د. سلمى الخضراء الجيوسي في حوار شامل

(ثقافات)

 

د. سلمى الخضراء الجيوسي*

 أشعر بالحسرة لأنّ العرب لم يتمثلوا الرسالة التي حاولت إقناعهم بضرورتها الماسّة

 

 حاورها : يحيى القيسي

كلما التقيت د. سلمى الخضراء الجيوسي أو قرأت شيئا من كتبها أو سمعت عن جديد إنجازاتها وترجماتها لخدمة الأدب العربي والحضارة الإسلامية، أدخل في طقوس الحيرة لصعوبة تصنيفها، أو اختزالها في خانة ثقافية واحدة، فهي شاعرة رائدة، وناقدة متميزة، وباحثة مجتهدة، ومترجمة معروفة، ومحررة محترفة، وأكاديمية رزينة، وشخصية نسائية قائدة ، وهي بعد كل ذلك امرأة من خارج زماننا العربي، تواصل الليل بالنهار في العمل، ولو اطلعت وزارات الثقافة العربية على ما تقدمه من خدمة للحضارة العربية والإسلامية عربياً وعالمياً،  لتعلمت منها الكثير، ولتمنت لو تضع شيئاً من خططها موضع التطبيق، لكن البيروقراطية المتفشية، وسوء التقدير الشعبي والرسمي للجهد الحقيقي، يجعل من الجيّوسي حالة عالمية الطابع أكثر منها محلية، لهذا فهمها الغرب وبوأها موضع الصدارة ثقافيا، وفتح لها دور نشره وجامعاته، ولكن الكارثة الكبرى أنّ بني جلدتها لم  يدركوا بعد قيمة جهودها، وربما هذا ما يدعو للأسى، وبالطبع فإنني أجدني هنا في وضع صعب من تقديمها في بضعة سطور، وربما يكفيني الحوار بعض المشقة، ليدل على ما تتمتع به من قدرات ثقافية خبيرة، ونظرة ثاقبة للوضع الذي تعيشه الأمة العربية من الناحية الثقافية، وما الذي تريد أن توصله للعالم في مشروعها الرائد “بروتا”، وحوار الشرق والغرب. وأية محاولة لتعداد ما ألفته من كتب أو أشرفت عليه أو قامت بتحريره أو تقديمه أو لمحات من سيرتها الذاتية والعملية سيبدو ضربا من العبث، فكتبها وإنجازاتها شاهدة عليها ومفخرة لكل عربي ومسلم .

هنا محاولة للإطلالة على عالمها الغني، ونهل شيء من خبراتها المقطرة، وآرائها الجريئة :

 قلت في حوار أجريته معك قبل نحو خمس سنوات أنك تتوقين إلى كتابة سيرتك الشخصية على شكل لوحات كتابية، فهل أنجزت هذه السيرة، وكيف يمكن لك أن تبيّني لنا ملامحها ؟

       الكثير من الأصدقاء وعدد من الناشرين الأجـانب يطلبون مني أن أكتب سيرة حياتي. إلا أن كتابة سيـرة مليئة بالأحـداث الشخصية والعـامة وبالأفكــاروالتنظيرات يتطلب وقتا كثيـراً لم أمنحه بعـد إلى نفسي، فعلى سيرة حياة حافلـة كسيرة حياتي أن تستند على بحوث مجددة للتـأكـد من التــواريخ والوقائــع الحقيقيـة التي قد تكون حملتها الذاكـرة بصـورة انتقائيـة فتركتها أحيانا مبتــورة أو أكثر تـألقـا أو تجهّماً مما تستحق.

 إنّ هذين الوضعيـن: التوهّج أو التجهّم في ذكرياتنا، شرعيـان في استرجاعنا لذكريات مـا حـدث فهما يعبران عن رد فعلنا يومئذ للحدث ثم استمراره في ذاكرتنا على مـرّ السنين وما يمكن أن يكـون تأثير ذلك علينا، إنّما لا بـد في كتابة السيــرة من وضع المقابل الواقعي للحـدث لا سيما الحدث السياسي الحاسم، وكم أثّـرت أحـداث هذا العصـر في حيـاة الفـرد! لابـدّ من مقارنة انطباعاتنا التي حملتها الذاكــرة مع واقع ما حدث، وأحيانا تعليل اختلافهما إذا كان ثمة اختلاف. هذا يجعل كتابـة السيرة أكثـر تعقيـدا لا سيما في ظل الأحـداث الجسيمـة التي مـررنـا بهـا كـأمـة ومـر بها الشعب الفلسطينـي خلال العقـود المـاضيـة ، وعليه لا بد من التمحيص والتوثيق لأنّ الذاكرة في النهاية لا تـؤتمـن كليا. وإنّ عمـلاً كهـذا يحتاج إلى تـفرّغ كامل لـه وأين أجـد الـوقـت لهذا التـفرغ للـذات وقد ربطت نفسي طـوعـاً بعدد غير قليل من المشاريع المتعددة المواضيع والطبيعــة .

        إلا أنّي دونت الكثيـر لا سيمــا تجـربتي في هذا العمـل الذي كـرّست لـه  نفسي وهو نقل ما أستطيعه من الثقـافـة العربيـة إلى العـالـم . ولما لـم تكـن تجربتي هذه مبعثـاً على الغبطـة الدائمة فيما يتعلق بالآخــرين، فإنّي أوثر أن لا أنشرها الآن بتفاصيلهـا المـرهقـة لأنهـا لا تعكس أفضل مـا عنـدنـا. المهـم هو أنّ العمـل استمـر وأينع ونجــح واعترفت بـه الأوسـاط المهتمـة في الخــارج ومـلأنــا رفـا طويلا من المكتبـة العالميـة بكتب بعضها محـرّر وبعضها مترجم إلا أنّها جميعها مكـرّسـة لخـدمـة الثقـافة العربيـة بلغـة رفيعـة وتركيز وتخطيـط ومستـوى لا يمكن أن ينجح أي مشروع من دونــه .

إن حياتي آلــة دائــرة لا تتـوقـف .

     ولكني لم أهمل تصـويـر جـزء من تجـارب الحياة التي مررت بهـا ، فبدل كتابـة سيـرة تبـدأ يوم ميلادي في السلـط وتنتهي هنــا في عمــان بعـد حياة سعيدة في فلسطين ثم جولــة تـدير الـرأس في أنحــاء العالـم الــواسع ، اختـرت أن أصـوّر، عبـر لـوحـات كتابيـة، قطعـا من تجـربتي المتلونة في الحياة بقيت في ذاكرتي بكل تفاصيلها. عندي ثلاث لـوحات عن تجربتي في فلسطين (طفولتي وشبابي البـاكر في عكـا؛  تجـربة نكبـة 1948: وتجـربـة دير يـاسيـن، أيضا سنة 1948.) وقد كتبت لوحـة عن شغفي بالجمـال وتجربتي في هذا المجــال، وأخـرى عن جدي وجدتي لأمي.. إلخ. في النهاية ستتحـدث هذه اللـوحـات عن حيــاتي كثيــراً فتبـرز المـرأة التي هي أنـا خـلال تجاربهـا الكثيــرة دون أن تلتزم بالتسلسل الزمنـي لهذه التجــارب. وهذه ستصدر بالإنجليزية والعربية .

من الواضح أنك ألزمت نفسك بالعمل ليلاً ونهاراً على مشاريع كتابية داعمة للثقافة العربية ،ولاسيما في الغرب، وهذا ما سبب ظلماً لجانبك الإبداعي كشاعرة، فهل تشعرين اليوم بأيّ ندم على هذا الأمر

 

 نـدم؟ أبـدا، ولكن، إلى حد ما، أشعـر بالأسـى ليس لأني ظلمت نفسي كثيرا في سبيل إبـراز أهمية الحضارة والثقافة العربية وقوة الإبـداع العربي فهذه أهــم من كلّ شيء آخــر، ولكن لأني أشعر بأنّي لم استطع في النهايـة أن أوطّـن هـذا العمـل الناجح (لا بـد من قول هذا فالنجاح هو أسـاس في الموضوع) بشكل يضمن لـه استمرارية أكيـدة في العالم العربي لأمـدٍ طـويل يحمل عبئه آخرون بعدي. في رأيي ليس أمـامنـا في علاقتنا بالعالم عمـل أكثر أهمية من نقل ما أمكننا من ثروتنا الأدبية والفكرية ومن تراثنا الغني الذي لا يعرفه جيدا حتى أهله إلى هـذا العالم.

