صورة الشاعر في نصوصه

*رشيد المومني

يبدو التساؤل عن حدود ومستويات حضور صورة الشاعر في نصوصه، موضوعا لا يخلو من الطرافة، خاصة حينما يُتناول برؤية مختلفة، لا تكتفي بقراءة هذه النصوص، على ضوء المعطيات الواردة في تفاصيل سيرته الذاتية، بما يتخللها من مواقف فكرية أو سياسية، أي باعتبار أن التجربة الشعرية، ليست في نهاية المطاف سوى امتداد طبيعي لحياة الشاعر الشخصية، والعكس بالعكس، حيث يتم الاحتكام في ضبط هذه العلاقة، إلى القانون التقليدي المجسد في ثنائية الصدق والكذب، الذي استبد بمنهجية الخطاب النقدي على امتداد أزمنة خلت، حيث كان من تداعياته تشويه بنية هذا الخطاب، كي يتحول بالقوة والفعل، إلى حجاب سميك، يحُولُ دون التعرف على طبيعة المكونات الأساسية الحاضرة، أو الغائبة في ثنيات النصوص.
وبالتالي، فإن العلاقة التي تعنينا ضمن ما أشرنا إليه بالقراءة المختلفة، هي التي تخُص مستوياتِ تَماهي الشاعر مع ما توظفه نصوصه من كائنات مادية أو تجريدية، في شعرية طقسٍ رمزيٍّ، تتقاطع فيه اﻷبعاد السيكولوجية بالفكرية، والجمالية. وهذا التساؤل يتأسس على قناعتنا، بوجوب تحَقُّق تلك العلاقة التفاعلية بين جسد الشاعر، وما تبدعه تجربته من عوالم، منها يستمد النص حياته ومصداقيته، ذلك أن عملية انصهار روح الشاعر- مثلا- في أضواء بروق خاطفة، قد تضيء حاشية ما من حواشي النص، لن تكون بالضروري مجسدة على أرضية واقعية وملموسة، بقدر ما تكون مؤهلة لتأكيد وعي الشاعر بدلالة الروح بوصفها إشكالا إنسانيا وشعريا في آن، وأيضا لتأكيد وعيه بأبعاد التفاعل الذي يُمكن- ودائما على سبيل المثال- أن يتحقق بين الروح، وضوء البرق.
وكما هو واضح، فإن تساؤلنا لا يخلو من إنكار يجد دليله في هشاشة النماذج التي تحاول عبثا، إقناعنا بقدرتها على نسجها لعلاقات شعرية مع أشياء العالم، في غياب تام ومطلق لتعاطفها مع هذه الأشياء. وما نعنيه بالتعاطف هنا، هو تلك الشحنة القوية من الاستكناه السيكولوجي، الذي تسمح بانتزاع العناصر من شيئيتها ومن حيادها، في أفق إعادة دمجها ضمن فضاء التفاعل الإنساني، الذي تتشكل في قلبه علاقة الشاعر الجسدية والذاتية، بما يرسمه من أشكال ومن أجساد ومن ظلال، حيث يتم وبقوة هذا التواطؤ، الانتقال بالحياة من حد المتخيَّل والمدوَّن، إلى حد الواقعي والمعيش، بعيدا عن سلطة ثنائية الصدق والكذب، وخارج سياق العلاقة الصارمة، المكرسة بين الواقع والمتخيل، بفعل انتماء الشاعر إلى النص، وبفعل قابليته للتورط الرمزي فيما يكتبه، وفيما يتخيله. ضمن هذا التصور، سيكون من الطبيعي تعميق التساؤل عن دلالة تلك التماسات القائمة بين الجسد ومتخيله الإبداعي والجمالي، بما تعنيه هذه التماسات، من تمثل عميق لأشياء العالم ولمتخيلها، والذي قد يرتقي من مستوى التمثل إلى التملك، كما يمكن أن يظل مراوحا حدوده الدنيا، كلما اتسعت مساحة الحياد بين الذات الشاعرة وموضوعاتها.
إن عنف المُنْكتِب أو رقته، يُستمد من قلب هذه العلاقة، ومن قلب إمكانية العثور على خيوط محتملة، قد تُنسَجُ بين الذات في ذاتها، ثم بينها وبين العوالم الشعرية المستحضرة في فضاء النص. وإذا جاز النظر إلى صورة الشاعر، وقد تربع صهوة بُراقه الشخصي داخل النص، بوصفها لقطة في غاية البهاء والجمال، فإن الإشكال الشعري، يتمثل في المستوى الإقناعي الذي تتميز به جمالية اللقطة، والذي لا يتحقق إلا من خلال تقدم وعي الشاعر بحضور البراق، الذي ينفلت من إطاره الرمزي، كي يتموضع في قلب المشهد وقد أمسى مطبوعا بحسيته الملموسة والمعيشة.والشيء نفسه بالنسبة للنهر الذي يتدفق دما أو خمرا، لأن الكتابة سوف تسعفك حتما بإمكانية التملي في طيف الشاعر، وهو يتكئ على الألف عند عتبة الجحيم، أو يهش به على الأرواح المزدحمة على العتبة. ولكم هو جميل هذا التماهي الذي لا يتحقق بشكل مجاني، مادام ينهض من صلب علاقة غامضة، وآسرة في آن!
قد تكون للأمر صلة بسلطة الكتابة وبخيميائها، وأيضا بقدرتها على استحداث هذا التآلف، وهذا التناغم الصعب بين الذات الواقفة خارج النص، وبين ظل من ظلالها المنعكس على مراياه، وهو الشيء الذي لا يتحقق في الكثير من النصوص، حيث تتعذر عليك إمكانية الإحساس بحضور طيف الشاعر في أي مكان من الأمكنة المتوزعة على جغرافية النص. هذا الغياب التام، يساهم في تعميم حالة من الحياد لدى القراءة. حياد بارد، لا يمنح للنص فرصة تجليه الحي، وتمظهره، والحميمي أمام العيون الشغوفة برؤية ظل الفرس المتراقص على المرمر، والإنصات إلى أصداء صهيله المدوي في برية أرواحنا. طبعا إن الأمر هنا، لا يتعلق بتقييم سلبي، ناتج عن يأس القراءة من إحساسها بأنفاس الذات الشاعرة، وهي تلفح وجهك بلهيب مكابداتها، بقدر ما يتعلق بالإلحاح على وجوب تفاعل هذه الذات، بما تتقلب فيه من عوالم مسكونة بأرواح وإيقاعات ما لا حصر له من الكائنات، ذلك أن قوة الصوت الشعري، فرادته، وخصوصيته، هي الأصل في حضور سلطة الذات الشاعرة. أيضا هي مصدر الإحساس بوقوفها غير بعيد عنك. إنها تومئ لك، كي تغريك بالإقبال على ما ترددْت في التعاطف معه، مبارِكة فكرة انضمامك إلى طقس القراءة والإنصات، ومصاحبة النص حيث لا أحد معه.
إن الحدس بغياب الذات الشاعرة كطاقة خلاقة ومولِّدة في النص، وبتلك الوتيرة المكشوفة التي سبق لنا أن أشرنا إليها في أكثر من سياق، قد يلغي إمكانية الحديث عن الحضور الفعلي للكتابة. إذن والحالة هذه، ما الذي نعنيه بغياب ذات الكتابة؟ إن الجواب، وبكل بساطة، يعنى عدم توفرها على خصوصية خطاب، نهتدي به إلى هويتها، أو بتعبير آخر، فشلها في إقناعنا بمصداقية الخطاب الذي تتظاهر بامتلاكه، كما لو أن الأمر يتعلق بانتحال هوية، وبخطأ في تحديد الوجهة، وفي إلحاق الصورة بالخطاب، أو الخطاب بالصورة، حيث يكون الخلل مكشوفا، معلنا ومريعا في آن، ومفضيا إلى اختفاء الطرفين معا، الصورة والكتابة على حد سواء، تبعا لانعدام العلاقة، وانعدام القرينة. إن المشهد في مثل هذه الظرفية يكون مؤثثا، بما يمكن توصيفه، بالاكتظاظ الفارغ، أو باكتظاظ الفراغ . الفراغ الشره الذي لا ينِي يلتهم أعضاءَ النص وأوصالَه. وبكثير من الإيجاز، يمكن القول، إن المشهد هنا ينتمي إلى أحوال، لا تغري أحدا بالتعرف عليها، لا من جهة الإنصات، ولا من جهة الرؤية، بفعل انتمائها إلى هوامش تخلو من أي أثر للحياة، أو الموت، هوامش الوحشة، الرتابة والسأم الكبير، أي بعيدا عن فضاء الكتابة المنتشية بزرع أرواحٍ مغايرةٍ في ذوات الكينونة، حيث تستمتع القراءة بتقصي سيرة الذوات على مستوى القول، أكثر من رغبتها في ممارسة فعل التقصي على المستوى الواقعي، الذي غالبا ما يؤدي بتأثير من عنف صِداميته الصارخة، إلى مفاقمة حالة من الإشباع الفوري، التي ترغمك على تجنب الإنصات إلى ما يمكن أن تبوح به هذه الذات من حكايات. وهو ما تتفاداه الكتابة، الخبيرة بصيانة أسرارها وتأجيجها في الوقت المناسب، كي تظل محتفظة بإثارتها وبطراوتها وبقابليتها للقول المتجدد والمفاجئ، في حضرة رغبةٍ لا تكف عن مضاعفة فضولها، للإنصات إلى أصوات الذات المستعدة دائما للبوح بما لا ينتهي من حكي ومن شهوة. ذات ضفدعة خضراء، تسهر في بحيرة المساء، أو ذات ألِفٍ ملتهب، هارب من نار الجحيم، باتجاهك أنت، أو باتجاهي أنا.

________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *