(ثقافات)
إشكالية الموت بين الشاعرين سميح الشريف وموسى حوامدة
مجدي ممدوح
أن يكون الموت فاجعا، فهذا أمر جلي ولا يحتاج منا إلى دليل، أما أن نصفه بالإشكالية، فهذا بحد ذاته يصبح إشكالية، ولو كان الموت يشبه سقوط الثمرة الناضجة وبلوغها منتهاها بعد اكتمال نموها وتحقق ماهيتها الكامنة فيها على هيئة وجود متعين، لما أثار فينا أي قدر من الحيرة والاستهجان، ولتقبلناه بصدر رحب، ولكن الموت يأتي دائما في غير أوانه، فإذا كان الكائن البيولوجي قد وصل إلى مرحلة النضج وأصبح مثل ثمرة ناضجة مهيأة للسقوط ووصلت إلى منتهاها، فان هذا التوصيف لا ينطبق بأي معنى على الإنساني الذي لا زال يحمل في داخله إمكانيات لا متناهية مفتوحة على احتمالات لم تتحقق، وكيف لها أن تنتهي وهنالك عقل وراءها ينتقل من محطة إلى أخرى بسرعة الخاطر التي لا حد يحدها، وحق للإنساني أن يقاوم الفناء ويفتش عن ألف وسيلة ووسيلة للخلود، لأن لا شيء يليق به سوى الخلود، ولا شيء يليق بالخلود سواه، لقد كان الخلود هو الهم الأكبر الذي سكن الإنسان منذ أن تأنسن، فليذهب هذا الكائن البيولوجي (البشري) إلى التراب من حيث أتى، أما الإنساني فلا شأن له بذلك، فهو يستطيع مثلا أن يتحول إلى روح، روح خالدة لا يدب فيها الفساد، ويستطيع أن يكون نفسا، نفسا مطمئنة تعود إلى عليائها في دنيا الأرواح، الخلود هو رد فعل مشروع من الإنساني ضد كل عوامل الفناء والفساد، فلا يعقل أن يذهب هذا الكائن الإله بكل ما يحمله من مشاعر وأفكار وطموح ورغبات إلى فوهة العدم، هذا غير معقول وغير قابل للتصديق، يستطيع الإنساني أن يدعي على الدوام، وهو محق دائما، انه لا يمت بصلة إلى هذا البشري، هذا الكائن البيولوجي، هذا البشري، الذي هو مطية لا أكثر يوصله إلى مبتغاه ثم يختفي.
هنا تكمن الإشكالية إذن، في هذه الثنائية المحيرة التي قدر للإنسان أن يحياها، فهو إنسان، انس يتكلم وانس يصغي، انس يحيى، وانس يفكر، انس يفنى وانس يخلد، فمنذ تشكل العقل البشري ونضوجه والذي يعتبر ارفع مراتب الوجود وأشرفها، قدر للكائن البشري أن يحمل اخطر مشروع في تاريخ الكون، ألا وهو المشروع الإنساني، إنها الأمانة التي أشفقت السموات والأرض منها وحملها البشري وغدا بفضلها إنسانا، وحق له بسبب هذا الامتياز أن يغدو مركز الكون تدور في فلكه كل الأفلاك، لقد حقق البشري هذه القفزة الرائعة من البشري للإنساني في سياق تطوره وارتقائه، ومنذ ذلك الحين قدر للبشري والإنساني أن يتساكنا ضمن الحدود الجغرافية للكائن البيولوجي.
يفتتح الشاعر سميح الشريف هذا الحوار الوجودي ليقدم لنا مقاربات معمقة لهذه الثنائية المحيرة، ثنائية البشري/الإنساني، إن أخطر ما حصل في سياق تطور الكائن البشري انه انقسم إلى راء ومرئي، وأصبح الإنسان بسبب قدرته المذهلة على الانسلاخ والتعالي والتجريد قادرا على تأمل البشري وكأنه يتأمل كائنا آخر. في نص وجه في المرآة لسميح الشريف يقول الإنساني:
أرنو إليه وقد كسى قسماته صدأ السنين وعتمة الألوان
وارتني المرآة من آثاره طللا تهدم كالح الجدران
طوفت فيه كالغريب فلم أجد سمتي عليه ولا عرفت كياني
ساءلته إن كان يذكر من أنا فأشاح عني مطبق الأجفان
هذا الحوار، حوار مفجع بين كائنين، الإنساني وقد بلغ سن الرشد، واشتد عوده واكتملت أدواته المعرفية بنضوج العقل، وتولدت لديه آمال عريضة بالإمساك بالوجود عن طريق الفهم والوعي المتطاول، ولكن هذا الإنساني، الطموح بلا حدود، يكتشف بشيء من الرعب وخيبة الأمل أن الكائن البيولوجي الذي ظل يحمله لعقود طويلة قد كل وأصبح يتوق إلى الراحة، راحة العدم، لقد تعب الطين أخيرا، وهكذا يصبح هذا الكائن البيولوجي عائقا أمام طموحات الإنساني اللامتناهية، لقد وصل الكائنان إلى مرحلة التضاد والتعارض، كائن يتوق إلى الراحة والتحلل من عبئه الثقيل والانزواء إلى العدم، وكائن متوثب بدأ للتو بالشعور بكينونته، ألم أقل لكم إن الموت إشكالية فاضحة؟
يقول سميح الشريف في نص وجه في المرآة:
عشنا معا زمن البداهة واحدا فإذا بنا لما تولى اثنان
في عالم سكن الخفاء عبابه وكأنه بحر بلا شطآن
نمشي به حذر الطريدة راعها أن لا ترى فيه مكان أمان
رحنا نقلبه على صفحاته فلقد وجدناه بلا عنوان
موسى حوامدة لا يختلف عن سميح الشريف في تمثله للإشكالية السابقة، إشكالية الموت، ونستطيع أن نرصد هذه الإشكالية في نصوصه، ولكن مقاربته لهذه الإشكالية وموقفه منها يختلف عن موقف سميح الشريف، وهذا الاختلاف متأت بالمقام الأول من اختلاف الجيل، فسميح الشريف ينتمي إلى جيل الحكمة التي يمتاز بها الشيوخ، ومقاربته فيها من الحكمة أكثر مما فيه من الاحتجاج، ولكن موسى حوامدة يقف أمام الموت مكابرا معاندا، وغاضبا ثائرا، ويتسم موقفه من الموت بالرفض المطلق، وهو متشبث بالحياة بكل مفرداتها، فالإنساني والبشري عند حوامدة لم يصلا إلى لحظة الفرقة بعد، لان البشري لم يزل مفعما قادرا على حمل الإنساني ولا زال قادرا على مرافقته في غزواته الدونكشوتية، وما زال البشري خامة مطواعة تستطيع الاضطلاع بالأعباء التي توكل لها من الإنساني، وهنا يغدو الموت في لحظته الراهنة اعتباط مطلق بالإضافة الى اشكاليته السابقة، فالبيولوجي لم يحن بعد أوان قطافه، فالموت عند حوامدة لا يختلف عن الحياة، لأنه ببساطة لا يعرف غير الحياة، هو موت كأنه الحياة.
يقول موسى في نص حين يأتي الموت:
حينَ يأتي الموتُ
سأبصقُ في وجهِ الحياةِ؛
أقنعُ نفسي أنَّ الدُنيا بائسةٌ،
والناسَ، كلَّ الناس، ديدانٌ صفراء.
انه الرفض الجذري لحادثة الموت والتشبث بكل مفردات الحياة، وهو لا يؤكد هذه الحقيقة بشكل تقريري، ولكنه يؤكدها بالسلب.
سوف يشي النص بكل المفردات التي تشكل الحياة والتي تعاند الموت، يقول موسى حوامدة:
حين يأتي الموت
سأزرع الغروب في حديقة الوداع؛
أعلنُ هزيمةَ الإنسان
وألقي فلسطينَ
في دفتر الغياب.
حين يأتي الموت
سأرمي زهرةَ الخلود
في وجه جلجامش
وأهزأُ
من نصائح الأطباء.
ان هذا الكائن البشري الكثيف والبليد والملتصق بالأرض إنها الحقيقة التي نهرب منها على الدوام ونحاول أن نجملها أو نتحايل عليها بشتى الطرق، ولكن سميح الشريف وموسى حوامدة يطلقانها (كل على طريقته) هنا صريحة لا لبس فيها ولا تدليس، وهذه الحقيقة كان العلم قد أطلقها، وأعلنها دارون صريحة، ولكننا لا نريد التصديق، لان ذلك لا يناسبنا، ولكن ماذا نفعل؟ فكلما حاولنا أن نتطاول ونتعملق وجدنا القرد يقف على الأبواب يسد علينا الآفاق، ولم يعد من المستساغ أن نستمر في تجاهله.
إن الكائن البيولوجي هو الخامة التي يقوم عليها المشروع الإنساني، وهذه الخامة لها شروطها ومحدداتها ولها عيوبها القاتلة، ولعل أخطر عيوبها هو الفناء، والفناء المبكر على وجه الخصوص، ونحن نعد الفناء عيبا قاتلا لأنه يذهب بالحامل والمحمول، وهب أن الفناء لا يلحق بالمحمول، فان المحمول (الإنساني) لن يجد أحدا يحمله بفناء الحامل (البشري).
ربما تكون دعوتي لإيجاد حامل آخر اقل فناء من البشري فيها شيء من الفنتازيا، ولكني سأطلقها صريحة وأدعو إلى حمل المشروع الإنساني على كائن بيولوجي خارق أو روبوت يتجاوز كل عيوب البشري ويحرر الإنساني من هذه العبودية المذلة.
حوامدة كما أسلفنا يرفض حادثة الموت بالمجمل فيما نرى الشريف يرفض البشري ويعتبر انسلاخه عنه تحررا وخلودا، وحوامدة يؤكد هذه النزعة للخلود من خلال عنوان ديوانه “موتى يجرون السماء” وفيما تشكل السماء المحطة النهائية عند الشريف فان الأرض عند حوامدة هي البدء وهي المنتهى، يقول حوامدة:
السماء سرير الضعيف
الأرض بستان الغواية.
وهنا نلحظ انه لا يعترف إلا بالحياة ولا يعرف غيرها، فهي وحدها الحبلى بالغوايات وهي الخصبة حد التناقض، إن المطلق لا يمكن أن يحيا بمعزل عن المتعين ولا يستطيع أن يتقوم بذاته، يقول حوامدة:
الحليب تشهى أن يذوق موت الشفاه
وعلينا أن نعي أن الحليب هنا هو ترميز للمطلق، ما فائدة الحليب إذا لم يجد شفاها تتذوقه ويبث فيها الحياة ويتحول إلى كائن متعين بفضلها، ما فائدة المطلق إذا بقي يراوح في عالم الإمكان دون أن يتحقق على هيئة وجود متعين، بل أن حوامدة يوحي بان المطلق ما هو إلا حالة من حالات المتعين، وعندما ندمر المتعين فلن نظفر بالمطلق أبدا، وهذا ينسجم مع الرؤية التي يبثها حوامدة حول جدل الموت والحياة، فهو يرفض الموت كما أسلفنا، وحق له ذلك.
إن التصور الذي قدمته الوجودية للموت جعل من الموت مركزا للوجود، فلقد بالغ الوجوديون وعلى رأسهم هيدجر في إعطاء الموت دورا مركزيا في تفسير الحياة، لا شك ان حوامدة يتفق مع الوجوديين في إعلائه من قيمة الحياة والانطلاق من الوجود العيني والإعلاء من اليومي والمعيوش والالتصاق بالإنسان، وعده منبعا لكل الحالات الوجودية، إلا أن حوامدة يفترق عنهم بإنكاره أن الموت هو الذي يفسر الحياة ويجعلها في متناول الإفهام، فهو يعتقد أن الحياة لا تفسر إلا بالحياة، والموت عنده هو حالة من حالات الحياة، وهو لا يعدو عنده لحظة لا تفسر وجودنا، وكل ما يجب أن نفعله حيال هذه اللحظة هو أن ننكرها.
علينا أن نتشبث بالعيني والملموس والمتعين لأنه هو وحده الضمانة لوجودنا، أما المطلقات فإنها هشة هشاشة لا تنبغي لكائن، يستطيع أعداء الحياة أن يدمروها متى شاؤوا دون أن تجد لها أرضا صلبة تقف عليها، يقول حوامدة في نص “موتى يجرون السماء”
أشعَلوها حريقاً في ورق الدروزِ،
جَرحوا مئذنة الصوفيِّ،
قتلوا مِعزاة غاندي،
كسروا صليب التلحميِّ،
فَجَّروا بئر الكتمانِ،
تباهوا بارتكاب مجازرَ جماعيةٍ في حق الزهور.
لم يبق للريح
سوى تقديم استقالتها
من عاصفة الجنونْ.
وهذا يتفق بالكامل مع رؤية حوامدة أن السماء سرير الضعيف.
وفي نص “….وللندم الذي يخلفه الموتى” يعلن حوامدة انحيازه الكامل للعيني والملموس واليومي حيث يقول:
لانجذاب السفينة الجانحة إلى قاع القصيدةْ؛
لانجذاب الشراع الممزق نحو العاصفةْ؛
لانجذاب سرب القطا الهارب من نعمة الثلجِ؛
لانجذاب الحفل المجنون نحو نهاية درامية للمشهدِ؛
لانجذاب القلاع البعيدة إلى محاربيها الأشدّاء؛
لانجذاب الحرية في صناديق الجن الأزرق..
في قمقم الملك سليمانَ،
أنجذب نحو وجه الطفلة زائغة العينين
تبحث عن ملاذٍ بعد زلزال هييتي،
أنجذب للجندب القتيل بين حطام الأغاني،
أنجذب إلى كيس الدواء المعلق في يد الممرضة،
أنجذب لكمامتي الأوكسجين الضاغطتين
على وجهيْ رضيعتيْ “مهدي التمامي” في المستشفى الإسلامي،
أنجذب للحريق الذي يرسل رسائله المباشرة للفراغ،
أنجذب للأمل المقلوع من الجذورْ،
أنجذب لصراخ الجسد ونفور الحلماتْ،
أنجذب للمومس المتقاعدة في كازبلانكا،
للعصفور المريض في سيريلانكا..
للشغالة الفلبينية المغتَصبة في حي (البركة) بعمان،
أنجذب إلى سر الكون الذي يفضح نفسه كلَّ معجزة..
أنجذب للمرأة المضطهدة،
للبنت المراهقة تخبئ دفتر أحلامها،
تفتش شاشة الموبايل بحثاً عن رسالة حب طائشة.
أنجذب للغيوم التي تركض من فزع الشمس،
أنجذب إلى رؤوس الجبال
تخبئ نفسها من سياط الآلهة.
سميح الشريف يعود ليكرس هذه الثنائية في نص آخر هو “عند توهج الأصيل”، يقول في مفتتح النص:
لا تبكني يا سمح إن مت فلطالما قد أشكل الموت
أي أنا لو قمت تدفنني من بين كنت وآختها صرت
أختان ما التقتا ببيتهما يوما وجسمي ذلك البيت
وكأنني زوج اثنتين فما أصبحت فيه عليه أمسيت
وهنا بالطبع نشاهد حوارا صريحا بين الإنساني والبشري ولكن الخطاب هنا هو خطاب البشري للإنساني، وهو يختلف عن الخطاب في نص وجه في المرآة حيث كان الخطاب فيه هو خطاب الإنساني للبشري، و”سمح” هنا هو الشاعر نفسه بجانبه الإنساني.
إنها حوارية وجودية فاجعة بين شاعرين، بين جيلين، تقدم لنا رؤيتين مختلفتين للموت والموقف من الموت، وفي الحين الذي نرى هذه الرؤية تنبعث من الثنائية التي تربط جدليا بين الموت والحياة عند سميح الشريف، فإننا نراها أحادية عند موسى حوامدة الذي لا يعرف ولا يعترف بغير الحياة.
الشريف يختتم هذه الحوارية بتنكره للبشري حيث لا يتورع الإنساني من التنكر للبشري، يقول سميح الشريف في خاتمة نص وجه في المرآة