    لقـد مثلنــا جـزءاً حيويــاً من حضــارة الإنســان ولكن المعـرفة حول دورنا الأساسي التـأسيسي في هذه الحضــارة تــراجعت وعُــتِّـم عليها وقبلنــا نحن ذلك. إنّ ما حدث عبر القرون القليلة المـاضية هوأن تلك الفضائل العربية العـديـدة، ذلك التفتـح الحضـاري المتـألق  الذي لازم الإنسان لقــرون ثمــانية على الأقل من العلـم والرقي الفني الـرفيع  تقلصت جميعها في أعين الآخـرين، لا سيما الغـربيين منهم، وانكفأت في رؤاهم عنّا إلى مجـرد نـزعــات أصولية واقتتـاليـة إو إلى صـورة سـاخـرة للجمل والصحراء ونساء الحـريم. لقـد اختــار الغــرب يوما أن ينســى وتقبل ذلك العـرب الحديثون، وهنــا ابتـدأت المعضلــة. هــذا مـا يكمـن في جذور الإشكالية الحضارية اليـوم ومـا يُجرّيء الآخرين على محـاولـة محـونـا من تاريخ الحضارة الإنســانية: حقيقة أن العـرب المستعمَرين فكرياً رضخـوا، حقيقـة أن بعضهـم أحنـوا رؤوسهـم واستكــانــوا، حقيقة أن بعضهم فقـدوا رؤيتهـم للحقيقـة والتاريخ وقطعـوا حبـال الذاكـرة ولاذوا بالصمت!

وهـذا يبعث على المــرارة العميقة.

بالنسبة لـردّ فعلي الشخصي لكلّ هـذا فإنّي أشعربحرقة قوية لأن الـزمن أمـامي لم يعـد فيه متسـع كبيـر للإقنــاع ولتغييـر عقـول لم تـدرك بعـد أوليـات الأمــور وحتميات وضعنـا في العــالــم.  إن أغنـى مـا عندنـا اليوم وأهمه هو ذلـك التاريخ الثقافي الغني قديمه وحديثـه الذي فيه وعبْـره نستطيع تـأكيد دورنــا في مسيرة الإنسان الحضاريـة وهو دور حــاسـم، وأن نصبـح جـزءا مرموقا من حـركة الإنسان وتقـدمـه بدل هذا التهميش المذل الشائن .

إنّ أعـداء ثقافتنا أقدم وأقـوى من أعدائـنا العسكريين. وأعـداؤنا العسكريون ركّـزوا كثيـرا علـى تهميش حقيقتنا الثقافيـة المتميّـزة مستغلين استسلامنــا لأن الجهل بهـا يجعل منـّا أمـة بلا قيمـة حقيقية نحتل بها مكاناً راسخاً من العـالـم الحـديث.

 – ولكن هل هذا الـوضع سـائد في جميع الأوساط في الغـرب؟

 

  • لا، ليس سـائداً كليا فأنت إن قـدّمت شيئا لـه قيمـة فإنّ العالم، غربه وشرقه، سيقبلـه دون تعقيد كبيـر. الجودة مُفحمـة وتـفرض نفسها. منذ بـدأت عملـي على هذه المشاريع لقيت إيجابيات في الغـرب أكثـر وأكبر وأنجع مما لقيتـه في العالم الذي أحبه وأخـدمه بكل قوتي. الغـربيون فهمـوا جـوهر عمــلنا وإتقانيته وأقبلت دور النشر العالمية على نشر أعمالنـا، فأنـا أجـد الناشر الكبير قبـل إنجــاز الكتاب، وهذا لم يحدث بعد كثيرا للكتاب العربي. ثم أني عملت مع بعض أرقى الشعراء الغــربيين وأشركتهم في ترجماتنا الشعرية.  فقد ترجم معنا سبعة شعراء مرموقين شعر نزار قباني وترجم معنا تسعة شعر محمـود درويش واشترك كثيرون منهم بترجمة بقية الشعر العربي الذي قـدّمنــاه إلى الغـرب. هـذا وحــده كـان يجب أن يلفت النظر إلى جـدية ما نقوم بـه وعلـوّ مستواه ، قـدرتـه أن يصـل إلى أعلى الأوســاط الثقــافية ولكــن لا أحــد يهتـمّ بـدراسـة أبعــاد العمــل ودلالاتـه. لا أحـد يصـرف وقتــا وجهدا ليتبيّــن حقيقة الأشيــاء وجــوهـرها .

 العـرب لم يـدركوا أهمية التـداخل الثقافي والحضاري المبني على أسس مدروسـة تفهـم عقل المخاطبيـن وتتسلح بأدوات العمل الجــاد المتقن.  ومع أنّ بعض الدول العربية اهتمت بمــوضـوع التــرجمة إلا أنها لـم ترسم مخططــاً واسعــاً لإضاءة جـوهر الحضـارة العـربيـة وقوة إنجــازاتـها وعـلاقـة هذه الإنجــازات بالآخــر وتـأثيـرهـا على الحضارة الإنسانية، تـداخلها معهـا. بالطبع هـذا جميعه لا يتـم عن طريق التـرجمـة وحـدهـا، ولا بــد من القيـام بمشـروع واسع من الـدراسـات المـوثّـقة حول المـواضيع المهمــة في تــاريخنــا. ولهذا السبب أسست إلى جانب مشروع الترجمـة (بـروتـا) الذي بدأتـه في مطلع الثمانينات مشروع الدراسات (رابطة الشرق والغــرب) في مطلع التسعينات وبدأت هذا الأخير بالكتاب الكبير الذي حررته عن الحضارة العربية في الأندلس (1992) ومنـه انطلقنـا إلى مشاريع أخــرى ممـاثلـة.  ومـا يجعل عملاً كهـذا ممكن النجــاح والإيصــال الحــاسم هو أن الاستعــراب الغـربي إجمالا أصبح غيـره في المــاضي (أنا هنا أميزه عن الصحافة الغربية وتأليف الكتب المعادية لنـا التي يكتبها المغرضون ومن بينهم عدد من المستعربين يتقلـص باستمــرار).

 لقد برز إلى الساحة الأكـاديمية عدد غير قليل  من المستعربين اختصــوا بـدراسـة إيجـابيـة عن نــواح ٍ من هـذا التــاريخ الشديد الغنــى والإبــداع وبشيء غير قليل من المـوضوعيـة والصـدق . لقد عمل عــدد كبير منهـم معي على كتاب الحضارة العربية في الأنـدلس (بنسبة 38 من أصل42 باحثا) وعمـل عدد أكبر معنـا على كتـاب المدينـة في العــالـم الإسلامي وهو كتاب موسوعي عن المدينة الإسلامية، تاريخها، مواصفاتهـا، تطورها في العالم الحديث، هو وشيك الإنجــاز، كما اشترك معي أغلبيـة منهم في كتابي الذي أحرره عن  السرديات القصصية العربية في العصور القديمة وهو أيضا قـريب الإنجــاز.  مـا أود قــولــه هو أنّ جـداراً من النُكـران والتشويه والتعتيم قد انهـار بسبب تبلـور الدراسات والبحث العلمي الحـديث وتفتح العيون على مـاض استشراقي مـزيف بعد ما كُتب من دراسات حول الاستشراق السلبي لاسيما دراســة إدوارد سعيد المتميزة التي غيـرت الـوضع القديم البــائس بشكل لا رجعة فيه .

 

–  لكنك لم تجيبي بعد عن مصير تجربتك الشعرية وما آلت إليه اليوم بسبب مشاغلك البحثية والتأليفية الأخرى ؟

 

  • لدي شعر كثير لم أنشره بعد، ولقد أهملت هذه الناحية لأسباب كثيرة وليس فقط لازدحام حياتي بالعمل. من هـذه الأسباب هو أن الشعر العربي راح يسير في طريق مسدود وأشعر أنّه لا علاقة لهذا الشعر الذي يُكتب الآن بمفهومي عن الشعرالجيد.  الكثير من الشعر اليـوم يعاني من تشويش هـائل بالصورة، وإهمال  للمعنى الشعري وللموقف والرؤيا في الشعر. ثمة تأكيد على اختراع الصورالمعقدة التي لا تقول شيئا في النهاية. الصورة الجيدة يجب أن تكون متحدة بالمعنى، والمعنى يجب أن يعبر عن شيء حيوي وغالبا يكـون تعبيـراً عن الوضعيـة الإنسانية. ثمة أسبــاب أخـرى أيضـا بعضها يدور حول التشويش الواضح في التعامل مع الشعر وإبــراز شعـراء يحتلون مراكز وظيفية حساسـة  وضعف النقد واختزاليته لمواقع الإبـداع الحقيقي في العمل الشعري.  كان الــوضع الشعري شـديـد الاختـلاف في الخمسينــات والستينــات .ولكني استجبت مؤخرا لأحـد الناشرين في أمريكا وسأصدر مجموعة شعرية باللغتين إذا تيسـر لي الوقت .

  • دعينا نتحدث بصراحة عن حال الثقافة العربية اليوم وبيان بعض مشاريعك التي ساهمت في إيصال حضارتنا وفكرنا إلى الغرب ؟

 إنّ الثقافة العربية تعكس هبوطاً متلاحقاً اليوم ولهذا أسبـاب متعددة . أولهـا أنّ جيل الشبان اليـوم لا يعرف أيا من اللغـات الرئيسية في العالم  إلا بشكل مبتسر.  وهذا غير مقبول فثمـة فـائدة كبيرة يكتسبونها من إتقــان واحـدة أو أكثر من اللغـات الحيـة التي كتبت فيها نظريات النقد والفلسفة والتحليل الاجتماعي والتاريخي والسياسي. إنهم عـالة على مـا يتـرجم سـواء كانت الترجمـة جيدة أم مضطربة. لا شك أن الذنب في هذا يقع على المحكمين في أمر التعليم والثقــافة .

 ثـانيا، إنّ الجهات المسـؤولـة غير متأنية إجمالاً ولا تدرس دائما الأمـور ولا تتعرف على الأوليــات. أمـا التشجيع الحقيقي فهو لا يتبع مصلحة الثقافـة وحدها ولكنه يعتمد على مصالح أخرى غير عامـة .

ثالثا وهذا غاية في الأهمية: تدخلت في الثقافة العربية اليوم عنــاصـر لا تعتمد على تاريخ ثقافي طويل أو خلفية متجذرة في الأدب والمعرفة. وبعضها هيمن على المخطط الثقافي وسيطر على الدفـة .

رابعا إنّ الجـو العام اليـوم أصبح مختلفاً كل الاختلاف عن الجو الذي نشأنا عليه في القرن الماضي. لقـد كانت الخمسينـات والستينات فـترة شديدة الغنـى وعظيمة التفـاؤل بمستقبل الثقافـة العربيـة.  إلا أن ما حدث مباشرة قـوّض كل هذا :  لقـد جـرى اختلاط كبير في غمار المثقفين إذ فتحت جامعات وطنية كثيرة شرّعت أبوابها إلى كل طالب نجح جيدا في التوجيهية أو الباكالوريا، وهـذا حق مقدس لهم لا بـد منه لأنـه يعطي فـرصا طيبة لأذكيائنـا، إلا أن عددا غير قليل منهم كان منحدراً من خلفيات محـافظة وبعيـدة عن أجواء الثقافـة العميقة وفذوذية التفكيـر المـرن المتفتح فالعلـم ليس هو وحده المكمل للثقافـة.

 إن هذا الـوضع تسبب كثيـرا في ترسخ الفكر السلفي المحــافظ واتصف جزء منه بضيق الـرؤيـا وترابيـة التفكير، ممـا انحدر بالثقافة إلى بـؤرة عميقـة.

خامسا ، فقد النقد شروطه وانبرى كثيرون إلى الحديث عن ألمعية غير اللامعين وعبقرية العاديين لا سيما عندما يكون هؤلاء متبوئين مراكز ثقافية حساسة. فاختلط كل شيء على القاريء . كان هذا القاريء ضحية هذه الأوضاع في البـدء ولكنه، بعد أن تركزت هذه الأوضاع وثبتت استمد قوة العادة وساهم في ترسيخها وتنميتها.

سادسا: في مجال البحث العلمي وجدت بعد تجربة عسيرة أن الكثيرين ممن يعملون في البحث العلمي والنقد الموثّـق لا يتقنــون توثيقهم ويهملون مناحي كثيـرة منه غير موثقة. إنّ الافتقار إلى الدقة والتمحيص شيء لا يغتفر لمن يعمل في مجال العلم والأبحـاث. والذنب يعـود إلى أولئك الذين يقبلون منهم عمـلاً نـاقصـاً.

  • مـاذا لو أطلعتنا على بعض المشاريع التي تنجز في مؤسستك وبعضها قد  صدر حديثا أو على وشك الصدور ؟

 – إنّ آخـر كتابين صـدرا لنـا هو أوّلاً كتابي المُحرّر عن القـدس (القدس مدينتي: دراسات، قصـائد ، ذكريات) والآخــر هو ( مجمـوعة الفنون القصصيـة الحديثـة) . هذا الأخير من نصف مليون كلمـة وفيه 187إدخـالاً لأكثر من 140 قاصّـا وروائيـا من جميع أقطـار العالم العـربي فلم أترك بلدا واحدا لم أمثلـه ، وللكتـاب مقـدمة طـويلـة عن تاريخ القصص العربي لا سيما الحديث . لقد كنت أتوقع لـه استقبالا طيبـا لأنا بذلنـا جهدا كييـرا في إتقانه وضمـان شيء من شمولية المحتويات كما يسمــح المجال الذي يظل محدودا ، إلا أن استقباله كان أبعـد من التـوقـع فقد أعطتـه صحيفة الواشنطن بوست في العاصمة الأمـريكية مـوقع الشرف في عددها الصادر في 7/8/2005 بمراجعة متوهجـة ليس فيهـا التحفظات العربية المعتـادة وإظهــار عضلات المـراجع، وكتبت عنه الصحف البريطانية كتابات طيبــة جدا وأقيمت حوله ندوتان إذاعيتان والحبل على الجــرار. لقد ذكرني بيوم صدور كتابي المحـرر عن الحضارة العربية في الأندلس. هذا الأخير صدرت عنـه على مـر الزمن، أكثـر من مئة مراجعـة إيجابية .

أمـا الآن فقـد انتهينــا من ثـلاثة كتب:

الأول هـو (مجموعة الفنـون القصصية العربية القديمـة) وهو كتاب جمـع منتخبــات من القصص العربي القديم منذ الجاهلية حتى نهاية القرون الوسطـى . إن القصص العـربي القـديم شـيء مبـدع، مذهل في تنوعه موضوعا وتقنية وأســلوباً، شيق في تصـويره الدقيق لحيــاة العرب في تلك العصـور ولرؤاهم الوجــوديـة. كنت أتمنّـى أن يكـون عندي متّسـع من الـوقت لأجعلــه صنـوا في الحجـم لمجمــوعـة القصـة العـربية الحديثة أعلاه ولكني أشعر بأنّي يجب أن أسلمـه للنشرالآن بعد أن تـأخـر بين يـدي مـدة أطول من المتوقَّع بسبب عملية أُجـريت لي أوقفت كل عملـي فتـرة من الـزمن، هـذا من جهـة، ومن جهة أخـرى بسبب صعـوبـة التـرجمة التي لم أكن أتوقع صعوبتها ولكنها اضطرتنا إلى إعــادة تـرجمـة الكثيـر من المنتخبات مما كلفنـا جهـدا إضافيـا وكلفــة أكبـر وزمنـا أطول من المـرجـوّ. غير أني الآن راضية عن هذه المجمــوعــة كل الرضــا، وهي الأولـى من نــوعهــا بالإنجليزيــة في العـالـم.

الثــاني: انتهيت مؤخرا من الإشراف على ترجمة مجموعة كبيرة من الأدب السعودي الحديث، وهي تحت النشر الآن . كان هذا العمل ضروريا جدا بالنسبة إلى التحامل الغربي اليوم على العرب والإسلام وعلى السعوديين بشكل خاص، فالكِتاب يقـدّم كُتّابا وشعراء سعوديين  يقف عدد كبير منهم شهوداً على عصـرهـم،  يقظين على حـركة الحياة فيـه وعلى موضعهم كعرب في زمن العدوان والانتقاص. إنهم  يمثلون مختلف التوجهات الفكرية والوجودية التي يعيشها المبدعون السعوديون، وكذلك مختلف المـدارس الفنية من الأسلوب التقليدي في الكتابة إلى الأسلوب الحداثي المعقد. والمجموعة تغطّـي كافـة الأجناس الأدبيـة من الشعر إلى القصة القصيرة إلى منتخبات من الروايـة والمذكّـرات الشخصيـة (وهي، بشكل خـاص، رائعـة في هـذه المجمـوعـة) إلى المسرح الذي يمثل الحداثة وما بعد الحـداثـة.

ومن الناحية الموضوعية نجـد تعدّدية مدهشة في الموقف من الوجود، ونكتشف وعياً رائعاً عند المرأة السعودية بقيمتها كإنسان، واهتمامها بتأكيد وجودها المستقل في العالم، وبالدفــاع عن حقهــا وإنسانيتها. أنا سعيدة جدا بأني أشرفت على إخراج هذه المجموعة التـاريخيـة المهمة في هذا الوقت الحــرج الشديد الإساءة الكثير التشويش للحقيقـة التي يعيشها المبـدعون السعوديون، وهي تصدر في الربيع المقبل عن دار طوروس في لندن ونيويورك .

الثــالــث: وتصدر لنـا أيضا في الربيـع المقبـل مجمـوعة نــوادر جحــا، عن دار إنتيرلينك في نيويورك ، وهي مجمــوعـة شيقـة حـاولـت فيها أن أجـد الخـط الشمولي الذي يـربـط هـذه النــوادرالجحوية بـأخـرى مثلهــا في الأدب الشعبي العـالمـي . وقد كتب لهـا مقـدمة متميـزة الدكتــور سعيــد يقطيـن .

هـذه كتب أُنجــزت، أما الكتب قيد الإنجــازفهي أيضا ثلاثــة :

الأول: هو كتاب السرديات العربية الكلاسيكية : القصصي منها على وجــه التحـديد، كتب لنا لهذا الكتاب عدد من أهم المختصين من أجانب وعرب . هـذا المـوضوع بـدأ اليـوم يحتــل مكـانـه الصحيح في المكتبة العربية والعالميـة.  كان الشعر وولـع العرب بالشعـر قد غطّـى بضـراوة علـى أهمية الإبـداع المتفـوق المتعـدد الأجناس والأســاليب في كتابة القصــة. وقد شعرت بأسى شديد عندمـا اكتشفت ذلك الغنـى الشاسع في الفن القصصي الذي كتبـه العـرب منذ الجــاهليــة وكان لا بـد لهذا الاكتشاف من أن يجـد طريقـه إلى كتاب جـمع دراسات مفصلة حول المـوضوع. قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام : الأول يتحدث عن النوع القصصي :المقامة والحكاية والرواية ( كحي بن يقظان )، وقصص الحب ،وأيام العرب ،والقصص العجائبية ،وألف ليلة وليلة والنادرة والخبرإلخ . والقسم الثاني يتناول تأثير الأدب القصصي الكلاسيكي القديم على الآخرين غربا وشرقا ، أما القسم الثالث فيتناول تأثر الأدباء العرب المعاصرين كجمال الغيطاني على سبيل المثال بأساليب السرد القديمة. سيصدر هذا الكتاب باللغتين العربية والإنجليزية .

الثــانــي: كتاب كبيـر متخصص بموضوع  المدينة في العالم الإسلامي، فقد صممت أن أحرر كتابا في هذا الحقل بعد أن اكتشفت أن المؤرخ الأميركي المعروف لويس ممفــورد كتب كتابا كبيرا عن المدينة في التاريخ ،ولم يذكر مدينة إسلامية واحدة، ولقد تساءلت بحسرة حينها : هل كنا كعرب ومسلمين هباء ؟ وأين هي مدننا التاريخية التي تملأ العالم؟  قررت عندها أن أحرر كتابا عن المدينة الإسلامية وظللت أسعـى لهـذا حتى استطعت البـدء بـه بعد تسع سنوات من المحــاولـة المتتابعـة. وقد دعوت لتحريره ثلاثة من أشهر المختصين بالمدينـة الإسلامية في الغرب، وهم الفرنسي أ.د. أندريه ريموند، والإيطالي د. أتيليو بيتروتشيلي (الذي احتل كرسي الأغـا خـان مـدة خمس سنوات في جامعة التيكنولوجيا الشهيرة ال إم. آي. تي. في بوسطن)، والأمريكية أ. د. ريناتا هولود في جامعة بينسيلفانيا. الكتاب انتهـى عمليا وسيصدر باللغتين العربية والإنجليزية عن دار بريل، ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت .

الثــالـث: مجمـوعـة كبيـرة لمحمـود درويش ترجمهـا معنـا تسعـة من الشعراء الأمريكان والإتجليز المـرمـوقين. ،أكتب لهـا مقدمـة أرجو أن تكـون معبـرة عن الموهبة النــادرة في العالم التي رُزق بهـا هذا الشاعر. وقـد تـرجمنا مختارات من أغلب دواوينه بما في ذلك ديوانه الأخيـر كـزهـر اللـوز أو أبعــد.

                والمشاريع مستمـرة لا تنتهي، تماما كمـا يجب أن يكـون هـو الحـال في وضعنــا الحضاري الحــرج في العالم اليــوم.

– بالمناسبة ما هي أبرز العوائق والإشكاليات التي واجهت مشاريعك، وكيف تعاملت معها ؟

 

 لم تواجهني أهم مشكلة تواجه العرب وهي أولا النشر في دور النشر الكبيرة في الغرب ، فقد  تعاملت معي كبريات دور النشر العالمية ، وفتحت لي أبوابها ، وقد اشترك معي أحسن الكتاب والباحثين الغربيين أيضا ، لم أتعب في الوصول إلى الناشر الجيد أبدا ، بل كان هناك أحيانا أكثر من ناشر يتسابقون على كتبنا. والثاني اشتراك عـدد كبيـر من الكتاب والشعراء والباحثين الأجـانب معنـا في هذا العمـل. العـذاب جـاء من الـوطن أحيـانا. والحق أني لـولا المعــانـدة الكبيـرة التي اكتشفتها في نفسي لمــا تمكنت من عمـل إلا القليل. المسؤولون العـرب لم يتمثـلوا جـوهـر المـوضوع ولـم يقدّروا كما يجب النجـاحـات التي لقيها عملنـا ودلالات هذا النجــاح . كل شيء عندهم سـواء. لا يدرسون الأمـور، ولا يسألـون العـارفين ، ولا يحاولون أن يقابلوا بين مواقفهم والمواقف الناجحة في العالم التي تخـدم الثقـافـة والفـن وصنوف الإبـداع والدراسات الحضارية خدمة حقيقية منتجــة. أشد ما عطّـل عملي أحيانـا هو إصـرار بعض الجهات التي تقدم منحـة إلى مشروع مـا أن يلتــزم القائمون بفترة زمنية محــددة ولكن الكتاب الكبير يحتاج إلى وقت وجهد لإنجازه،وهو ليس آلة بين يديك تديرها كيفما اتفق ، فإن مـرض المــرء أو حدث مـا أخّــر العمل  صـاح بعض المــانحين (وهم قلة) يطــالب بمنحتـه أو بـرأس القائمين على العمل: لا تـأنٍ، لا دراســة للأمـور، لا أرسطوقراطية فكرية أو ثقافة حقيقية تدل على معرفة ولـو قليلة بأصول العمل وملتزماته للـوقت والعلاقات العملية مع الآخــرين: صعــوبتهــا البـالغــة أحيانا واعتمـادها على عشرات الأمــور الخــارجــة عن إمكاناتنا، لا شيء من هذا على الإطلاق  بل تمثيل فـادح لدور الــدائن في مسرحية شيكسبير ” تـاجر البندقيـة”: رطل من لحمك من جهة القلب، أو، في حالنا نحن، حملة إفساد وتشويه.

ولكن صـدور كتبنا بالتتالي واستقبالها الإيجــابـي في الأوساط التي هي هدفنـا أي في الغــرب هو الجــواب الحــاسـم الذي نقـدّمـه إلــى العالم.

وقد يحاول مـانح مـا أن يتدخّـل بحـوهر العمــل وهذا أمر لم أسمح بـه قط ورفضنا عددا من المشاريع لمحاولة من يـود تقديم منحة لمشروع مـا أن يضع شروطا أكـاديمية بعيـدة كل البعد عن الدائرة التي تدور فيها حياته. ولكني لم أخضع مخططي لأي إنسان ،ولم أرضَ يوما أن يضغط علي أحد .

غير أن عالمنا مليء بالطيبين المحبين لثقافتهم ووطنهم ولـو أنهم بعـد لـم يدركـوا أهميـة الخروج إلى العالم بثقافتهم وإبـداعهم وقيمة التـداخل الثقــافي المــدروس في هذا الزمن العصيب.

* نشر الحوار في القدس العربي اللندنية 2006

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. د. محمد الجاغوب

    مررتُ بهذا الحوار مصادفة عن طريق الصديق الأديب فراس حج محمد ، ولما كان موضوع الحديث عن قامة علمية أكاديمية ثقافية كسلمى الخضراء الجيوسي فقد أمعنتُ النظر في قراءتي لهذا الحوار الذي أجراه الأستاذ يحيى القيسي مع الدكتورة الجيوسي، لقد اتاح لي الحوار التعرف إلى منهج ثقافي متكامل مليءٍ بالإنجازات في مجال التأليف والترجمة والبحث العلمي والنبش في الذاكرة العربية قديما حديثا،، وتخليد هذا المحتوى ونقله إلى الثقافات الأخرى خدمة للقضايا العربية وتجسيدا للهوية العربية في قاموس الحضارة الإنسانية.. َ
    مشوار الدكتورة الجيوسي المديد ثروة كبرى ينبغي البناء عليها..
    تحية تقدير للدكتورة الجيوسي وللأستاذ يحيى القيسي وللناقد الأديب فراس حج محمد الذي لا تقع عينه إلا على الجزل المفيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *