الشاعر ادوارد عويس.. الأمــة.. الوطــن.. الإنســـان

(ثقافات)

الشاعر ادوارد عويس..

الأمــة.. الوطــن.. الإنســـان

نايف النوايسة

مقدمــــة

      قــد يتحفــظ المــؤرخ فــي رحلته التاريخيــة على بعض الوقائع والأحـــداث 0فلا يسجلها كما يتوقع المتلقي، لأنه بجميع الأحوال متورط بعملية إرضائية تضيّع إلى حد كبير حياديته، أو موضوعيته المطلوبة، ومثل ذلك وربما أزيد بفعل السياسي الذي يدفعه منهاجه السياسي إلى الخروج على الاستراتيجية أو الثوابت والدخول في تيه المراوغة والتكتيك الذي يخدم برنامجه.

      أما الشاعر فله شان آخر تماماً لأنه، وان مدح هذا أو هجا ذاك، سيعود إلى نفسه ويتصالح معها ويأخذ من معين القلق أو نبع القضية التي تؤرقه كل أسلحة المواجهة والصدام لأنه في لحظة كتابة القصيدة مسكون بالكون كله كقضية، ولا يقف عند حدود في الرحلة الشعرية؛ يفصل فيها ويفرز ويحذف ويضيف كما يفعل السياسي والمؤرخ ولكن ليس تعميما.ً

    الشاعر في يقيني مشروع شهيد، وقصيدته التي تعانق الحياة من بنيتها البريئة الندية هي بيان ساطع قد يقود بالشاعر إلى المقصلة، وعلى هذا الفهم اُشتق اسم الشاعر من الشعور والإحساس وشدة التأثر والرهافة، وأما القصيدة فهي التام من الشعر الذي قصده الشاعر بعد أن استقر في خاطرة وانشغل في تجويده ولم ينحُ في كتابته نحواً سطحياً وصفياً، أو يلمه أشتاتا كيفما اتفق.

     القصيدة كما أرى قضية مزدوجة، يذهب شقها الأول إلى معين أزمة يعيشها الشاعر، واجتهد على نقلها إلى نفسه الشاعرة ونسبها إلى جملة أوجاعه الشعرية، وأما الشق الثاني فهو إخراج هذه الأزمة إلى الحياة مرة أخرى من بوتقة اللغة.. هما قضيتان متلازمتان تتصارعان حتى تنبثق القصيدة من بينهما.

ادوار عويس / الشاعر

      اندغمت في مسيرة ادوار عويس الشعرية ذاته الخاصة بذاته العامة، ولا يكاد المتلقي لشعره يفصل بين الذاتين، فالفضاء الشعري الذي يمده الشاعر في سماء البوح ينطلق به من منصة خفية متوارية ومعين جياش طافح بالثورة.. هذا هو عويس الحقيقي إذا ما رفعناه من مقاسات الحياة العادية التي نرى فيها الآخرين0

     عويس طاقة نضالية تفصح عنه قصائده كلها لأنه وطّد نفسه ورسَخ وعيه على هموم أمته ووطنه، وتبنّى  قضايا  الإنسان ـ أياً كان ـ محللاً أسباب التجاوز على القيم الإنسانية وداعياً بشجاعة إلى مواجهة هذا التجاوز0

     إنه  شاعر الإنسانية الذي لم يقف عند حدود الدين والطائفة أو يتورط في ثقافة الحارات والزوايا والشلل، وإنما رفع نفسه فوق كل ذلك؛ فسخت لغته ومبادئه والقضايا التي يواجهها، فحقَ علينا أن نسميه( الشاعر السامي أو النبيل) ومرتكز فلسفته ومفتاح شخصية الشعرية يقومان على دفاعه عن الحرية والإنسان والأرض والوطن، انه عاشق للحياة الكريمة 0

       وفي هذا البحث ستكون موضوعة الأمة والوطن والإنسان هي المبتغى في النتاج الشعري لهذا الشاعر، والوقوف على معالم إشراقاته التي وضعته في مكان متقدم بين شعراء جيله.

الأمــــــة:

      منذ فتح الشاعر عينيه في ثلاثينيات القرن الماضي وهو يرى انهيار أمته وارتكاسها، وتداعي الأمم عليها كما يتداعى الأكلة على قصعتها، وادوارد عويس بفطرته الثورية وإحساسه الأصيل بكرامته لم يغمض له جفن وهو يرى هذا الارتداد بشكل مهين، فعاش الحالة واستقرت في خلده وتشرّبها من كل الجهات، فهو مجاور لفلسطين ولا يحتاج إلى من يوقظ في نفسه مقارع الطبول، ومُطلَ على كل شوكة تدق أصابع أمته ويكاد يكون وكيلاً لكل عربي وهو يصرخ موجوعاً.. انه الشاعر الحر، الذي ما فتر بركانه ولا خمدت نيرانه، يد على وجع لم يبارح أمته، ويدٌ أخرى على سلاح الشعر يمتشقه فارساً جوَالاً لا تغمض له عين أو تصدأ له كلمات، أو تنام قصائده على ثغور المواجهة.

     والأمة عند عويس هي كل المفاصل والأجزاء التي أعطبها الأعداء، وعاشت بلاء الاستعمار، واسترخاء الأنظمة والأبناء.

      يغرز عينه في الأفق الغربي الملتصق بداره فيرى القدس تنزف، وتتململ في أسرها، وتحاول التخلص من قيودها وتمد يداً لقومها، لكنها مصفدَة بإحكام، وجرحها نازف، والعرب ينظرون.. والشاعر في قصيدته( القدس مرمى العصا)، دقيقاً واضحاً، تكاد تقرأ من عبوس وجهه حروف الألم والمهانة على وجه القدس، ويقول:

ناديت قومي ولا نار ولا حطب             أين المجامر والنيران يا عربٌ

   مطلع ناري لقصيدة أرادها الشاعر صرخة في آذان العرب الذين ناداهم وفصّل لهم في سيرة مدينة نخرها الأعداء كالسوس الذي ينخر جذر الشجرة،  ثم ينتقل بلغته الراقية من النداء إلى السؤال الفاضح:

أين المروءات إن نادت مصفّـدة    في الأسر معتصماً هاجت له القضــب

القدس في حبسها المشؤوم نازفة     تهفو للقيا الذُرى والدمع منسكـــب

  مرمى العصا حبسها والحشد ملتئم          في قلب يعرب والتاريخ مرتقــــب                                                 ( أجراس.. ص 10)

      وأقف عند كلمات لها دلالاتها الكاشفة، واحسب أن الشاعر من ألم يؤشر ويصرخ وينزف دماً ودمعاً( مرمى العصا) فيها عتاب قاسٍ لأمة استرخت وأسبلت جفونها على ذل، العبارة فيها وخز في قلب الأمة لعلها تفيق من سبات طال، ويصرخ بعد توالي النداءات:

     يا أيها الحشد إني مرهق ويدي       في النار تُكوى وقلبي دأبه النصـبُ

إني أقــول وللتاريخ ذاكـرة             تُصغي إلي وقولي اليوم محتســبُ

كل الخطايا ما أروت لنا ظمأً       ولا شفى من ضنىً نفط ولا ذهــب

إنا نُريد دواءً يستطب بــه           قوامه العزم والنيران والغضــــب

                                         ( أجراس00 ص 10)

      إذاً، حتى تعود القدس حرة كريمة، وفق ما يؤكد الشاعر، علينا أن نتجـــاوز( القول الوديع) كالخطابات، والمال الدافق كالنفط والذهب، ونركز الإرادة على دواء نضالي مركب من ثلاثة عناصر هي( العزم والنيران والغضب)، هي الثورة على الظلم والعــدوان، دعوة صريحة لإيقاظ الأمة من نومها العميق0

      وفي قصيدة أخرى لها وجع شخصي في حياة الشاعر عنوانها( أزف الرحيل) لم يغفل  عن هواجسه القومية أو تبارحه آلام الأمة، فهو حين يخاطب جرش وع جلون وكل الأمكنة الأردنية تقفز من معين وجعه ما أصاب الأمة من نكبات، ويقول:

وأجلت طرفي في بقاع عروبتــي            فتساوت الفيحاء والصحـــراء

لا تونس التفتت ولا انحسر الضنى        عن نيل مصر ولا شدت صنعـاء

لا أسعفتني في الشام غمائــــم               أو غاب عني في العراق عنـاء

                                         ( أجراس00ص 23)

ماذا أقول وأي نوح مفجـــــع         يدمي الجوانح والنّواح نــداء

                                         ( أجراس 00 ص 23)

    هنا ومن شدة الألم لم يعد النداء يفيد فاستخدم الشاعر سلاحاً جديداً لإيقاظ الأمة هو النواح، لعل هناك من تهزه سورة النواح وينهض من سبات كما فعل زهير وهو يسمع الصريخ:

إذا ما سمعنا صارخاً، فَعَجَت بنــا          إلى صوته ورق المراكل ضُمّــرُ

                                         ( لسان العرب/ صرخ)

     وأعجب الشعر ما خاطب به الشاعر أمته التي تعيش الوهن والتردي وفي الحين ذاته تُغرق العالم بالنفط والذهب، هنا، يدخل إلى باحة الأمة من تاريخ أمجادها ورصيدها التالد في بناء العالم ويهزها بشعره لعلها تستيقظ، انه شاعر مُؤرّق بهموم قومه، لذلك يقول منادياً متعجباً، في قصيدته( يا امة العرب.. يا أعجب العجب !!!! ):

يا امــــة العرب

يا أعجب العجــب

في غمرة البلوى وفي عواصف النُّوب

في خيبة المسعى وفي غياهب التعب

اهدي خطابات الأسى

إليك يا فاتنتي

واشرح السبب

                                                 ( أجراس..  ص 31)

    ولعله وهو يشرح السبب كان يبكي ويتقطع قلبه من الأسى، فهو شاعر حساس مسكون بأوجاع الأمة، وآل على نفسه أن يوالي النداء والصراخ فقد يكون هناك من يفهم ترجّيه:

وهل ألاقي وجهك الجميل يا معشوقتــــي

في سورة الغضـــــــــــــــب

                                         ( أجراس.. ص 35)

    في موقع آخر لم يناد مصر بـ( يا مصر) في قصيدته( يا أمنا يا مصر) وإنما نسب أمومتها إلى الجماعة، وفي العنوان ياءا نداء لزيادة تأكيد القضية المصيرية، وأن مصر هي عصب مهم في جسم الأمة يقول:

يا أمنا يا مصر قض المضجع           وانهـــد قلبك والصروح تصدّع

                                           ( أجراس.. ص 77)

    هذا بيان مهم لكشف الأوجاع، فبدأ من خوفو، وعمر بن العاص، وعبد الناصر من خلال الإشارة إلى( يوليو) ويذكر النيل في جريانه، الذي يشبه دوام المجد والعز.. وينتهي إلى حكمة حاسمة لدوامة الذل فيقول:

ما الموت أن تبلى الجسوم وإنما           موت الفضائل في النفوس الأفظع

                                         ( أجراس.. ص 80)

    وفي وجدية ل( بيسان) ترى شاعرا يحترق غيظا وألما، ويتحرق شوقا ورجاء، وهو إذ يعبر النهر إلى بيسان تظل نفسه الشاعرة على تضاريس القضية تلهج بالنداء لعل هناك من يسمع:

يا نهر الأحزان المتدفق فوق صحارى الهجر

ويا هول تضاريس الأشواق المسفوحة خلف جدار القهر

                                                                 (ريادة.. ص27)

 وينفجر قائلاً:

يا قلبا يرتاد الخصب بلا جدوى…..

فأس…. حجر….

كأس…. قمر….

كل الأشياء هنا عجب

كل الأشياء هنا حيرى

 لكنه لا يفقد الأمل ، فيلتمس بزوغه من عمق الجرح فيخاطب بيسان:

بيسان أذيعي ( سر الليل)

لعل حنين سروج الخيل

لعل عطاش خيول الليل

بنزف الجرح… وسفح البوح… ووهج النوح

تغذّ الخطو إلى مرسى….

تدنو بالقلب إلى لقيا….

                                                                          ( ريادة.. ص34)

   ويقول الشاعر لسلمى قولاً مضمخاً بالأسى والأمل؛ يكويه الذل من جهة ويرحل به الرجاء إلى الآفاق البعيدة في أرجاء الأفق، والوطن السليب على مرمى العصا منه من جهة أخرى، وفي( أقول لسلمى) بوح صاف إطاره الألم وعمقه الشوق إلى الحرية ومبتغاه لحظة عز، يقول:

أقول لسلمى:

أضاء الحنين..

وعانق بوح الرؤى الآسية

فهزته ريح الهوى الساحلي

تؤجج أوجاعه الدامية…

    ويناديها بلهفة المشتاق للوطن وعشق الشهيد للإله ولا يكون ذلك إلا بمثل عشق الحرائق:

تعالي نجدد ليلة عشق      فشوق الحرائق نار ونور

بمجد الحرائق تزهو العصور

( رواء المساء ص31)

     وتنفتح أبواب القريحة عنده على مصاريعها بين يدي ذكرى ميلاد عرار، فتجنح به مراكب القصيدة إلى هموم الأمة وانكساراتها وتردّيها وكأن الشاعر وجد في هذه المناسبة ما يستفز فيه مكامن الألم والحنين إلى وقفة عز، ويخاطب عرار:

عرار مهلا فعندي نفثة عصفت         رعناء تمعن في الأحشاء تطعينا

………………..

في موطن العرب أنصاب بها شبق        تراود الناس ترويضا وتدجينا

وللسياسة أسواق مخصصة                  وقد أقاموا لها فينا دكاكينا

                                                        ( رواء المساء.. ص 37)

ويخاطبه قائلا:

      يا شاعر الشعب .. هل تهدي لنا رمق    من نبض شعرك يشفينا ويهدينا

      يعبد للشعر أياما زهون على             درب النضال … بها يحلو تلاقينا

                                                         ( رواء المساء.. ص37)

    وهو إذ ينشغل بقضايا الأمة وما أثخنت به من جراحات ومصائب يجعل من فلسطين البؤرة الفاعلة في ذلك كله، ونرى هذا التوجه مبثوثا في معظم شعره، انطلاقا من قدسية القضية المصرية المحورية ، فلسطين هي عروس الشرق وأم الحضارات، ويبكيها في قصيدته( أغنية فلسطين ) قائلا:

يا عروس الشرق ضوعي بالمنى        وانثري عطرك ضوعا ملهما

كنت أما للحضارات على                      حقب الدهر تجيرا لأمما

   وفي القصيدة التي تليها( يا أخوة عدّوا للعشرة) ينادي من قلبه العربَ في كل مكان، ويستنهض هممهم ويوقظ فيهم مشاعل الحياة لعل واحدا فيهم يقوم ويعد للعشرة:

يا أخوة عددا للعشرة

فالخيبة فينا منتشرة

والنعمة عنا مندحرة

ها نحن نسارع كالبرق

إلى أن يقول:

والحاصل من كل الحسبة

فشل.. فشل.. فشل.. فشل

                                                        ( رواء المساء.. ص 53)

    والقصيدة تشخّص مقاطع أدواء الأمة في كل مفاصلها، ولكن لم ييأس، لأن العد للعشرة لم يتوقف، والأمل بالنهوض قائم.

    وما أجمل النداء في قصيدته( أمي ) الذي أراده الشاعر واخزاً، كاشفا، مشيراً إلى حالات الوهن والهبوط والقنوط، راجياً اليقظة والوقوف، انه شاعر موجوع بأمته، فوظّف كل كلمة في شعره لتكون جرسا منذراً، ونداء ملحاً؛ بدأ في المقطع الأول من القصيدة مكرراً( أمتي.. أمتي )، وكذلك كرره في الثاني لأنه في معرض توصيف الداء وتعرية الموقف، أما المقطع الثالث فاكتفى بكلمة واحده من النداء( أمتي ) فهو في مقام التوسل والرجاء كما يفعل الطفل وهو يحاول إيقاظ أمه النائمة لترضعه.. وحينما لم تقم الأم عاد الشاعر وكرر النداء في المقطعين الآخرين، إنه توازن فني لافت في القصيدة بلغه عالية المستوى لأن الموقف جلل والحالة تستدعي النداء المتكرر.

   ولا أزعم إذا قلت أن ديوان “رواء المساء” هو رحلة حقيقية في أوجاع الأمة، وقد استوطنه الشاعر ليكون جواز سفره إلى قلوب الذين يبحثون عن ضوء في العتمة.

الوطـن:

    وأضع هنا مفهوماً محدداً للوطن عند إدوارد عويس على صعوبة هذا التحديد ومجافاته للرسالة الفكرية الشاملة التي استوعبت كل شعره لكنه ابن وطن يلاحقه وجغرافيا تطبع تضاريسها على قلبه، وتسمه بمياسمها الصريحة…

   ينطلق الشاعر من بيته أولاً إلى هذا الفضاء الواسع ثم إلى عجلون مسقط رأسه ويسيح بعد ذلك في كل الأمكنة الأردنية، بيد أنه في كل زواياها لا يبتعد عن فضائه الشعري الرئيس وهو الأمة، إنه شاعر جاد حتى في أكثر اللحظات( شخصية)..

     يتشكل الوطن عنده من الأسرة، لذا لا عجب إذا سمّى دواوينه بأسماء أعضاء أسرته، وكان قد وطّن النفس على ربط هذه الأسرة الكريمة بعمقها القومي، ووضع عليها عبئاً ثقيلاً لا تحيد عنه تجاه قضايا الأمة.

    يهدي ديوانه الأول( ريادة) لزوجته نهيل، هذه الزوجة التي بدت شاخصة في القصيدة الأولى( حبيبي لما غاب الليل)، وأرى فيها عشقاً حقيقياً، وبيتاً بُني على الحب وصنع الحياة، إنها الريادة على هيئة بنت أو بيت أو انطلاقة..

   ويرد المكان الأردني عنده مقروناً بفلسفة الشاعر إجمالاً، ويقول في قصيدته( عيون البلقاء) أي عيون بنات البلقاء ويذكر فيها عراراً:

وعيون في السلط أُرِّقنْ عمراً     وخبرن الهوى وذبن انتظارا

( أيها المنتحي بجلعاد دارا        ما سلونا ذكراك والأخبار)

هو حق بعد البعاد عتاب        طبتَ فرع الأُلى وطبنا مزارا

فأحس من فاتن الرواء نهيلا      في هوانا.. ونضد الأشعار

أي عيون البلقاء رفقا بقلب     في هو الغيد ما أطاق اصطبارا

ثقلت وطأة الخطوب على القلب       وأدمـاه بأسها إصرارا

                                                              ( ريادة.. ص110)

    وهنا نجد الشاعر إلى الخطوب والماسي أميل حتى وهو بين الحسناوات والغيد اللواتي يعاتبنه على قلة شعره فيهن.. إنه الأرق الأعلى الذي لا يلبث يعاوده حتى في أكثر حالاته انعزالاً وخصوصية.. إنه شاعر أصيل وصادق.

    لكن الشاعر العاشق لأمته لا يغيّب وطنه( الأردن) من قلبه فهو حاضر عنده بكل حواضره وبواديه.. ففي ديوانه( أغنيات إلى يارا ) والذي أرادته ابنته يارا أن تسمّيه باسم ابنتها( سوار الأغنيات) بهدف أن يحمل أبناء وأحفاد الشاعر رسالته ذاتها، ويقول في الإهداء:

أردن يا أغنية البهاء

مفاتن السحر

أردن يا ترنيمة العبير

في ارتعاشة الزهر.

………..

يا موطني ….

يا موئل الجلال

في ارتحال صبوة القمر

                                                      ( سوار الأغنيات.. ص11)

   إذاً، لم يغفل الشاعر مكانة الأردن في قلبه، فلازمه وطناً وأغنية وقصيدة، ولكن أي أردن تغنّى به الشاعر؟!

    هو.. عمان التي عشقها وسكنت أحلامه وفتنته بحسنها، يقول في( عمان عشقتك فاتنتي):

عمان تُحاور ترحالي

أشذاءُ الورد

فأعلّلُ لوعةَ أمالي

بجنان الرّغدْ

…………

عمان بهاؤك منتجعي

واللقيا وعد

سأشيد مجدك من وجع

ودمي والوجد

                                                       ( سوار لأغنيات.. ص13)

   أبداً، لا يغيب الوجع عن ذهن الشاعر حتى وهو يتغزل بعمان ويبحث في عينيها عن شموس الحياة..

   ويعود إلى عجلون الحبيبة إلى قلبه، ليقرأ في كتابها الجميل سحر الوطن وجمال المكان، ففي قصيدته( سحر عجلون) بوح خاص من عاشق عنيد:

عجلون والسحر والأحلام والصور    نبع الجمال وحسن خالد عطر

عجلون والقلب لا يخلي مرابعه         يممت صوبك والآمال تنتظر

                                                     ( سوار الأغنيات.. ص17)

    بمعنى أن الشاعر مهما أخذته الجهات وابتعدت به مقاصد الحياة، وعلا كثيراً في مشوار العمر إلاّ أنه لا ينسى( مربعه)، وعجلون عند الشاعر هي أول منزل واليها يتوق القلب، هي قلعة الربض، واستب، وغابة البطم، والصوان، واشتفينا.

  ويذهب إلى( عروس الشمال) ويناجيها وكأنه صوفي يناجي الذات الإلهية في مقام الجذب يقول:

يا أربد فيضي وامتدي     بالحب وأمل السعد

وابني بالسيف وبالورد   صرحاً للمجد وأسوار

  فهذه القصيدة مختلفة في قافيتها وبحرها لأن الشاعر يرى المدينة ليست كما المدن الأخرى:

يا أربد مغناك السهل    رحب والسهل كما التل

رغد والبهجة تنهل      من سحر سمائك أمطار

   ويراها الشاعر عرساً للمجد، ولا عجب عنده أن تكون المدينة الأصيلة التي تحافظ على العهد للأردن وسيادته وعروبته:

عرس للمجد لك انتسبا    وشجا الأردن به العربا

يختال برفعته طربا        ويضيء بزندك أسوارا

                                                      ( سوار الأغنيات.. ص21)

   وينشد الشاعر للأردن كاشفاً عن محبته وانتمائه يقول في أنشودة ” وطني الأردن”:

وطني الأردن رسمت غدي    في تربك يا أحلى بلد

وحفظت بهاءك للأبد

يمتد بقلبي بستانا

  ويقسم الشاعر أن يظل وفياً للأردن، وفي يقيني أن الانتماء الحقيقي للأمة يبدأ من الوطن ومسقط الرأس لأنه حين يقول:

عهداً أردن مدى الزمن      في السلم وفي نار المحن

سأظل فداءك يا وطني

وأعيش لمجدك عنوانا

   لم يجد الشاعر غضاضة في ربط هذا العهد ببعده العروبي الصافي فقال:

بالعلم نرد وبالأدب    والقوة كيد المغتصب

فيضيء بناء مجد العرب

والقدس تعانق عمان

                                                      ( سوار الأغنيات.. ص25)

    فالأردن هو حاضن هذا الشعور الذي يفضي بالشاعر إلى مجد العروبة، ورمز ذلك العناق الأصيل بين مدينتين عظيمتين هما القدس وعمان، فالشاعر لم يتلّبث كثيراً في محليته، فآب إلى همه المقيم( امة العرب)، ولم يلهه هذا الهم عن الالتفات إلى ربوع الأردن، يقيناً منه أن الأردن في مبتدأ تكوينه قام على قضية العرب وحملها وانهم بها.

    حظي” الوطن” بحصة كبيرة من شعر عويس، والتقط من هذا الوطن أزهى الخيوط وأجملها، يقول:

أردن يا أردن أي مشيئة          في مقلتيك تصعد الإصرار

شيدت صرحا للمنى يزهو به    شوق العروبة عاصفاً جبارا

وحملت راية وحدة عربية       تمحي الحدود تهدم الأسوار

هي ثورة عظمى يتيه بوهجها     أمل العروبة ساطعاً هدارا

    ويذكر الكرامة والقدس وعمان والنهر المقدس ومكة والمدينة، انه يفتح سجلاً وجدانياً لجغرافيا المجد والذكريات والعزة، وكأنك وأنت تقرأ لإدوارد عويس قصائده الوطنية ترى شاعراً يذهب بعيداً عن عجلون، لكن ما وقر في القلب، وشددت البناء عليه في يقيني هو أن من لا يحب مسقط رأسه لا يُصدّق فيما يدعيه من حب لسواه.. الصدق يقين كلي غير مجزأ، وعويس أقام وطنه الشعري على صدق ونقاء فجاءت نفسه الشاعرة مقترنة بعمقها الشعوري القومي صادقة في التعبير عنها دون مواربة أو إيغال في التأويل..

   غنّى الشاعر للأردن وعجلون وجرش والسلط وعمان وأربد, وأنشد للأطفال, وكان ملتحماً بفضائه الشعري في كل الظروف والأحوال..

    المكان عند عويس منصة مؤقتة ينطلق منها إلى علياء الهدف المتصل بالأمة وقضيتها المصيرية( فلسطين).

الإنسان

    لم يغفل إدوارد عويس  موقع الإنسان في رحلة القصيدة داخل نفسه, فهو حاضر في دور الأب والأم والحبيب والحبيبة والأجيال التي تصارع صوب المرتقى الصعب, وكان مع المهمشين  والذين تطحنهم الأيام والليالي واحداً منهم ومدافعاً عنهم .

    تبدأ الحياة بالحب, ولعلها بداية الإبداع والخلق، فيقول في قصيدته( حبيبي لما غاب الليل)على لسان الحبيبة:

حبيبي لما غاب الليل

واطلع عطر هواي على شفتيك

نشيد الحب الواعد

    ( ريادة.. ص11)

   الإنسان, الزمن, العاطفة كلها تنتهي إلى ثمر يانع على شجرة الحياة, أما حين يخاطب الحبيب حبيبته فهناك بحار الأسى وجزر الأمكنة ومفازات الزمان..

    وفي قصيدته( إلى جارية) يدرك متلقيها أن ثورة عارمة على كل أشكال الظلمة  قد تفجرت شعرا، يقول:

بعدما غاب هجير الصيف

عن أروقة الوجد المسجاة على الصدر

وألقى قطع الظل ودلى

كيف لا تمطر فينا غيمة المأساة

ملحا.. وحرائق؟

( ريادة.. ص57)

    سورة من الغضب ضد كل الطغاة الذين يتاجرون بكرامة الإنسان فجرتها علاقة( الجارية والنخاس) في نفس الشاعر, تجدها متمثلة في عدد مدهش من الصور الشعرية في القصيدة, مبينا أن الإنسان أياً كان هو قيمة لها قدسيتها ولا يجوز التلاعب بها.

    ويتجلى موقع الإنسان عنده في صورة الأب، وقد تضمن إهداؤه في ديوان” أجراس قبل الرحيل” معاني رفيعة لعلاقة الابن بابيه التي تقوم على العهد والإقرار بالجميل:

عهداً لمجدك يا أبي في غربتي    شيدت باسمك للنضال منارا

علمتني عشق الريادة والعلا       وتخذت علمك للحياة مسارا

  فالشاعر ملتزم بنهج أبيه وما رسّخه في نفسه من قيم ومثل وحب للريادة واقتحام العلا.. بمعنى أن هذه العلاقة بنيت على رضا الوالد وطاعة الابن في رحلة الصعود لتحقيق الهدف.

    كما يتحدث عن علاقته بأمه والدور النبيل لهذه العلاقة في بناء اتجاهاته ومسار حياته؛ فهو يناديها بإلحاح وكأنه لا يريد مفارقتها.. هي في نظره زهرة الأمل ودوحته وروضة أحلامه، ويستجلب من وجدانه صوراً مضيئات لأمه يقول فيها:

صور تلاحقني فأين افر من   وجع الفراق وخيبتي وعذابي

طفل أنا أماه كيف تركتني      للحادثات أضيع في أوصابي

يتم الأمومة عضني في غابر   من وقفة البلوى على أهدابي

  هنا، يأخذ بالتواري خلف قضايا الأمة لأنه لا يطيق على مثل هذا النحو صبراً فيقول:

ومن ابتغى نهج الضلالة شرعة   فهو ابن شؤم في الضلالة كاب

ومواكب الشهداء تعرف دربها          وتعود للدنيا بأوسع  باب

( أجراس قبل الرحيل.. ص 67)

   وفي ميلاد الشاعر عرار يهدي الشعب الأردني قصيدته” عرار رد النقا ” ويتشابك الشاعران فيها بصورة مدهشة، فهما مهمومان بقضايا الوطن والأمة والإنسان، يقول في مطلعها:

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *