نينون٠٠ عاشقة هِرمان هِسّه
تقديم وترجمة عن الأَلمانيَّة نورالدين الغطاس
«في ظلامي تَتَنَبَّئين
بِنجْمٍ مُختفٍ جداً.
بحبِّك تُنبِّهينني
إلى جوهر الحَياة الحُلو.»
فتاةٌ في ربيعِها الرّابع عشر، ذكيَّة وتحبُّ الأَدبَ، تلتهمُ كلَّ كتابٍ يقعُ بين يديها، قرأَتْ روايةَ الكاتبِ هِرمان هِسِّه «بيتَر كامنتسند» عام 1910 (تاريخ نشر الرواية عام 1904)، رواية أَقرب إِلى السيرةِ الذاتيةِ لكاتبِها، الفتى الذي لا يحبُّ المدرسةَ، لا أَصدقاء له، يقضي الكثيرَ من الوقتِ في تأَمُّلِ البشرِ والطبيعةِ من حولِه، علاقتُه مضطربةٌ مع والدِه العنيفِ في حقِّه، ذاتَ يومٍ، ابتعدَ الفتى عن المدينةِ، تسلَّق جبلًا شاهقاً، اكتشفَ أَنَّ العالمَ أَوسعُ ممّا كانَ يعتقد، فقرّر الرّحيلَ، لتبدأَ رحلتُه الطويلةُ في دهاليز الأَرواحِ البشريَّةِ، مع النساءِ، والكحولِ، والموت. روايةٌ حولَ البحثِ، هو الموضوع الرئيسي في أَعمال الأَديب الأَلماني الكبير هِرمان هِسِّه.
في الوقتِ الذي يعتقد أَيُّ كاتبٍ أَنَّ الورقةَ التي أَمامَه بيضاءُ، لكنّها تصرخُ وتقول له، برهن لي ذلك، تُحَقِّقُ الكتابةُ هدفَها فقط، عندما ينبعث من الكلمات دفءٌ، يستقبلُه القارئُ من البدايةِ إِلى النهاية. منَ الوَهلةِ الأُولى، ودون لقاءٍ مُسبق، شعرتْ الفتاةُ «نينون أوْسْلِنْدَر» بدفءِ كتابة هرمان هسه، سرعان ما تحوَّلَ هذا الدفءُ إِلى جاذبيةٍ كبيرةٍ تِجاهَ الكاتبِ، الذي يبحثُ عن معناه الشخصي، الذي يريد اكتشافَ كيانِه، والإحاطةَ بالجانب المظلمِ للإِنسانِ والهاويةِ البشريَّةِ، لكن قبلَ كلِّ شيءٍ، البحثَ عن ماهيَّةِ الحقيقةِ عبرَ الكتابةِ ذاتِها. لم تتردَّد الفتاةُ في مُكاتبةِ هِرمان هِسِّه لِتُعبرَ عن إِعجابِها بالنَّص وصاحبِه:
«نحن الفقراء غير الشعراء (…) نقف في ذهولٍ أَمامَ شخصيةٍ مثل «بيتر كامنتسند»، الذي يبحث عن السعادة، فقط السعادة! وهو لا يزال منغمساً في البحثِ عنها، يعتقد أنّه حصلَ على السلام. أَم أَنَّ السلامَ ربَّما هو السعادة؟ في الواقع، يجبُ على المرءِ أَن يكونَ لطيفًا للغايةِ مع نفسِه في سكونِه وهدوءِه، وفي الوقت نفسه فظيعًا في هذا السكون، خصوصاً إِذا غابَ الأَملُ فيه. هل الأَمل أَفضل صديقٍ للسعادة؟ وهل يجبُ على امرِئٍ في منتصفِ العُمرِ، يعملُ ويبدعُ، أَن يتخلَّصَ مِنَ الحَياة؟..»
للمفاجئة، أَجاب الكاتب وهو لا يدري أَنَّ كاتبةَ الرسالةِ فتاةٌ قاصر لم تتجاوز 14 عاماً! لكن سرعان ما افترقت الطرق بين الفتاة والكاتب الذي يكبرها بـ 18 عاماً. درست نينون الطب في مدينة ڤيينا في النمسا، أَحبّت الحياة هناك، حيث التقت بزوجها الأَول «فريد دولبين»، فنّان ورسام كاريكاتير شهير، بعد سنوات قليلة اكتشفا أَن لكل واحد منهما عالمه الخاص وليس هناك نقاط تقاطع واهتمامات مشتركة، أَمّا الكاتب هِرمان هِسِّه فقد واصل بحثَه عن السعادة ومعناه الشخصي عبر أَرق الكتابة «السعادة هي “كيف”، وليس “ماذا”»، وكذلك في علاقات زوجية غير سعيدة «النساء آبار عذبة ومُرّة»، ليصبحَ أَباً لثلاثةِ أَطفالٍ من زواجه الأَوَّل، ومتزوج للمرَّة الثانية، رغم قصر هذه العلاقة تقول عنه زوجته الثانية «رجل لا يفهم شيئًا عن الحبّ، لا روحيًا ولا جسديًا». أمّا نينون التي لم تنقطع عن مكاتبة كاتبها المفضل بين حين وآخر، طلبت منه اللقاءَ بإِلحاح، عام 1926 تحقق اللقاء لأَوَّل مرَّة في مدينة «تيسين» السويسرية، إذ اكتشفتْ نينون أَنَّ هِسِّه يمرُّ في أَزمةٍ خطيرة، استحضرتْ ما جاءَ على لسانِ بطل روايتِه «بيتَر كامنتسند»:
«وفجأة أدركتُ مرَّة أُخرى أَنَّ الموتَ هو أَخونا الذكي والطيّب، الذي يعرف الساعة المناسبة ويمكننا مرافقته بثقة. وبدأتُ أَفهم أَيضًا أَنَّ المعاناةَ وخيباتِ الأَملِ والكآبةِ ليستْ موجودة لتجعلَنا يائِسين، بلا قيمة وكرامة، بل لتنضجنا وتسمو بنا.»
حاولَ هِسّه معالجةَ ظروفِه العصيَّةِ بكتابة روايته الشهيرة «ذئب البوادي» التي نُشرت عام 1927، بعد لقائهما الأَول قرَّرت نينون الانفصال عن زوجها الذي كتبت له:
«أَنت تقول دائماً أَنّني أَتوق إِلى أَبي، كم أَنت مُحق. (…) أَنت رجل في عزّ شبابك، واثق من نفسك، فنان مبدع، تعتني بمستقبلك، أَعرف أَنَّني سببُ أَلمِك، وأَنَّك تَحِنُّ إِلى حياةٍ جديدةٍ، لكنْ هِسِّه وحيد للغاية، على الرغم من أَبنائه الثلاثة وزواجه الثاني ومائة صديق – رفاق فقط لساعاته الماتعة – لا أَحدَ يتحمَّلُ حالاتِ اضطرابِه، لا أَحدَ يستطيعُ فهمُه كما أَفهمُه أَنا. أَليس هذا مصيري وقدري، وبالأَحرى مُهِمَّتي؟»
بعد أَكثر من عشرين سنة بدأَت علاقة حبّ استثنائيَّة بين نينون والكاتب هِرمان هِسِّة، تكلَّلت بالزواج عام 1931، في اليوم الموالي لزفافهما كتبت نينون إلى حبيبها هِسِّه «أُحبُّك دائمًا – أَيُّها الطائر – الفتى الصغير – الساحر الغامض … أَنا نينون الصغيرة مرَّة أُخرى وأَحلم بالشاعر الرائع. عمري أَربعةَ عشرَ عامًا، مستلقية على الأُرجوحة بين شجرة الجوز والسَّقيفة وأُفكر فيك … أَروع شخص في العالم! لقد أَصبحت بالنسبة لي كل شيءٍ – عاشقًا وحاميًا والآن زوجًا ومع ذلك بقيت معجزة بالنسبة لي، أَسعد معجزة في حياتي.»
علاقتهما استمرت حتى وفاة الكاتب المتشائم، الذي لا يرى أَن للحياة معنى إِلى حدِّ التفكير في الانتحار «العالم لا يحكمه منقد، بل الشيطان، والحياة ليست هبة من الإِله، بل عذاباً وفوضى لا تطاق.»، في الوقت نفسه كانت كلُّ هذه الاضطرابات النفسيَّة الحافزَ الأَساسيَّ لإِبداعاتِه الأَدبيَّة. تفانت نينون في العناية بزوجها «إِنَّه في حاجة ماسّة إِليّ»، أَدركت منذ البداية خجلَه، بالأَحرى خوفَه من نفسِه ومن العالمِ الخارجي، حاجتَه إِلى العُزلة، آمنتْ أَنَّها مُنقذُه والشخصُ المسؤول عن راحته ومزاجه، ظله الذي لا يفارقه، امرأَة كرَّستْ حياتَها في خدمة الكاتب بكلِّ إِخلاص وتضحية: الزوجة، السكرتيرة، المساعدة، المدققة، الناقدة، القارئة الأُولى، خصوصاً بسبب العيون المريضة لهِسِّه. على الرغم من ذلك لا تنسى نفسها تماماً، تسافر بمفردها إِلى روما واليونان «… لا تغضب مني إِذا تركتك وحدك لبضعة أَسابيع. أَنت كبير جدًا وأَنا صغيرة، وفي خطرٍ دائم من الغرقِ في داخلِك. لهذا السبب أَودُّ الخلوة مع نفسي مرَّة أُخرى، أَن أَكونَ أَنا تمامًا، هكذا يُمكنني الاستمرار في العيش بجانبك والاحتفاظ بذاتي وآمل أَن أَتطور أَكثر.»، كما كانت لها اهتماماتها وطموحاتها الفكريَّة، «أُحاول كم مرّة، لكن بلا جدوى، محاولاتي غير صالحة لا لكتابة المقالات النقديَّة، لا لتاريخ الفنِّ ولا للأَدبِ، لكنَّها تكفي إِلى حد الشعور بالحزنِ بسبب عبءِ كلِّ هذه الواجبات المنزليَّة.». هنا يتَّضح أَنَّ وراءَ الواجهة الصلبة، هشاشة وانشقاق. هِسِّه كان يناديها «فتاتي الصغيرة»، لكن أَعمالَها كانت كبيرةً للغاية، خصوصاً عندما أَدار هِسِّه ظهرَه للعالم، تحمَّلتْ نوباتِ غضبِه، حمتْه من الصحافة المزعجة والزائرين الفضوليين. كما حمَّستْه على مساعدة اللاجئين من الكُتّاب الأَلمان بعد تولي النازيَّة الحكم في أَلمانيا.
نحن، القراء وعشاق كتابات هِرماس هِسِّه، ممتنون لهذه المرأَة، لولاها لما وصل إِلينا البحث الدائم لهِرمان هِسِّه عن المعنى والحقيقة، لمّا وصلتنا أَعماله الخالدة في الأَدب الأَلماني والعالمي.
لقد صدق ما شهد به أَحد أقرباءِ هِرمان هِسِّه عن دور زوجته الثالثة نينون:
«كانت نينون بالتأكيد الشخص الوحيد الذي كان قادراً على تخفيف يأس هِسِّه، وإِبعاد رغبته في الانتحار، كل هذا حققته بتحفيزه على الكتابة، انطلاقاً من “سدهارتا” و”ذئب البوادي”، عبر “رحلة إِلى الشرق”، وصولًا إِلى “لعبة الكريات الزجاجيَّة” و”قصائد” شعريَّة. المرأَة التي بقيت بجانبه بطريقة قويَّة خلال سنوات ضعفه، سنوات الحكمة وعظمة الشيخوخة.»
لم تتوقف مهمَّة نينون بعد موت هِرمان هِسِّه، بل واصلت الكتابة إِلى أَصدقاءِه والإِجابة عن رسائل محبيه وتزويد الصحافيين بما يحتاجون من معلومات، في أَرشيفات مكتبة مدينة زوريخ السويسريَّة توجد رسالة من نينون إِلى أَحد أَصدقاءِ هِسِّه «جرهارد كامن» بتاريخ الثامن من أكتوبر عام 1962، جاء فيها ما يلي:
«سيدي كامِن،
لكم الشكر على رسائلكم، أَبياتكم ومطبوعاتكم – وكذلك على تعازيكم. توفي هِرمان هِسِّة بسبب جلطة دموية في الدماغ، سرقه الموت في نومه، بعد يوم موّفق جداً، نزهة صباحيَّة، زيارة بعد الظهيرة، وفي المساءِ قرأْتُ ما طاب له من كتاب كما اعتدنا كل يوم. حصلت منه على هذه القصيدة التي أُرفقها بهذه الرسالة. الطبيب قال، هكذا تجنَّب هِرمان هِسِّه معاناةً عظيمة، لقد كان يعاني من سرطان في الدَّم، الأَمر الذي كان يجهله من حسن الحظ.»
وأرفقت مع الرسالة قصيدة هسّه الأخيرة «طقطقة غصن مكسور» التي أَنهاها يوم الثامن من أُغسطس عام 1962، قبل يومين من وفاته:
طقطقة غصن مكسور
غصن مُتَشَظٍّ، مكسور
مُتَدَلٍّ عامًا بعد عامٍ
يابس يطقطق أُغنيته في الريح
دون أَوراق، دون قشور
أَقرعُ، شاحبٌ
مُتعبٌ من حياةٍ طويلةٍ وموتٍ طويلٍ
غناءُه مدوىٍ وقاسٍ
طوالَ شتاءٍ آخر
نغمتُه مُتمرِّدة، تخافُ في السرِّ
صيفٌ آخر.
وختمت نينون رسالتها إلى صديق هرمان هسّه بالعبارة «تحية نابعة من أَعماق الحزن – نينون هسه».