شبح الموت مقابل الأفكار في حياة فرجينيا وولف

(ثقافات)

شبح الموت مقابل الأفكار في حياة فرجينيا وولف

عاليا عبدالله

انني على يقين من أنني أعود لجنوني من جديد ، أشعر أننا لا يمكن أن نمر بنوبة أخرى من هذه النوبات الرهيبة ، وأنا لا أعتقد أني سأشفى هذه المرة. لا يمكنني التركيز وأنا أسمع هذه الأصوات ، لهذا سأفعل ما يبدو أنه أفضل شيء يمكن فعله .”

 8مارس  عام 1941م كتبت فرجينيا وولف رسالة وداع  لزوجها  ليونارد وسارت ببطء نحو نهر أوز ،بجيوب مليئة بالحجارة وعقل ملئ باليأس .

 بعد حياة ممتدة عاشتها بين الكتابة و ونوبات اكتئاب حادة ومن ثم وهم التعافي يلوح في الأفق يشعرها بالسيطرة على حياتها ؛ ومن ثم الانخفاض مجددا عبر وديان عميقة من التفكير بالموت وفقدان الثقة بمن حولها .

ويتبع ذلك فترات وجيزة من الاستقرار الفكري ,التي  صاغت خلاله الكثير من الكتب والمقالات ، ومقاومة  الأفكار التي كانت تجرد النساء حينها من جميع حقوقهن الفكرية والجسدية .

المسار الفكري ل فرجينيا وولف :

اشتهرت فرجينيا وولف بخروجها عن السائد وابتكارها تيار الوعي الأدبي, الذي يركز على المونولوج الداخلي للشخصيات اكثر من الأفعال الخارجية , ومقاومتها لكثير من أفكار المجتمع الذكوري في ذلك الوقت .

تقول “وولف”: “أستخدم تيار الوعي في السرد، لأني أريد وصفَ الذرّات وهي تتحرّك في الدماغ، بنفس الانتظام الذي تتحرّك به”.

 وتلخصت  عبقريتها  بغزارة نتاجها الأدبي , عبر تسخير قلمها لكتابة المقالات التي كانت تعبر بها عن قضية تحرر المرأة وسيطرة القوة الذكورية على الواقع والكتابة  .

وألفت العديد من الكتب ومنها  الأنسة دالاواي  والمنارة  و الأمواج التي نالت اعجاب النقاد وكتابها الشهير الذي يعد مقالة مطولة (غرفة تخص المرء وحده ) ا(بالإنجليزية: A Room of One’s Own) نشرته  1929.

وعبرت  “وولف” عن رفضها بأن تكون  الحتمية البيولوجية  أساس للتمايز الحقوقي ,الذي أحدث تحول هائل في الفكر النسوي للقرن العشرين بسبب إثارتها للكثير من التساؤلات عن غياب المرأة من الساحة الفكرية واقصاءهن فكريا عبر قرون طويلة ومنعهن من دخول المكتبات و عشب الجامعة المقدس.

يجب على المرأة أن تملك المال، وغرفة تخصُّها وحدَها، لكي تكتب رواية”

 والفكرة السائدة التي تقول إنّ النساء يكتبنَ أعمالاً أدبية أقلّ قيمة ممّا يكتبه الرجال، يجب تقييمها في ضوء كل الصعوبات التي تعاني منها المرأة ولأن المسلمات التي يتمتع بها الرجل ومنها العزلة المهنية والتفرغ من أجل بناء عمل إبداعي يعد من الرفاهيات أو لنكون أكثر دقة من المستحيلات أن يحصلن النساء لذلك الاهتمام الفكري .

كما تبين الكاتبة  فاطمة  المرنيسي :

“ما يفصل الرجال عن النساء في عالم القصص ليس مجرد حاجز، بل هوة عميقة. والعلاقة التي تجمع بين هؤلاء وأولئك هي الحرب التي يخوضها الطرف ضد الآخر.”

 وبعد إثارة  التساؤلات حول حقيقة وضع المرأة , طالبت ” وولف “بإعادة تقييم الوضع التعليمي للمرأة وأشارت إلى ضرورة الاستقلال المادي ونبهت على حاجة المرأة  لغرفة خاصة إشارة منها للعزلة المهنية وكان تصريحاً ثورياً في ذلك الوقت مما ساهم  في إعادة  الاعتبار للأدب النسوي و الصعوبات التي واجهتها  الكاتبات في القرن التاسع عشر أمثال تشارلوت برونتي وجين أوستن ، مما  احدث ثورة فكرية يمتد صداها حتى يومنا هذا في كثير من قضايا المرأة .

شبح الموت يحوم حول وولف :

أشعر أنني ذهبت بعيدًا هذه المرة، ولن أتمكن من العودة مجددًا. فيبدو أن الأمر تمامًا كما كان في المرة الأولى، أسمع أصواتًا باستمرار، وأنا أعلم أنني لن أتغلب على هذا الآن، لقد حاربت ضده، لكنني لم أعد أستطيع ذلك”.

عانت وولف طيلة حياتها من  اضطراب ثنائي القطب وفي الفترة الزمنية التي عاشتها وولف لم يعرف علاج طبي للمرض ودام تأثيره عليها في كل اوجه حياتها , وبالأخص على عملها ككاتبة وناقدة نسوية و يعرف اضطراب ثنائي القطب بتقلب الحالة المزاجية بصورة غريبة, فضلاً عن الاكتئاب والهوس أو تناوب الاثنين في حياة المريض، يسيطر على المريض مزيج الهوس او الإهتياج وشعورمبالغ فيه  بالعظمة والثقة والسعادة الفائقة  وتسارع الأفكار وهذا ماظهر في كتابات وولف تداعي الأفكار المتسارع في كتاباتها .

ويتبع ذلك بأيام او لأسابيعقليلة  نوبة إكتئاب حادة تسيطر على المريض خلالها أفكار انتحارية واليأس الشديد وتهوين كل المنجزات ويظهر ذلك جلياً في 25 يناير عام 1940 ، وهو يوم عيد ميلاد وولف ، أثناء مراجعتها بروفة “بين فصول العرض”

. كانت قد استمتعت بكتابة تلك الرواية، وكتبت حين انتهت من المسودة الأولى في نوفمبر السابق:” أشعر بأنني حققت انتصارا صغيرا بهذا الكتاب ولما أحكم الاكتئاب  الأخيرقبضته عليها، تملكتها فكرة أن هذا الكتاب كان فشلا ذريعا

وما ساهم في تدهور العقلي وتفاقم المرض لديها الصدمات التي امتدت من طفولتها  بدءا من وفاة أمها المبكر وأختها التي تولت تربيتها بعد والدتها وتوفت بعد ذلك بسنتين ووفاة والدها البطيء بمرض السرطان  و الحرب العالمية الأولى وتبعتها بعد ذلك الحرب العالمية الثانية  التي أثارت لديها ذكرى الموت وكل ما فقدته, وذهاب أصدقاءها الى الحرب دون عودة وشبح الاجتياح النازي وتخطيطها بقرار مشترك مع زوجها بالانتحار بالغاز إذا ما تم اجتياح بريطانيا  نظرا لمعرفتهم المسبقة بالمعاملة التي سيتلقاها مثقف يهودي وزوجته من النظام النازي .

وبعد شعور عميق داهمها بأن نوبة عقلية حادة قادمة  كتبت فرجينيا وولف رسالة انتحار لزوجها ووضحت فيها  أنها  ذاهبة للجنون مرة أخرى .

  أثقلت فرجينيا وولف جيوب ثوبها بالأحجار وأغرقت نفسها في نهر “أوز” وهي في السابعة والخمسين من عمرها بعد حياة ذاخرة بالإبداع والمقاومة واليأس .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *