي شَعْرَنَة عمائرهم. تصميم التراكب الأقواس في جامع قرطبة وتشكيلات الأقواس المفصصة وتشابكها في مقصورة الخليفة الحَكمَ في الجامع عينه، والتزيين الميتا-معماري، للأقواس “المتحركة” في جعفرية سرقسطة، لا نظير لها في تاريخ الفن الإسلامي، كما لا يوجد ثمة مثيل في تطوير ما اسميه انا بالعمارة الشعرية أو الشعر الممعاري الذي بلغ ذروته في قصور الحمراء. ويواكب كل ذلك حضور المياه الساكنة والسائلة والجنان والتشكيلات النجمية السماوية ضمن عمائر متكاملة ومشيدة على حجم الإنسان، إنسانية إن صحت العبارة.

سألناه: طرأت على العمارة الأندلسيّة تغييرات عميقة أحيانا ومقصودة بحكم الصراع التاريخي الديني والتداول على نفس المعالم وتغيير هويّاتها جماليّا ورمزيّا كما حصل في جامع قرطبة أو ما يُعرف بكاتدرائية جامع قرطبة حيث يختلط الفنّ الإسلامي بالفنّ المسيحي، إلى أيّ مدى يمكن القول اليوم إنّ العمارة العربيّة الإسلاميّة في إسبانيا تقدّم نسقا ثقافيّا متكاملا يعبّر عن رؤية ثقافيّة مميّزة تختلف عن غيرها من الرؤى الثقافيّة؟

أجابنا: من المعلوم أن العمارة الأندلسية أسفرت عما اعتبره المؤرخ الاسباني منداث بيدال Menéndez Pidal الفن الوحيد الذي خلقه الإسبان، ألا وهو الفن “المدجن”، الذي أشرت إليه آنفا. في مدينة قرطبة يقول الناس العاديون المسيحيون “نذهب إلى القداس في المسجد”، لأن المسجد الأموي الذي احتفظ بكل عناصره المعمارية والزخرفية والخطية أو يكاد، رغم التغيير الكبير الذي مثله تسييد كاتدرائية في مركزه، بقي، مثله مثل صومعة اشبيلية وجعفرية سرقطسة وقصور الحمراء وعشرات القصور الأخرى والمنازل الأندلسية المنتشرة في اسبانيا، ماثلاً أمام عيون الاسبان واسترعى أنظار الشعب والفنانين والمثقفين والشعب الاسباني حتى اليوم ويستفيدون من ذلك التراث حتى يومنا الحالي. لأذكر ظاهرة “الفن الموريسكي” الذي اعتمدت عليه السلطات الاسبانية في المعارض العالمية لتمثيل دولة اسبانية منذ نهاية القرن 19 م وشيوع المدجن في اسبانيا وامريكا. داخل إسبانيا تجدر الإيماءة إلى بعض كنائس طليطلة التي يوجد فيها صور مسيحية مرسومة ومحاطة بكتابات عربية، وفي القصر الملكي لملك قشتالة بيدرو الأول، صديق وحليف لمحمد الغني بالله الغرناطي، الذي ملأ جدران بوابته الرئيسية وقاعات العرش بكتابات عربية على غرار كتابات الحمراء الجدارية بما فيها شعار “ولا غالب إلا الله” والقصيدة الدينية الإسلامية “يا ثقة يا أملي انت الرجاء انت الولي فبالنبي المرسل اختم بخير عملي”، الشائعة كذلك في مباني غرناطة النصرية. شعبياً يتداول القول “هذا صنع موسوس [عرب]” للإشارة إلى دقة مصنوع ما. وفي العديد من العمائر والتصاميم الفنية الاسبانية الحديثة ينبض النمط العربي الأندلسي لأن الفنانين والمعماريين الإسبان الجدد معجبون بهذا النمط.

سألناه: يقسّم فيكتور بيكي Victor Piquet في كتابه ” إسبانيا العرب: لمحة تاريخيّة” L’Espagne des maures :esquisses historiques  تاريخ العمارة العربيّة الإسلاميّة في إسبانيا إلى ثلاث مراحل مفصليّة، مرحلة الخلافة في قرطبة والمرحلة المرابطيّة والموحّدية في إشبيليّة ومرحلة بني الأحمر في غرناطة من خلال قصر الحمراء، ما هو تعليقك على هذا النهج في التقسيم؟ وهل من الممكن أن تضيء لنا مرتكزاته؟

أجابنا: لا بد أن نضيف إلى تلك المراحل الثلاثة مرحلة الطوائف الممتدة بين الفتنة التي قضت على الخلافة الأموية بقرطبة ودخول المرابطين الأندلس. فترة الطوائف مهمة للغاية ولا زالت هنالك الكثير من الآثار قائمة بشكل شبه كامل أو مرممة في إسبانيا. أبرزها، طبعا، هو جعفرية سرقسطة، التي تُعدّ أهم مبنى وصلنا من القرن 11 م في إسبانيا بأسرها، والذي يحتضن اليوم مقرّ سلطة إقليم أراغون شمال شرقي اسبانيا. في هذه المرحلة تعددت الأساليب المعمارية والفنية وإن فقدت العمائر ضخامة المباني الأموية القرطبية. لدينا بقايا بسيطة من قصور الملك الشاعر المعتمد بن عباد في إشبيلية، ولكن نحظى بأوصاف شعرية ونثرية لتلك القصور، كما هو شأن قصر المأمون في طليطلة، بينما كانت غرناطة ومالقة والمرية ومرسية وفلنسية، وغيرها من المدن الأندلسية، قد أمست مدنا متكاملة تتنافس بينها غالبا في مجال الفن والبناء والتمدن. وإن كان مسجد قرطبة الذي شُرع في بنائه بأمر من عبد الرحمن الداخل واستكمل في نهاية الخلافة الأموية تحت رعاية الحاجب المنصور بن أبي عامر، ومدينة الزهراء لعبد الرحمن الناصر علامات بارزة، فإنّ ملامح العمارة الإسلامية الأندلسية بينة في قصبات مالقة والمرية وغرناطة وفي شوارع مدن مركز وجنوب وشرق شبه الجزيرة الإيبرية، ناهيك عن المتاحف الوطنية والمحليّة المزدهرة بتحف فنية تُعدّ بالآلاف عائدة إلى كل مراحل الأندلس التاريخية. أما في غرناطة، التي كانت عاصمة دولة إسلامية مرتين، في عهد بني زيري في القرن الحادي عشر الميلادي، ثم في آخر الأندلس في عهد بني الأحمر بين القرنين 13 و15 م، فإنّك ترى فيها جزءا من أبواب المدينة وأسوارها، وفندقا ومارستانا والمدرسة اليُوسفية علاوة على قصور الحمراء وجنّة العريف وقبة جنان، وهي المنجزة الكبرى وقصر الشنيل، وقصر الشابيث في حارة البيازين وحمام الجوز وبقايا حمامات أخرى، وغيرها من المباني الأندلسية الفخمة والعادية، و”متحف الحمراء” المكرس للفن الأندلسي والنصري.

سألناه: ما رأيك في الجهد الذي بذله العلاّمة الفرنسي ليفي بروفنسال في كتابه” النقوش العربيّة الإسبانيّة” وفي غيره من الكتب الأخرى مثل” تاريخ إسبانيا المسلمة” ومن خلال مجلّة أرابيكا؟ وما هي خصوصيّة تمشيه في دراسة التاريخ العربي الإسلامي في المغرب وإيبريريا مقارنة مع غيره من الإسبان؟

أجابنا: كان مجهود العلامة الفرنسي ليفي بروفنسال رائدا في الدراسات الأندلسية والمستعربون الإسبان يعتمدون من ناحية أو من أخرى على أعماله المتعلقة بتاريخ وأدب ونقوش الأندلس. لنذكر فقط عثوره على مخطوط كتاب “التبيان” لعبد بن بلقين ونشره في عام 1955، آخر ملوك مملكة بني زيري الغرناطية، الذي هو نص نادر في سرد التاريخ  في العصر الوسيط برمته، والكتاب الذي أشرتم إليه حول النقوش العربية في اسبانيا، وهو كتاب لا زال مفيداً رغم أنه تم العثور على نقوش جديدة كما قام الباحثون الإسبان بتمحيص قراءاته لبضعة نقوش في ضوء اكتشافات جديدة. كان تعاونه مع المستعرب الاسباني المشهور غارثيا غوميث مثمراً بالفعل وساهم بروفنسال مساهمة رائعة في أعلام الإسبان والعرب والغرب بكنوز الثقافة الأندلسية. على كل حال، دعني أضيف أن الاستعراب الاسباني تقدم كثيرا بعد ذلك العهد الذهبي الذي ينتمي إليه كل من بروفنسال وغرثيا غوميث، وأنه يجب على المهتمين بالميراث الأندلسي أن يطلعوا على منتوج ذلك المستعربين الاسبان النشطين بعد منتصف القرن الفائت والذي غالباً ما لم يترجم إلى اللغتين الفرنسية والانجليزية وظل مجهولاً نوعا ما. فهناك، على سبيل المثال وليس الحصر، موسوعة الأندلس المعنونة بـ “مكتبة الأندلس”، التي حررها حوالي 160 مستعربا على مدى عشرة أعوام بين 2002 و2012 لتدوين السيرة الذاتية لكل المؤلفين والمؤلِّفات الأندلسيين المعروفين، وعددهم ما يناهز 3000 مؤلف ومؤلفة، ومعلومات وتحليل لكافة مؤلفاتهم التي يبلغ عددها عشرة آلاف. أما غرثيا غوميث وآسين بلاثيوس قد أسسوا مجلة “الأندلس” التي أضحت بمرور الوقت مصدرا لا يستغنى عنه، يواصل مسيرها وريثتها مجلة “القنطرة” التي تصدرها المجلس العالي للدراسات العلمية وتعد بين أهم المجلات العالمية المتخصصة في الأندلس والثقافة العربية الكلاسيكية.

سألناه: يتوافد ألاف السيّاح على قصر الحمراء لاكتشاف فنونه والتمتّع بها، أحبّ أن أسألك في هذا الإطار عن قدرة العمارة الأندلسيّة بوصفها فضاء تعبيريّا على الجمع بين جملة من الفنون مثل الخطّ العربي والزخرفة والرقش على الخشب وتحقيق الانسجام بينها وتوظيفها، كما أحبّ أن أسالك عن علاقة كلّ هذا بثنائيّة التجريد والتجسيد في الفكر العربي الإسلامي.

أجابنا: في نظري الميزة الجوهرية لعمارة الحمراء كفضاء جامع  لكل الفنون العربية الإسلامية الكلاسيكية تكمن في أصالة ورقة التصاميم التي توظف كل الأساليب الفنية السابقة ويرفعها إلى قمة جمالية بوسعنا الآن، ولله الحمد، أن نتأملها بشكل شبه كامل على ما كان عليها في الأصل. وإلى جانب تحويل القصور إلى دواوين شعرية منقوشة غدت الأبيات الشعرية لوحات خطية كل واحدة على حدة، ابتكر خطاطو الحمراء “الكوفي المعماري” وصنعوا من المباني عمارة ناطقة وقارئة للشعر. أما الرقش لا يكتفي لوظيفة التزيين المحض فإنه اكتسب بعدا رمزيا مهمّا جدّا في تصاميم كتصميم قبة العرش للسلطان أبي الحجاج يوسف، أكبر قاعة عرش وصلتنا من القرون الوسطى شرقا وغربا،والتي هي بدون شك أروع صنع خشبي في تاريخ الفن الإسلامي، إذ أنها تتكون من 8017 قطع خشب وتمثل السبع السماوات المومأة إليها في سورة الملك الكريمة المطلية بالطلاء الأبيض في قادعة القبة الخشبية. وعلى الرغم من أن الفن الإسلامي لا يسعى أساسا إلى تمثيل الواقع كما يراه العين البشرية، غير انه يستعمل كذلك فنون التصوير كما يحدث في قصر “الرياض السعيد” (قصر الأسود الشهير) الذي يوجد في وسطه نافورة الأسود، المشكّلة بمنحوتات لاثني عشر أسداً وقصيدة منقوشة على حافتها، وهناك قبب قاعة الملوك الثلاثة المجاورة والمزخرفة برسوم تمثل مشاهد ملكية وبلاطية. ولكنّ، الفنون الإسلامية تصبو إلى خلق تحف وفضاءات بعيدة عن الواقع، أو بالأحرى تأخذنا إلى واقع غرائبي، خيالي، غير معتاد وقادر على إثارة الإعجاب فيناكما ذهب إلى ذلك حازم القرطاجني في “منهاجه”، فتلك الفنون قيمة في حدّ ذاتها سواء أكانت العمارة في ذروة ضخامتها أو في صورة أصغر المصنوعات. هذا الأمر يقرّب الفن الإسلامي كثيراً من ذوق الفن الحديث.

سألناه: سكت كثيرون في السابق عن تأثير العمارة العربيّة الإسلاميّة في أوروبا، ولكنّ الموضوعيّة مكّنت في مناسبات عديدة من القراءة عن هذا التأثير كما هو الشأن فيما يتعلّق بتطوير تغطيات المنازل والقصور الأوروبيّة  بالقباب على شاكلة قبّة جامع قرطبة الهرميّة المغطّاة من الخارج بالقرميد والمفرّغة من الدّاخل بحشوات موزّعة في تكوينات هندسيّة رائعة، ماذا لو بيّنت لنا مدى هذا التأثير وعلاماته.

أجابنا: نعم، تأثير العمارة العربية الإسلامية في أوروبا، وكذلك في أمريكا الشمالية والجنوبية، واسع النطاق بلا شك ويوجد ثمة العديد من الدراسات حول هذا الموضوع. ومثلما ذكرت سلفا، فضلا عن الفن المدجن الاسباني الذي انتقل إلى أمريكا اعتبارا من القرن 16 م، نشأ ما يعرف بالفن الموريسكي المحتد (Moorish Art) في إنجلترا حيث تبنت هذا الأسلوب سلسلة قاعات سينما في القرنين 19 و20م، وكذلك في بعض قاعات مسرح ألمانية وأمريكية، مصممة بقبب المقرنصات وأقواس وزخارف رقش وخطوط عربية مستنسخة كلها من قصور الحمراء الغرناطية وجامع قرطبة. ومن أسباب هذه الموجة المعمارية، التي أصبحت موضة وتندرج في تاريخ العمارة العالمية الحديثة بعنوان “الأسلوب الموريسكي” أو “العربي المحدث” و”الأسلوب الحمرائي”، يعود إلى جهد المصمم والمعماري الإنجليزي Owen Jones(1864) ورسومه الرائعة لزخارف حيطان الحمراء والتي أنجزها سعيا لإعداد الزخرفة الإسلامية كنموذج قابل للتطبيق في الحداثة على غرار أساليب العمارة الكلاسيكية الأخرى. ومن اللّافت للانتباه أن هذا الأسلوب “الحمرائي” تم تطبيقه في أوروبا وامريكا في بيوت خاصة فخمة وفي مباني متعلقة بالتسلية الجماهيرية عبر الخيال والسحر، كقاعات السينما والموسيقى والمسارح وأيضا لبناء ملاعب مصارعة الثيران في إسبانيا وأمريكا الجنوبية لأن تلك الأقواس الحودية والمفصصة والأعمدة الأنيقة والنقوش والزليج والرقش وشعار “ولا غالب إلا الله” يمثل الهوية الاسبانية الأصيلة.

سألناه: افتتان الأندلسيين بالحدائق والجنان مشهور في الشرق والغرب، ما هي إضافاتهم في هذا المجال؟ وما هي المصادر التي ألهمتهم؟

أجابنا: سأقتصر على التلميح إلى أنه اهتمام الأندلسيين بالجنان والحدائق شيمة رئيسة في ثقافتهم وأنها تتعدى مجرّد هواية أو رغبة ترفيهية. إنه بكل تأكيد أسلوب حياة ورؤية راقية للعالم وموقع الإنسان فيه. يكفي أن نذكر أنه مذ أبي القاسم الزهراوي، صاحب “كتاب التشريح” المستخدم في أوروبا كمرجع طبي تطبيقي حتى القرن 19 م، ولد وتوفى في مدينة الزهراء القرطبية في القرن 10 م، و اشتغل بستانيا في الزهراء عينها، وحظيت مملكة غرناطة بمعطيات ومؤلفات وكتب العديد من البستانيين .كان الزهراوي أيضا مؤلف “مختصر في علم الفلاحة” الذي لم يصلنا للأسف. أما تلميذه ابن الوافد (ت1075م) فقد امتهن الطبّ والصيدلة وزراعة البساتين هو الآخر، فبالإضافة إلى كونه صاحب كتاب “الأدوية المفردة” الذي ترجم إلى اللاتينية والعبرية والكاتالونية، عيّنه ملك طليطلة المأمون بن ذي النون مسؤولاً عن “بستان الناعورة”، وهي مُنية بناها المأمون، الملقب، بالمناسبة، بـ “عاشق البساتين”، ولم يبق منه سوى بعض الآثار وبركة على حافة نهر تاخو في ضواحي طليطلة. لابن وافد كتاب “مجموع في الفلاحة” تُرجم إلى الإسبانية والكطالونيّة يُقدم معارف نظرية مأخوذة من مصادر شرقية. خلفه في إدارة مُنية الناعورة ابن بصّال، من أهل طليلطة كذلك، دوّن كتاب “القصد والبيان”، الذي يُعدّ النص المؤسس لعلم الفلاحة التجربية الأندلسية، وقد تضمّن أول إيماءة معروفة إلى شجر البرتقال في شبه الجزية الإيبيرية في أواخر القرن 11 م، تابع المهنة الطِّغْنَري، الذي احترف الشعر الرسمي لصالح عبد لله بن بلقين وأخذ علم الفلاحة بإشبيلية من الطبيب أبي الحسن شهاب، تلميذ ابن بصال، ثم سافر إلى المشرق وبعد العودة إلى غرناطة ألّف كتاب “زهرة البستان ونزهة الأذهان” أهداها الحاكم المرابطي تميم بن يوسف بن تاشفين. هذا الكتاب موسوعة مثيرة لأنها عُنيت بعلم الأفلاك والطب والنبات والفلاحة مزج فيه المؤلّف بين ما تعلم في رحلته إلى الجزيرة العربية والشآم وفلسطين ومصر، من ناحية، وما تشرّب من نصوص وتجارب ابن وافد وابن بصال من ناحية ثانية. في إشبيلية، أدار الطغنري “جنة السلطان” للملك-الشاعر المشهور المعتمد بن عباد ناقلا المهنة لابن الحجّاج وابن الخير الإشبيليي مؤلف “كتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب”، الذي أخذ منه كل من الطغنري المذكور وابن العوّام. وتوّج ابن ليون التجيبي هذا المسار العملي بأرجوزته “كتاب إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في علم الفلاحة” المنظومة في عهد ابي الحجاج يوسف، عام 1349، مختصراً آراء علماء الفلاحة الأندلسيين المذكورين وواصفاً طريقة لبناء بستان مثالي على غرار مُنية “جنة العريف”. يضاف إلى هذا المسار العلمي تكوين نزعة شعرية أندلسية خاصة بالحدائق والأزهار، اشتهر بها ابن خفاجة الملقب، على فكرة، “بالجنّان” (ق 11 م) والذي ترك بصمة عميقة في شعراء حمراء غرناطة.

سألناه: ألقيت مؤخّرا محاضرة عن الخطّ العربي، ونعلم أنّه تحوّل على مدى التاريخ من البساطة إلى صور أخرى أصبح فيها مورقا ومزهرا و مضفورا عن طريق استغلال الفراغات التي تُتيحها الحروف، كما نعلم أهميّة هذا الفنّ ولا سيّما من خلال علاقته بالقرآن الكريم والشعر وهيمنته على الجداريات ومنها جداريات قصر الحمراء. ماذا لو تطلعنا على محطّات هاته المحاضرة وأسئلتها الهامة.

أجابنا:بدأت مسيرة الخط العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ فتح الأندلس حيث تم سبك أول النقود الأموية بحروف كوفية بسيطة اتّبعت نمط مسكوكات الخليفة عبد الملك في الشرق. تتمثّل أنماط الخطوط العربية في مرحلتي الإمارة والخلافة الأموية بالأندلس في بعض الأصناف الخطية الكوفية الموصوفة بالكوفي البسيط والكوفي المزهر الذي بلغ أوج أناقته في عمائر وتحف خلافة عبد الرحمن الناصر وخصوصا في خلافة ابنه الحكم المستنصر بالله. يُلاحظ في هاته الفترة ظهور خصائص الخط الأندلسي-المغربي في بعض المخطوطات، ويبدو أنّ ذلك تلبية لضرورة تسهيل الخطوط الكوفية لنسخ المصاحف والمدونات العلمية والأدبية. ولا يُستبعد، هنا، تأثير نماذج من كتابات المسيحيين المستعربين الذين كانوا ينسخون النصوص الدينيّة باللغتين اللاتينية والعربية معا. ثمة ورقة ختام في كتاب “مختصر أبي مصعب” مهدى إلى الخليفة الحكم المستنصر بالله القرطبي محفوظة في مكتبة القرويين بفاس للناسخ حسين يمكن اعتبار خطها أندلسيا وسابقة لخطوط المصاحف والمخطوطات الكثيرة التي سينجزها الأندلسيون بعدئذ. أما في العمارة، فقد حدثت وظهرت أنماط “مهندسة” في قصر الجعفرية، حيث تُوجد نقوش قرآنية كوفية مذهبة وتتفرع من الحروف أشكال هندسية. اشتدّ في عهد الموحدين استعمال الخطوط اللينة أو المرسلة في الزخرفة والعمائر إلى جانب الكوفي، كما هو الشأن بالنسبة إلى باب مسجد اشبيلية و تحف أخرى. ونشاهد في عصر بني الأحمر بغرناطة ازدهارا عجيبا للخطوط الكوفية المزهرة والمورقة والمضفرة والمعمارية، كما انتشرت في جدران قصورهم لوحة خطية كوفية هي عبارة عن أروقة خطية مشكلة بأقواس مفصصة صغيرة ناجمة عن الحروف التي تتضفر كذلك،  وتنقسم النقوش، في الكثير من الأحيان، إلى قسم كوفي وقسم لين، مثل “الغبطة [بالكوفي] المتصلة [بالخط اللين]” أو الشهادة “لا إله إلاّ الله [بالكوفي] محمد رسول الله [بالخط اللين]”. لقد تطوّرت في قصور الحمراء، التي هي متحف رائع للخط العربي، أنماط الخط اللين كما لم تتطور سالفاً في عمارة الأندلس، خاصة في النقوش التذكارية (لوحتي تأسيس كل من المدرسة اليوسفية والمارستان ولوحة تأسيس باب الشريعة بالحمراء، التي نقشت بنسخ أو ثلث أندلسي مزكشة خلفيتها بتواريق رقيقة جدا، وفي القصائد الجدارية، التي بدأت بخطوط نسخية بسيطة وصغيرة ووصلت إلى لوحات مخطوطة بثلث أندلسي بديع في مباني محمد الغني بالله (باحة الرياحين وقصر الرياض السعيد / قصر الأسود).

سألناه: بم تتميّز نظرة الإسبان اليوم للمدن الموريسكيّة خارج إسبانيا التي تحوي تراثا معماريّا وتراثا ثريّا في مجالات الموسيقى واللّباس والأطعمة وحتّى اللّغة؟

أجابنا: للأسف أغلبية الإسبان ليسوا على دراية بوجود هذا التراث المشترك بين ضفتي المتوسط في المجالات الحضارية التي أشرتم إليها. هذا بشكل عام، ولكن مؤسسات كمؤسسة التراث الأندلسي، ومقرها في غرناطة، منذ ما يزيد عن عشرين عاما ومؤخرا مؤسسات أخرى كـ “البيت العربي” (مدريد وقرطبة) و”مؤسسة الثقافات الثلاثة” (إشبيلية) و”جمعية الصداقة الإسبانية-العربية” وغيرها، وأحيانا حتى وسائل الإعلام الوطنية والمحلية تظهر للمواطنين الإسبان كل تلك التقاليد والتراث المشترك بين إسبانيا والبلدات المغربية والعربية، كما يوجد هناك مدرسة عريقة في الاستعراب الاسباني الذي يبرز ذخيرة المفردات العربية المتواجدة في القاموس الاسباني. الإسبان يفتخرون بذلك وإن لم يكنوا مطلعين على كل تفاصيله.

سألناه: هل أنت راض على طريقة تقديم التراث الأندلسي في المدرسة الإسبانية؟

أجابنا: لست راضيا بذلك، وإن تقدمت طريقة تقديم هذا التراث العظيم في المدارس الاسبانية في العقود الأخيرة مقارنة مع فترة طفولتي وشبابي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. الآن دراسة اللغة العربية متوفرة أكثر بكثير، خاصة في جامعات وفي مدارس اللغات الرسمية في أهم المدن الإسبانية، ولكن لم يصل هذا التعليم  حتى الآن إلى مدارس الأطفال. مواد تعليم هاته الفترة الهامة من تاريخ إسبانيا، ألا وهي الأندلس، قليلة جدا في التعليم الابتدائي والثانوي في إسبانيا. وهناك اختلاف واضح بين الأقاليم، ففي بعضها يدرس ويقدم التراث الأندلسي بصورة أوسع ممّا يحدث في أقاليم أخرى، بيد أنه بشكل عام أنا من الذين ينادون بتوفير تعليم اللغة العربية كلغة ثانية إراديا في المدارس وإلى تقوية تعليم التراث الأندلسي لكل ما يتضمنه من قيم علمية وفنية وروحية وإنسانية، ولكونه جزءا لا يتجزأ من الهُوية الإسبانية.

سألناه: ما هي الأعمال الإبداعيّة التي استلهمت التراث الأندلسي والتي حقّقت انتشارا واسعا بحسب رأيك في المجتمع الإسباني في مجالات الموسيقى والسينما والرسم والأدب؟

أجابنا: تحدثنا عن العمارة، وهذا هو مضمار حضاري لا زال حيا حتى الآن في إسبانيا. فيما يخص الموسيقى، لدينا كذلك كل ما يتعلق بالفلامينكو، وكان غرثيا لوركا ومانويل دي فايا قد انتبها إلى أهمية الإرث الأندلسي في الغناء التقليدي الإسباني وخصوصا في الفلامينكو. على مدى حياته استلهم لوركا من الشعر العربي والأندلسي وكتب محاضرة مشهورة بعنوان “غرناطة فردوس مقفل عند الكثيرين” عرّف فيها “جمالية التصغير” التي نسبها إلى ماضي غرناطة الأندلسي. وفي نهاية حياته القصيرة ألّف Diván del Tamaritمستلهمامن القصائد والغزليات العربية الاندلسية، وهو من أروع مؤلّفاته نشر بعد اغتيال شاعرنا الغرناطي. الكل يعلم أن الروائي والأديب خوان غويتيسولو كرس حياته لاستعادة طرق التعبير الأندلسية والمغربية وكتب روايات فريدة مستلهمة من تصوف ابن عربي. في الموسيقى، بالإضافة الى فترة الموسيقيين الاسبان الكلاسيكيين في بدايات ومنتصف القرن الفائت، فايا، البينيث (Albéniz)، تورينا وغيرهم الذي ألفوا معزوفات عدة مستلهمة من جنان غرناطة وجنة العريف واشبيلية الخ فيما يسمى بالموسيقى الرومانسية الوطنية الاسبانية، أودّ أن أشير كذلك إلى التزاوج الذي قام به عدد لا بأس به من مطربي ومغني الفلامينكو المحدث أمثال اليبريخانو بين “الغناء العميق” الإسباني والموسيقى المغربية، وكذلك استرجاع النوبات وألحان أخرى أندلسية وأدائها بمشاركة جوقات من المغرب العربي. تهتمّ السينما الإسبانية والمسلسلات بالأندلس، هناك مسلسل “إيزابيل” حول سقوط غرناطة الذي تمتع بمتابعة حاشدة بين المشاهدين الإسبان، ناهيك عن استعمال قصور الحمراء وقصر إشبيلية وجوامع أخرى والحصون والقلاع الأندلسية لتصوير مشاهد سينمائية إسبانية داخليّة وخارجية متعددة. أما الرسم، فقد عنى الرسامون الإسبان بملامح عمائر الأندلس ومصنوعاتها منذ القرن الثامن عشر على الأقل كما يتضح في كتاب “الآثار العربية القديمة لإسبانيا” الذي نشر رسوم مباني وزخارف الحمراء وقرطبة تحت رعاية “الأكاديمية الملكية الاسبانية للفنون الجميلة”. في القرن 19 اعتنى رسامو التيار الوطني التاريخاني بتصوير بعض الأحداث الأندلسية البارزة، كما ازداد الاهتمام بالحمراء عقب انتشار التصوير الفوتوغرافي والرسم الانطباعي. لكنّني أعتقد أنّ الرسامين الرومانسيين الأوروبيين هم الذين ركزوا بإمعان أكبر على الغرائبية العربية التي وجدوها في الآثار الإسبانية وجذبوا أنظار العالم إلى الفنون الأندلسية وجماليتها.

سألناه: ماذا يقترح خوسيه ميغيل للنهوض بالتعاون العربي الإسباني في المجال الثقافي والفنّي؟

أجابنا: اقترح دعم نشاطات المؤسسات الحكومية وغيرها التي ذكرتها أعلاه، ما دام نشاطاتها إيجابية ومستمرة، إذ أنها لم تنقطع منذ مطلع القرن الجاري عن تنظيم المعارض والندوات والنشر ودورات اللغة العربية، كما أنصح بفتح مدارس جديدة لتعليم اللغة العربية لأطفال الجالية العربية في إسبانيا وللإسبان المهتمين بها، وهم كثر، وإدخال اللغة العربية كلغة اختيارية في التعليم الابتدائي والثانوي في إسبانيا.آخيرا وليس آخرا، أنصح بإقامة علاقات رسمية أكثر عدداً وفعالية بين جامعات الوطن العربية والجامعات الإسبانية.

سألناه: كيف ينظر الدّارسون إلى نظريّة ابن خلدون القائمة على فكرة العصبيّة؟ وما مو موقفك الشخصي من هذه المسألة التي تتقاطع فيها مجالات التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع؟ 

أجابنا: سمعت لأول مرة عن ابن خلدون كمؤرخ رائد في استهلال التيار العلمي والمادي لعلم التاريخ الحديث حين كنت طالبا في جامعة غرناطة في نهاية السبعينيات، أي قبل بدئي بتعلم اللغة العربية. كان ابن خلدون بفضل المدرسة التاريخية الفرنسية الحديثة معروفا في أوساط المؤرخين الإسبان، وإن كان بشكل سطحي. ثم طالعت أثناء تحرير رسالتي للدكتوراه حول علم الجمال الأندلسي والعربي “المقدمة” بكاملها بالعربية وبالإسبانية، وسنحت لي الفرصة بالتمعّن في تفاصيل آرائه، ولم يكن ذلك أمراً بسيطاً. أفدت من كتاب “العصبية والدولة” للجابري ومن مقالات عدة عربية وغيرها للتدقيق في نظريات ومواقف هذا العلامة التونسي والأندلسي الكبير، واستنتاجي، بايجاز شديد، هو أنّه تمسّك برؤية متحفظة وانتقائية تجاه الفلسفة وتفسير تاريخ الإسلام، كما أكدته الأستاذة والباحثة التونسية ناجية الوريميي بوعجيلة في كتابها “حفريات في الخطاب الخلدوني (2008)، وفي الوقت نفسه أفرز نظرية واقعية لتطور المجتمعات التي تكون “العصبية” فيها،كمفهوم شاسع يحتوي على روابط القبيلة والدين والسلطة، باعثا على نشأة الدول وانهيارها إن ضعفت. إنّه رائد من هذا المنظور و”مقدمته” تضمّنت بذور سوسولوجيا الفنون وسبقت أوروبا في هذا العلم طالما أنّ ابن خلدون يعتبر فيها العمارة وباقي الفنون مقياسا لسبر مراحل النشوء والازدهار والانحطاط لدولة معينة، كما أنّه ينظّر في سبل توظيف رموز الفن من قبل السلطة لتثبيتها، كالمبالغة في استعمال حُكام دويلات إسلامية ضعيفة عناوين وشعارات الخلافة، مثلا، أو قضية تبني الأندلسيين لبعض أساليب الفن لدى العدوّ المسيحي بسبب استسلامهم للأقوى.

سألناه:ما هي الرّسالة التي تريد أن تتوجّه بها إلى العالم العربي في هذه اللحظة التاريخية؟

أجابنا: لست مؤهلا لتوجيه رسائل من هذا النوع، ما عدا لفت نظر إخواننا العرب إلى أنّنا نحن الإسبان نعتز بماضينا المشترك وأننا نستمتع ونتعلم من روائع الثقافة الأندلسية والعربية وكذلك من النشاط العربي الحديث لقيمه الإنسانية ذاتها ولكون الثقافة العربية كانت على مدى القرون جسرا ممتدا بين الشعوب.

* عن مجلة فصول المصرية – خريف 2021

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *