أندريه ميكيل.. كاسر الحواجز!
ساسي جبيل
رحل مؤخراً أندريه ميكيل القامة العلمية الفرنسية الأصل العربية الهوى، وذلك عن سن ناهز 93 عاماً، وهو المؤرخ والمستعرب الذي كرس جزءاً مهماً من حياته البحثية في خدمة اللغة العربية والأدب العربي، فقد تعلق الرجل بالحضارة العربية وآدابها. وقادته زيارته إلى المغرب العربي عام 1946 إلى هذه العلاقة المتينة بينه وبين اللغة العربية ليدرسها في القاهرة ودمشق ونواكشوط وبيروت لاحقاً، لينشر بعد ذلك عشرات الكتب المتعلقة بها وبالحضارة العربية وآدابها وحول الدين الإسلامي، وليترجم عدداً من الأعمال الأدبية العربية إلى لغته، منها كتاب «ألف ليلة وليلة» وديوان قيس بن الملوح مجنون ليلى، وكتاب «كليلة ودمنة» لعبدالله بن المقفع، وألف الراحل أيضاً كتاب «الإسلام وحضارته» في جزأين، و«الآداب واللغة العربية التقليدية» في أربعة أجزاء، و«العرب والإسلام وأوروبا»، و«من الخليج إلى المحيطات»، و«العرب: من الرسالة إلى التاريخ».. و«الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى القرن الحادي عشر» بأجزائه الأربعة، وكتاب «الليالي» حيث تناول فيه قصّة الصداقة القوية التي جمعته مع المفكّر والكاتب الجزائري الكبير جمال الدين بن شيخ، إضافة إلى دراساته حول الأدب العربي القديم والتاريخ والجغرافيا العربية.
وسيرة المستشرق الفرنسي كانت حافلة بالعطاء والإنجازات العلمية التي كان محورها الأساسي العرب وآدابهم وثقافتهم، بالإضافة إلى مساعدة الطلبة العرب والمسلمين الذين درسوا بالجامعات الفرنسية في حقب مختلفة، فقد تخرجت على يديه نخبة كبيرة من الباحثين الأكاديميين الذين استفادوا من شغفه الكبير باللغة والحضارة العربية والدين الإسلامي.
قوة الأدب العربي
وقد مثل أندريه ميكيل أحد أبرز الجسور الثقافية بين الشرق والغرب، وكان ناقلاً عاشقاً وأميناً للتراث العربي والإسلامي إلى الغرب، مما أسهم في تقديم صورة متميزة عنه.
والحال أن مواقف أندريه ميكيل تميزت بحب عميق للعرب وثقافتهم وموضوعية أعطت للغرب صورة مختلفة عنها، وأنارت السبيل أمام عدد من الباحثين للنظر فيها من جديد واكتشاف مواطن تميزها بنظرة إيجابية مختلفة بعيداً عن النظرة الاستعلائية التي ميزت أعمال كثير من الدارسين الغربيين الآخرين. وكرم معهد العالم العربي في باريس «ميكيل» عام 2018 بمشاركة نخبة من الباحثين الفرنسيين والعرب، حيث جاء في حيثيات التكريم أن دراساته الرصينة وكتاباته الأصيلة أغنتِ الثقافة العربية، وساهمت في إثراء الحوار بين ضفتَي المتوسط منذ نحو نصف قرن.
وعلى هامش التكريم، أبدى «ميكيل» سعادته الكبيرة بهذا التكريم وهو في التسعين من عمره، قائلاً: «بالنسبة لي هي مغامرة قديمة، أردت بها كسر الحواجز بين العالم العربي والغرب، والتذكير بقوة وجمال الحرف والأدب العربي».
كما تحصل ميكيل على «جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للغة العربية»، وهي آخر جائزة كبيرة فاز بها الرجل قبل وفاته، حيث كان التكريم الإماراتي لما قدمه ميكيل للغة والآداب العربية حديث وسائل الإعلام العربية والغربية. والواقع أن أندريه ميكيل، الدارس الشغوف بالثقافة العربية، لم يكن مستعرباً ومستشرقاً فقط، بل كان أيضاً معجباً ونصيراً ومترجماً للثقافة العربية للغرب، وجعلها مثار إعجاب وقوة خارقة أكد بها أن للعرب حضارة مغرقة في العراقة، وصانعة للتاريخ، وهي وراء كثير من الإنجازات الحضارية التي لا يمكن نسيانها أو تجاهلها بأي حال من الأحوال.
وبرحيل ميكيل يكون العالم العربي والإسلامي قد فقد واحداً من القامات التي خدمت الثقافة العربية والإسلامية بكل أمانة ترجمة وتأريخاً ودراسة وبحثاً، في الوقت الذي كان فيه بعض المستشرقين الآخرين يظهرون الجوانب السلبية من ثقافتنا وحضارتنا التي مثلت ولا تزال تمثل نموذجاً إنسانياً جديراً بالاحتفاء به.
ومن خلال ترجماته تلك لاحت معالم حضارة كان لها باع كبير في الإنسانية، حضارة كان يراها الغرب مقتصرة على الهامش، ولكن الرجل جعلها مرجعية ومن خلاله فهم الكثيرون أن اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية أسهمت بقسط وافر في تاريخ وتقدم هذا العالم، ولن تأفل شمسها أبداً لأنها كانت ولا تزال مرجعاً ومصدراً وملهماً للحضارات الإنسانية.
لقد حاول أندريه ميكيل أن يقول للإنسانية جمعاء إن الحضارة والأدب العربي سيظلان ملهمين للإنسانية من خلال ترجماته وقراءاته ورؤيته الثاقبة التي قرأ بها تاريخ الإنسانية جمعاء وتاريخ الحضارة والأدب واللغة العربية بشكل خاص.
سيرة وإنجازات
وفي سيرته العلمية، فقد تولى ميكيل تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية منذ سنة 1968 وعمل في جامعة فانسان، وجامعة السوربون الجديدة. وشغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال أفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة، وانتُخب أستاذاً لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975.
واختير عام 1984 مديراً للمكتبة الوطنية في باريس، وكانت المرة الأولى التي يُختار فيها أحد المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية لهذا المنصب الثقافي الرفيع.
ولد أندريه ميكيل في جنوب فرنسا عام 1929، وأتم دراسته بمدرسة المعلمين العليا، ودرس العربية على يد المستشرق ريجيس بلاشير، وعمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت بالمعهد الفرنسي للدراسات العربية.
وقد تواصلت عطاءاته على مدى حياته الأدبية والفكرية في مجال الأدب العربي بترجماته المتخصصة إلى الفرنسية، أو بإلقائه للمحاضرات في الجامعات العربية بلغة عربية دقيقة قل أن تجد لها في الغرب نظيراً، وبإشرافه على الرسائل العلمية لبعض الدارسين العرب في الجامعات الفرنسية الذين حظوا باهتمام بالغ من طرفه، حيث كان يجلس إليهم في المقاهي الباريسية ويرى فيهم نخبة قد تغير من بوصلة التاريخ عبر الدراسات والبحوث التاريخية التي سيقدمونها ليس للغرب فقط، بل للإنسانية جمعاء.
- عن الاتحاد