أسرار أندريه بروتون في رسائل زوجية

*انطوان جوكي

انطلقت أخيراً دار «غاليمار» الباريسية في مشروع إصدار مراسلات رائد الحركة السوريالية، الشاعر الفرنسي أندريه بروتون (1896 – 1966)، بعد انتهاء الفترة الزمنية التي حددها كشرطٍ لنشرها، أي مرور خمسين عاماً على وفاته. مشروع تتجلى كل أهميته حين نعرف أن هذا الكائن السرّي الذي طبع القرن العشرين في ميادين الشعر والفن والسياسة تبادل آلاف الرسائل مع المقرّبين منه، وأيضاً مع الشعراء الذين افتُتن بهم في شبابه، مثل بول فاليري وغييوم أبولينر وبيار ريفردي، ومع معظم أولئك الذين لعبوا دوراً بارزاً في بلورة الحداثة.

وقد يتساءل البعض عن السبب الذي دفع دار «غاليمار» إلى إعطاء الأولوية في هذا المشروع للرسائل التي وجّهها بروتون في شكلٍ شبه يومي إلى زوجته الأولى، سيمون خان، وصدرت حديثاً في مجلّد يقع في نحو 400 صفحة. ولا شك في أن الجواب يكمن في نبرة هذه الرسائل ومضمونها اللذين يمنحاننا بورتريه حميمياً ودقيقاً لكاتبها، يشبه إلى حدٍ بعيد ذلك الذي خطّته سيمون له في رسالة إلى ابنة عمّها دونيز، بضعة أيام بعد لقائها الأول به عام 1920 في حديقة اللوكسنبورغ: «(…) شخصية شاعر فريدة جداً، شغوفة بما هو نادر ومستحيل، مع ما يكفي من الجنون الذي يدعمه ذكاء دقيق، حتى في اللاوعي، وأصالة مطلقة لم تشوّهها ثقافة أدبية وفلسفية وعلمية مذهلة، وبساطة وصراحة كبيرتان، حتى في التناقض».

andre-breton-and-his-wife-jacqueline-lamba-breton-8x10-photo-559a40c5cb989e9561a580f7c101ea46

وفعلاً، تبدو قراءة رسائل بروتون إلى سيمون أفضل طريقة لاكتشاف شخصيته نظراً إلى مساءلته الثابتة فيها، وتناقضاته وسعيه إلى محاصرة حقيقته الخاصة والبوح بها عبر قول كل شيء إلى حبيبته الأولى، من دون تحفّظ: «أريد الحقيقة المطلقة في الحياة، لا مراعاة الذات للذات»، يكتب في واحدة منها. ولأنه حافظ، طوال فترة علاقتهما التي دامت ثماني سنوات، على صراحة مطلقة في تحاوره معها، تسمح هذه الرسائل باكتشاف مكامن جاذبيته، ولكن خصوصاً رقّته وحساسيته الشديدتين ووفائه الكلي لأفكاره والتزاماته، وبالتالي تفجّر الصورة الكاريكاتورية التي رسمها له النقّاد، وما زالت طاغيةً إلى اليوم، كشخص سلطوي وغير متسامح يمارس نفوذه عبر إبعاد من يناقضه.

تشكّل هذه الرسائل، بما تتضمّنه من معطيات حول ميول بروتون الشعرية والفنية وقراءاته وتساؤلاته وشكوكه، مصدر معلومات شديد الأهمية حول تطوّر فكر ذلك الذي خلّف أثراً دامغاً في أجيالٍ كثيرة ومنحنا طريقةً أخرى للنظر إلى الحياة والواقع، ترتكز على تبجيل الشعر والحب. فكرٌ يتجلى في كل ألقه، ونبدو، في زمننا التي يسطّح كل شيء، في أمسّ الحاجة إليه، لكونه لا يقع خلفنا بل في مكانٍ ما أمامنا، ولعدم استهلاكه تلك القدرة على التأسيس لغدٍ جديد واعد.

FRANCE - CIRCA 1936:  Andre Breton (1896-1966), French writer.  (Photo by Lipnitzki/Roger Viollet/Getty Images)
FRANCE – CIRCA 1936: Andre Breton (1896-1966), French writer. 

أما سيمون فلعبت بذكائها الحاد وثقافتها الكبيرة وخصوصاً حبّها لزوجها، دور النور الذي أبعد بروتون عن الهوة التي كان يخاف من الوقوع فيها، كما تشهد رسائل كثيرة، نذكر منها تلك التي كتبها عام 1927 وقال فيها: «لولا أزمات التشاؤم التي أعبرها، وتقضّ مضجعي إلى أبعد حد، لما آلمتك إطلاقاً. ما تمثّلينه بالنسبة إليّ، إن كان لهذه العبارة معنى، هو كل ما يربطني بالحياة». ولأنها شاركت إلى جانبه في نشاطات الحركة السوريالية، ورافقته في صداقاته ومعاركه، وتقاسمت معه شغفه بفن أندريه ماسون وجورجيو دو كيريكو وجوان ميرو وكثيرين غيرهم، وساعدته بمعارفها الفنية الكبيرة في إتجاره باللوحات الفنية والقطع الأفريقية والأوقيانية – مصدر رزقهما الوحيد – تطلعنا الرسائل التي كتبها بروتون لها على حياة الحركة السوريالية في شكلٍ يومي، وتضع أمامنا بورتريهات لا تحصى بقلمه للشخصيات التي دارت في فلكه. بورتريهات غالباً قارصة رصدها لتجّار الفن، مثل جاك دوسيه ودانييل كانفيلر وبول غييوم وبول روزنبرغ، «غير المهتمين إلا بالكسب المادي»، أو لمعظم رفاقه السورياليين، مثل فيليب سوبو ولويس أراغون وبول إيلوار وأنتونان أرتو وماكس أرنست، ويتجلى فيها أن التساهل لم يكن إطلاقاً من مزاياه. ولا عجب في ذلك طالما أنه لم يكن متساهلاً إطلاقاً مع نفسه وأثبت دائماً عن عزمٍ فريد على المضي إلى أقصى حدود إغراءات الحياة، شرط عدم إخفاء أي شيء على رفيقة دربه.

 2ef5ec2a9f494be3ba14a416ff10d7b5

لكن تقلبات حياة بروتون وسيمون الزوجية، القائمة على الاستقلالية ورفض أي كبح للرغبات، لن تلبث أن تنتصر على تلك الشفافية المطلقة في سلوكهما، وبالتالي على تلك الحرية التي تركها الواحد للآخر كي يواجه نزواته ويقود تجاربه حتى النهاية. إذ لن يلبث بروتون أن يتألم من غياب سيمون المتكرر من المنزل برفقة ابنة عمها دونيز أو أصدقاء لها، وخصوصاً من علاقتها العاطفية مع الفنان السوريالي ماكس موريز. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سيمون التي لن تنظر بعين الرضا إلى العلاقة العنيفة والمدمّرة التي ربطت زوجها بسوزان موزار، أو إلى قصة الحب القصيرة لكن المأسوية التي عاشها مع نادجا. من هنا التمزق الذي رافق فراقهما عام 1928، وتعكسه رسائل بروتون الأخيرة التي لا يمكننا أن نقرأها من دون أن يتملكنا الشعور باغتصاب حميميته. رسائل لا يظهر رائد السوريالية فيها إطلاقاً كشخصٍ بارد وعنيد ومتصلّب، كما أراد بعض النقّاد تصويره، بل ككائن هشّ وحائر يعاني من الشك ومن حالة اكتئاب عميقة.

ومع ذلك، تبقى رسائله التي تمسّنا في العمق تلك التي ترك فيها العنان لتأملاته في «مهنة الحياة»، كالرسالة التي كتبها لسيمون في مطلع 1925 وعبّر فيها عن شكّه في كل ما كان يهمّه آنذاك: «ما قيمة المسألة البولشيفية أو اليهودية بالنسبة إليّ في الأيام، العديدة، التي بالكاد أشعر فيها بأنني أعيش أو حتى قادر على العيش؟ أرغب في تعلّم فن الحياة أكثر من الكتابة في جميع هذه المنشورات التي أنظر أحياناً إلى اسمي فيها كمزحة سيّئة. (…) مَن يدري إن كانت الحرية هي فعلاً الغاية النهائية؟ لا أرى هذا المساء سوى اضطراب كبير، لا تنيره حتى فكرة الحرية. لا بد من وجود شيءٍ عظيم يفلت منا».
________
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *