التوظيف السياسي للدّين: بينَ صراع الفهم مِن المصدر الرئيسي للدين وبينَ الإجتهاد

(ثقافات)

التوظيف السياسي للدّين: بينَ صراع الفهم مِن المصدر الرئيسي للدين وبينَ الإجتهاد

* أزهر طوالبة

منذُ أن بزغَت شمس الأديان، في منطقتنا العربيّة، ونحنُ نعيش صراعًا كبيرًا حول التّوظيف السياسيّ للدّين. فما مِن دينٍ جاءنا إلّا وبُحثَ في كُلّ كيفيّاتِ المسائل التي ستجعلهُ سيفًا على رِقاب النّاس ؛ ليكونوا مِن الطائعينَ الخاضعينَ لهذه الأديان، أو لنقُل لمَن تمسَّك بزمامِ هذه الأديان، واجتهدَ في ليّ أعناقها، وتوظيفها ؛ خدمةً لهُ لتحقيق مصالحه.

البشَر يفهمونَ الأديان، ويعونَ مقاصدها جيِّدًا، فضلًا عن أنّهُم لَم يؤثّثو بذواتهم لصراعٍ دينيٍّ عابِر للأزمان، وإن بحثنا في تلابيبِ التاريخ، بحثًا جادًّا دقيقًا، متخلِّصًا ممّا أسمّيهِ ب”أعباء القُدسيّة التاريخيّة” ؛ لوجدنا أنّهُ ما كانَ ليكون هناك صراعًا مع الأديان لولا اقتناع المُشتغلينَ عليها بأنّها لهُم، وأنّهَا  ملكٌ لهُم، وأنّها لا تُفهَم إلّا بفهمهم فقط، وعلى الجميع أن يتَّبِعهُم في هذا الفِهم . إذ أنَّهُم عقدوا الدّين، وجعلوا فهمه لهُم فقط.

إنَّ ليّ عُنق الدّين، لم يكُن أمرًا مُقتصرًا على دينٍ مُعيَّن، كما أنّهُ لَم يكُن في إطارٍ دينيّ واحد، بل طالَ كُلّ الأديان، السماويّة والأرضيّة، على أنّهُ كانَ أكثر تمكُّنًا مِن السماويّة أكثر مِن الأرضيّة. وقد تمثَّلت الديانات السماويّة، التي دخلَت ساحات الإحتراب والصِّراع، بثلاث ديانات ؛ اليهوديّة، ومِن ثمّ المسيحيّة، فالإسلام .  وكُلّ هذه الدِّيانات كُبِّلت أعناقها، و وظِّفت أيّما توظيف في سبيلِ تحقيقٍ مزاعمٍ فرديّة ومطامعٍ قبليّة، وتأسيسٍ لما عُرِف بالكهونتيّة، التي كانَت تضع نفسها موضِع الرّب، وأنَّها، بمَن يُمثّلها، صاحبة الوكالة الربانيّة على الأرض، وأنّها تحكُم، بكلّ جورها وظُلمها باسم الإله، وحاشى للإله أن يكون كذلك.

ولقَد تعدَّدت الوسائل وكَثُرت الطُرق التي تُتّبع لغاياتِ ليّ أعناق الأديان، إلّا أنّهُ بنظري، هناكَ طريقةٌ تفوَّقت بتمكُّنها مِن عامّة المُتديّنين، بأن جعلتهُم لا يحرِّكونَ ساكنًا أمام أيّ قراءةٍ لأيّ نَصٍّ دينيِّ، تُقدَّم مِن قبل مَن يُنظَر لهُم على أنَّهم “أهلُ العِلم” والأكثر درايةً في الشؤون الدينيّة، وهُم في حقيقةِ الأمر أبعَد ما يكونوا عَن ذلك . فهُم ليسوا إلّا أُناس عُزِّزَ حُضورهم المُجتمعيّ، وامتَلكوا عواطفَ وقلوب المُتديّنينَ، بعدَ أن أقنعوهُم بأنَّ الدّين مُعقَّد، وأنَّهُ لا يُفهَم إلّا مِن قبل دارسيهِ، وليسَ بوسعِ الفرد، أيًّا كانَ هذا الفَرد أن يفهمَ هذا الدّين فهمًا قويمًا وسليمًا إلّا بالعودة لنا، نحنُ أولي العِلم وأهلُ الدّراية بكلّ كبيرةٍ دينيٍة أو صغيرة.

ولَو حُكِّمت عُقول هؤلاء، الذينَ يدّعونَ العِلم بالدّين، وأنّهُم مِن الراسخينَ بالعِلم الديِنيّ، لوجدنا أنّهُم ليسوا أكثر مِن فئةٍ باحِثة عن تزعُمٍ فرديّ، طامح  بمسكِ مقاليد الفِهم الدّينيّ، وإيجاد لذاتِ تائهة في سراديب النّفس المُضيَّعة. كما أنّهُم لو كانوا جادينَ بما وصلوا إليه مِن أنّ الدينَ معقَّد، لما كانَ عليهم أن يفهموه، وذلكَ لسببين: الأوّل، أنّهُم كغيرهم مِن النّاس، تمَّت مُخاطبتهم مِن الله، وما طُلبَ مِنهُم طُلبَ من البشَر جميعًا، فالله، سبحانه وتعالى، يُريد مِن كُلّ النّاس أن يكونوا مؤمنين بهِ..الثّاني، أنَّ اجتهادهم، إن اتّفقنا على أنّهُ اجتهاد فكريّ ودينيّ، لم يكن خالصًا لوجهِ الله تعالى، وإنّما كانَ ليُنزلوا أنفُسهم منزِلة “وكلاء” الله على الأرض، وهذا يتّضح لنا مِن خلال مرامي الاجتهاد التي سعوا إليها . فهُم لم يرموا إلى تيسير  وتسهيل وتبسيط الدّين للنّاس، هذا إن اعتبرنا أنّ الدين ليس بيسير ولا ببسيط، وحاشى لله أن يأتي بدينٍ ليُعجِّز البشَر، ويُصعِّب عليهم حياتهم. فالدّين مُيسّر ومُبسّط وأسهَل مِن كلّ التعقيدات التي أوقعوهُ فيها . فالله -سُبحانهُ وتعالى- يقول عن القرآن الكريم وهو الكِتاب المُقدَّس في الدين الإسلاميّ ” ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل مِن مُدّكر”.

لذا، أقولُ مؤكِّدًا على ما جئتُ بهِ آنفًا، بأنًّ إنَّ السيطرة على فهم الدّين، ظاهرةٌ موجودة في كُلّ الأديان، وبالتالي، هي سيطرة قديمة وعميقة، وهذه السيطَرة تتّخِذ أشكالًا عِدة  مِنها سيطرَة المُجتهدينَ على النّصوص الدّينيّة من خلال الاستناد على النّقل دونَ العَقل، وهُم يكونوا بذلكَ يُحاربونَ مَن يعمِلونَ عقولهم في مثل هذه الحُقول ؛ ” لأن مجرد الإذعان لما لا يعقل برهان على فساد بعض مراكز العقل، ولهذا أصبح العالم المتمدّن يعدّ الانتساب إلى هذه العقيدة من العار لأنه شعار الحمق.” كما يقول الكواكبيّ.

 وهذا الشّكل هو نتيجة حتمية للتربية السلفية التي نشأنا عليها . إذ أنَّنا كعرَب، أصحاب اللّغة العربيّة، التي نزل بها القرآن، ما زلنا نحتَكِر فهم الدّين، ونرفُض أن يُشاركنا أحَد في هذا الفِهم، وعلى مُستوى أضيَق، ما زالَ فينا مَن يرى أنّ الاجتهاد في قراءة النصوص الدينيّة ومِن ثمّ فهمها، هو أمرٌ لا حقّ فيه لأحد سواه، وما وقعنا في مصيبةٍ أشدّ مِن هذه المُصيبة، وليسَ هناكَ ما هو أدلّ على ذلك مِن كِتاب لأحدِ الفُقهاء المسلمين يحمل عنوان ” أعلام الموقعين عن رب العالمين”.

الخُلاصة: لا يُمكِن لأيّ أحد كان أن يسلُبَ حقًّا اجتهاديًّا في أيّ مسألةٍ دينيّة، أو  أن يُضيِّق الخِناق على هذه الاجتهادات، تحتَ ذريعة ما يُسمّى ب”الخُروج عن المألوف”. كما أنّهُ ليسَ باستطاعة أيّ فردٍ كان، أن يقوّضَ جهدًا اجتهاديًّا في الحديث في/وعَن أيّ واقعةٍ دينيّة تاريخيّة، مُستندًا من أجلِ ذلكَ على قراءةٍ بحثيّةٍ مُعمَّقة..لكن، بالمُقابل، ليسَ مِن حقّ الباحِث أو الفقيه أو المُجتهِد أو المُتحدِّث أن يجعلَ مِن حديثهِ أو بحثه أو فقهه أو اجتهاده دينًا مُطلَقًا، لا مجالَ لدحضهِ أو انتِقاده أو تطويره أو بجعلهِ اجتهادًا متغيِّرًا مع السياقات الزمانيّة والمكانيّة التي ستواجَد فيها، وبالتّالي، سيكون مصيرَ كلّ مَن يقوم بذلك، أي كلّ مَن لا يأخُذ بهِ، التّكفير، والزندَقة.

والوعي بالدين الحقيقيّ هو المخرَج من الدينِ الموازي. ولكن، هذا الوعي، لن يسمَح به لا مَن يمتَلكِ سلطانًا بُنيَ على دينٍ مواز، ولا مَن عقلهُ لفهمِ الدّين في حُقبةٍ زمنيّةٍ مُعيّنة، فضلًا عن أنّهُ يرى بنفسه أنّهُ “وكيل” الرّب على الأرض.

وإنّ الدّين القويم والدّين السّليم الذي يُعتبَر خالٍ من ايّ عيوب، هو ذاك ” الدين الذي يقوى على فهمه من مِن مصدَره كل إنسان غير مقيد الفكر بتفصّح زيد أو تحكم عمرو.”

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *