عدي مدانات.. سرد واقعيّ “تشيخوفيّ” بنكهة أردنيّة

عدي مدانات.. سرد واقعيّ “تشيخوفيّ” بنكهة أردنيّة

عمر شبانة

عديّ مدانات، بحسب وصف إحسان عبّاس “كان صادقًا في محاولته أنْ يكون تشيخوفيّ الطريقة. وهو لا يخفي إعجابه بهذا القاصّ البارع، بل تراه في قصّته الأولى النموذجية “صباح الخير أيّتها الجارة”، يقول لنوال: أحضرت لك كتابًا لكاتب آخر يدعى تشيخوف، سيروق لكِ كثيراً”.

نعم، كان عديّ كاتبًا واقعيّا، ولكن ليست تلك الواقعيّة السطحيّة المبتذلة. وكان ماركسيّا، وربّما شيوعيّا (لا ضرورة لمعرفة إن كان حزبيّا أم لا)، كما كان منفتحًا على الحياة والحريّات، بما فيها حرية الفرد ومزاجيّته وإنسانيّته، على غير ما عهدناه لدى شيوعيّين متحجّرين، فكرًا وممارسة. وعليه، فقد كانت واقعيّة عديّ، و”تشيخوفيّته”، تنتميان إلى بيئته، إذ استطاع “تبيئة” الماركسية والواقعيّة، إن لم نقل “أردنتها”، لتستجيب لمعالجاته الخاصة بواقعه وبيئته، وهموم هذا الواقع، من جهة، ولأسئلته الإبداعيّة، بأبعادها الوطنيّة والوجوديّة والإنسانيّة، من جهة ملازمة. هذا ما أعطى إبداعاته أهميّتها وخصوصيّتها.

وبلا أيّ مبالغة، أستطيع القول إن عديّ مدانات، الراحل بالأمس عن ثمانية وسبعين عامًا، استطاع تقديم بناء متين لشخصية إبداعية نموذجية، حياة وإبداعا، قصّة قصيرة في الأساس، ورواية لا تقلّ شأنًا في خصوصيّتها، وذلك كلّه في فترة وجيزة نسبيّا، أي خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من سنوات حياته، إذ جاء إلى هذا الحقل الإبداعيّ “متأخرًا”، فقد دخله بعد بلوغه سنّ الأربعين، سنّ الحكمة والنبوّة، لكنّه كمن كان يحمل مشروعًا “منجزًا”، قام بتقديمه سريعًا، إنما على أحسن ما يكون التقديم، وغاب. إنه المشروع الذي يحاول فيه المبدع تفكيك المجتمع إبداعيًّا.

قبل هذا الغياب بشهور، ربّما، أخذنا نلتقي أكثر من المعتاد، وكان عديّ يبدي درجة من الملل غير معهودة، خصوصًا لشخص شديد الحيويّة لجهة حبّه للحياة، لكنّ هذا الملل الذي جعلني أطلق عليه عبارة “لقد بلغتَ من الضجر عتيّا”، كان مصحوبا بمتاعب جسدية شتّى، سواء في عينيه اللتين بالكاد يبصر بهما، حتّى أنّه تخلّى عن قيادة السيّارة، أو متاعب القلب، وحتّى الرئتين بسبب “شراهته” في التدخين. لذا كنّا، نحن بعض الأصدقاء المقرّبين إليه، نأخذه إلى “مقاهينا” في الشميساني، فيشعر بـ”عودة الروح”، كما يمكن لنا أن نقدّر.

في لقاءاتنا الأخيرة هذه، أهداني مجموعة من أعماله التي صدرت في أثناء غيابي عن عمّان، ولم أكن حصلت عليها، وكان أبرزها مجلّدين لأعماله الكاملة، وأنا أسمّيها “الناجزة” آنذاك، إذ صدر بعدها عدد من الكتب. المجلّدان الصادران في عام 2006، ضمن منشورات البنك الأهلي الأردنيّ- بالمشاركة مع دار ورد، يضمّ الأوّل منهما “الأعمال القصصيّة” المنشورة حتى ذلك الحين وهي “المريض الثاني عشر”، و”صباح الخير أيّتُها الجارة”، و”شوارع الروح”. فيما يضمّ المجلّد الثاني روايتَيْ “الدخيل” و”ليلة عاصفة”. كما كان من بين إهداءاته لي روايته “تلك الطرق”، وكتابه “فن القصّة، وجهة نظر وتجربة”، وأعتقد أنه كتاب جدير بالقراءة والعناية.

بين الحياة والفنّ

لعلّ طبيعة شخصية عديّ، هي نتاج اجتماع وعي ماركسيّ متقدم ومنفتح، بعيدًا عن ذلك التحجّر الذي تلمسه لدى شيوعيّين كثر، من جهة، وحياة مرفّهة إلى حدّ ما، كما يليق بمن مارس مهنة المحاماة سنوات طويلة، وفي تماسّ دائم مع مواقع أصحاب الثروة والنفوذ، من جهة ثانية، الأمر الذي وفّر له “مادّة” حياتية خصبة للعيش والإبداع، في آن. مادّة هي التي نجدها في شخوصه القصصية وشخصياته الروائية، هذه التي نراها في حياتنا اليوميّة، لكنّها هنا “مرسومة” بقدر من الشفافية والعمق، يعكس نفاذ رؤية الكاتب الخلّاق في مجتمعه وعوالمه.

ولعلّ عديّ، أيضًا، ومن بين الكثير من كتّاب ينتمون إلى جيله، وإلى “عالمه” الفكريّ الماركسيّ، استطاع أن يتخلّص، ويخلّص كتاباته من أيّة آثار للإيديولوجيا، من خلال خلقه نماذج حيويّة، نماذج هي “بنت الحياة”، لا بنتُ الأفكار كما يفعل كثير من الكتّاب “المؤدلجين”. وهو ما أعطى شخصيات “أدبه”، قصصًا أو روايات، تلك الأعماق والمتعة والمشاعر الحقيقيّة تجاه ما تكتظّ الحياة به من تناقضات، ما بين فرح وبؤس، وحب وكراهية، وغيرها من ثنائيّات.

شخصيّا، تعرّفتُ إلى عديّ مدانات، ضمن من تعرّفوا إليه في رابطة الكُتّاب الأردنيّين، في مرحلة صدور مجموعته القصصية الأولى “المريض الثاني عشر، غريب الأطوار” (1983)، تلك المجموعة التي لقيت صدى طيّبًا ومفاجئا، كونها لكاتب لم يكن معروفا حتى ذلك الوقت. وإذ أعود إلى تلك المجموعة، ضمن ذلك “المجلّد”، وكأنّني في قراءة لقصّة جديدة، رغم أنّني كتبت عنها في حينها. فهي ككلّ أدب “كبير” لا تُستنفد.

رؤية وتجربة

 

وعلى صعيد يجمع النظريّ بالتطبيقيّ، وبعيدًا عن أيّة أيديولوجيات أو تعريفات “مسبّقة الصنع”، يجترح عديّ، في كتابه “فن القصة وجهة نظر وتجربة”، ومن خلال تجربته القصصيّة وثقافته، مفهومات وتحديدات للقصّة القصيرة، أعتقد أنّها غير مسبوقة، خصوصا لجهة ما يسمّيه “القوى العقليّة”، القوى التي “تولد مع الإنسان، وتنمو وتتطوّر مع تقدّمه في العمر، واكتسابه من التجارب الحياتية ما له دور رياديّ لا غنى عنه في إثراء قدرته الإبداعية”. ويقوم بتفصيل هذه “القوى”، لتشمل “الانتباه، والمبادرة، والذاكرة، والخيال، والمخيلة، والفكر والتفكير، والمزاج، والطبع، والخلق، والذائقة الجمالية”، ويعمل على شرح كلّ منها، لغتها ووظائفها، حيث ثبّت مع كل قوة عقلية أصلَها اللغوي، كما ورد في معجم “محيط المحيط”.

ولأنّ الكتابَ في جزء منه ينطوي، في جانب منه، على ما هو تثقيفيّ – تعليميّ – تربويّ، يرى المؤلّف أن “مهمّة إعادة الروح للقصة القصيرة، مهمّة نبيلة وضرورية، لأن هذه القطعة الوجيزة الفذّة من الفنون الإبداعية، الأكثر شيوعًا وإشعاعًا، تستحقّ منّا جميعًا، كهولًا وشبابًا، هذا الجهد”.

 وعليه فهو يوجّه خطابه إلى المُبدعين “الشباب” في مجال القصّة، ويقدّم لهم المفاهيم المذكورة، وشروحها، ومنها مفهوم “المبادرة”، ويقوم بتعريفها على النحو الآتي “المبادرة لغةً من بدر إليه يبدره بدرًا، وبدورًا: عاجله، والأمر إليه: عاجل واستبق، وبادر إلى الأمر مبادرة وبادر أسرع. المبادرة تلي في الأهمية “الانتباه”، وهي التوجّه إلى الشيء بغرض تركيز الانتباه إليه، إذ لا يكفي القاصّ أن ينتبه إلى ما يصدف أن يراه، إذ ربّما ما لم يره، وهو موجود في مكان آخر، أكثر فائدة له. السعي لزيادة المعرفة يُكسب القاص طاقة لا تنضب، ويوفّر له مخزونًا معرفيًّا يلبي حاجته كلّما ألحّت عليه. فلينزع القاصّون الشباب عنهم كسلَهم، وليتحرّكوا في كلّ اتّجاه يخدم كتابتهم، ليستكشفوا عميم فائدة سعيهم”.

قراءات وآراء

 

لن نستطيع تغطية “مشروع” مدانات في هذه العجالة، ولذا أترك شيئا من المهمّة لمن كتبوا عنه. وبخصوص النموذج المتميّز، في كتابة القصّة القصيرة تحديدًا، لا أستطيع أن أنسى ما كتبه الناقد الكبير الراحل الدكتور إحسان عباس، فقد كتب في تناوله مجموعة عديّ القصصية الثانية “صباح الخير أيتها الجارة” ما تضمّن رؤيته لما يمكن أن تكون عليه القصة القصيرة، وما ينبغي أن تبتعد عنه، فجاء في مقالته، التي ضمّها –لاحقًا- مجلّد  الأعمال الكاملة (القصص) للكاتب مدانات: “أول ما جذبني فيها (يقصد في قصص مدانات) إخلاصها للمفهوم الذي تمثّله القصة القصيرة بين الفنون الأدبية الأخرى، فهي لم تنحرف نحو الشعر، ولم تصعد على جناح كسير من مبنى الرواية، ولم تمتلئ بفيوض اللاوعي، ولم تقف عند حدود اللوحة، ولم تحاول أن تتصدى لقضايا كبرى، موهمة أنها تستطيع احتواءها..”.

عبّاس، الناقد الذي نادرًا ما التفتَ إلى الكتابة الراهنة، واكتفى بما قدّمه عن نماذج من ثورة الشعر الحديث في بداياته، كالسيّاب والبيّاتي، ليختفي بعدها في رفوف المخطوطات، أو التأريخ للنقد العربي القديم، يتوقّف ليستطرد في وصف قصص مدانات، وبتكثيف شديد يقول “إنها قصص بسيطة واقعية في منزعها، تشيخوفيّة في طابعها العام، ومعظم شخوصها طيّبون بسطاء، المعلّم المخلص، والشرطيّ المتعاطف مع الناس، والمحاسب الأمين، والموظّف ذو الطموحات المعقولة، والمجرم المحبوب، والزوجة الوفيّة.. وهي “النموذج الأعلى” لدى المؤلّف نفسه..الخ”.

وفي تقديم مجلّد القصص هذا، يكتب القاصّ يوسف ضمرة عمّا يسمّيه “نغمة الحكي العالية” التي تحوّل “الأشياء الصغيرة والعادية والمألوفة، إلى كائنات حيّة بدمٍ ساخن، بل إن تلك الأشياء (الجوارب وأعقاب السجائر والفناجين وما شابهها) هي التي تشكل في مجموعها صور الخراب الذي حلّ في الروح..”. كما يتوقّف ضمرة عند “التدفّق العذب للتفاصيل الدقيقة”، هذا التدفق الذي يؤدي إلى “الوصول بالقصّة إلى حيث ينبغي لها أن تصل، وهو ما يمكن تسميته بالإشباع”، حيث القاصّ “وبكلّ ما لديه من أناةٍ ورويّة، لا يهمل أيّ حركة أو إيماءة أو لقطة يمكن أن تسهم في تقوية النسيج الكليّ..”. وبخصوص تقنيات السرد، يرى ضمرة أن مدانات “لا يلجأ إلى التقنيات الغريبة في القصّ، ولا تهمّه بعض التجديدات الطارئة أحيانا على القصة القصيرة، فهو معنيّ بالقصّ، وبقدرته على الإلحاح المتواصل من أجل إعادة النظر، والتدقيق مليّا في تفاصيل حياتنا القصيرة، التي لا تحتمل تأجيل القرارات، وتهميش المسرّات.. أي أنّه معني بأن يرينا الحياة من جانب آخر لم نألفه من قبل، وهذه الرؤية هي التي تتسبب لنا في الإمتاع والرعب”.

عالَم الروايات

 

 وبالعودة إلى مجلّد الروايات، أجدُني أتوقّف مع رواية “الدخيل” (1991)، وأعود إلى قراءتها، لأكتشف أنّها ما تزال تحتفظ بذلك “السحر” الذي شعرتُ به في قراءتها، والكتابة عنها، حين صدورها قبل ربع قرن.

الدخيل، هنا، فتاة مشرّدة، ونكاد نقول “نصف معتوهة” حسب تعامل المجتمع معها، وفجأة تجد نفسها “لاجئة” إنسانيًّا في بيت رجل يحتويها ويمنحها “المأوى” الذي هو “الحبّ”، فيتغيّر “كيانها” كلّه، في معنى أنّها اكتسبت إنسانيّتها مجدّدًا.. لكنّها لا تلبث أن تشعر بـ”الأمان”، حتى يتعرّض البيت إلى هجوم عنيف، لاقتلاع الفتاة منه. فنحن، في النهاية، أمام مجتمع محكوم بقوى ومفاهيم لا علاقة لها بالإنسانيّة، بل لها قوانينها، عاداتها وتقاليدها.

وفي تقديم هذا المجلّد، نقرأ تقديم القاص والروائي هاشم غرايبة للأعمال الروائية لمدانات، إذ يكتب بقدر من الاختصار “ثمّة سرد يبعث على التساؤل والحيرة، بقدر ما يهبنا متعة القراءة والتأمّل، ونحن أمام كاتب شغفنا بقصص تشيخوفية رائعة. ولكنّه في عالم الرواية، يشتقّ نسقًا مختلفًا عمّا ألفناه في قصصه القصيرة، رواية “الدخيل”، ورواية “ليلة عاصفة”، روايتان جديدتان ـ بمعنى مختلفتان. يذهب فيهما عديّ مدانات إلى المناطق الجوّانية في أغوار شخوصه، ويطلقهم في شوارع عمّان، ليوائم بين عالَمهم الداخليّ وعالم المدينة الخارجيّ. الحسّ الإنساني العميق، ورهافة الروح الإنسانيّة، في حالة اصطدامهما مع العالم الخارجيّ القاسي، المتمثل بشوارع منتصف الليل ودوائر الشرطة، والحوانيت المغلقة، والأفق المسدود، أو تلك الحالة المتمثّلة بعالَم داخليّ مضطرب للعائلة، يمتدّ اضطرابها إلى العالم الخارجيّ العاصف. هاتان الحالتان تلتقيان عند ثيمة أساسية تشكّل مفصلًا هامًّا في عملَي عدي مدانات المجتمعَين في هذا الكتاب، وهي الروح، ولكن ليس بالمعنى اللاهوتيّ لهذه الكلمة، بل بمعنى نبض الأشياء والناس والأماكن التي تنظّم الحياة بحلوها ومرّها”.

  • عن ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *