تداعيات حديث هاتفي مع سعيد مضيّة

(ثقافات)

 

تداعيات حديث هاتفي مع سعيد مضيّة

إفلين الأطرش  

بتوسّع هجمة استيطانية شرسة لإنهاء قضية فلسطينية، بتحويل كافة أراضيها إلى منطلق لهم لغزوٍ ممنهج لعالمنا العربي كما في بلدان العالم أجمع، وفق مخطط صهيوني أكثر شراسة،    وليست السيطرة فقط على فلسطين كلها، بدأت ملامحه تظهر بجلاء وسخاء.

أهاتف ذات مساء الأخ الصديق الكاتب والباحث، “سعيد مضية (أبو فؤاد)” المقيم في مدينة حلحول، بعد عودته من عمان ضمن قائمة ” المبعدين”، ما يقارب العشرين عاما من الآن، قضى مثيلها في الأردن بإبعاد قسري من سلطات الاحتلال. أهاتفه  بعد لومٍ شديدٍ وجّهته لنفسي بعدم الاطمئنان عليه بعد آخر مهاتفة له إثر تعافيه من إصابة بـ”كورونا”، لاهية إلى حدّ ما عن بقائه بمفرده معظم وقته، بعد رحيل رفيقة عمره ونضاله، بالرغم من تواجد الأبناء وعائلاتهم  والأقارب إلى جانبه، ومهاتفة الأبناء المقيمين هنا بعيدا عنه يومياً، وزياراته المتقطّعة إلى عمان بحسب ما يقتضي وضعه الصحيّ من متابعات ضرورية. كانت ابنته “أوليا” وعائلتها المقيمة هناك في زيارته؛ تلك الابنة التي ادخرت لي مع أبيها محفظة نقود طرّزتها أمها” الراحلة” بالغرزة الفلاحيّة المميّزة والمعروفة بانتمائها إلى أهل بلادنا. وليس أثمن من هديّة ترى فيها صاحبتها منكبّة على رسم أشكال متقنة لتكمل لوحة رائعة، لتُبقي على محبّتها كما هي بتجاوز حقيقة الرحيل.

   قسوت على نفسي في ملامتي الذاتية تلك، فبالرغم من كلّ ما يزال يحافظ عليه ” أبو فؤاد ” من ميّزات تحفظ له نفسه بكرامتها وعزّتها، بعنفوانها واتقاد فكرها، ها أنا أقابل وفاءه لـزوجي الراحل “عدي مدانات”، ولأبنائنا ولي، بنوع من الجحود، في اعتمادي على ما تتابعه ابنتي من أخباره وتعليقاته على ما تنشره لي على صفحتها، أو من خلال مهاتفتي لابنه ” نضال” الصديق الوفي لنا والمرافق الدائم له في زياراتنا. فأيّ تواصل إنساني هذا عبر وسيط أو عبر أجهزة تقرأ النصّ المكتوب عليها، دون الحسّ بنبرة الصوت والضحكة، برعشة الفؤاد الذي يفرض الكلمات، بتنبّه العقل كردّة فعل لما يُسمعك إياه محدّثك، وبخاصّة إذا ما شاب ذاك الحديث نبرة حزن لما يُرى أو يُختبر؟

 و”أبو فؤاد” لم يعرف الشكوى في حياته، قد يذكر وجعاً خاصاً كنموذج تستطيع تعميمه على المجمل العام. لذلك يعرض معاناته مع ” المستوطنين” الغرباء عن الأرض، والتي لم تكن الأولى أو الأخيرة، كمثال على ما يفرضونه من بشاعات تدعمها قوى احتلال أكثر بشاعة اقترفتها بداية انشائها، هم نتاجها. وبيروقراطية محليّة متلحّفةً بالضعف والعجز، لن تكون مجدية لمن يحفظون تاريخهم ويسعون للحفاظ على ما تبقّى من وطن يتمّ ابتلاعه، تحت بصر العالم، وبموافقة متنفذيه وأعوانهم. آلمني حديثه كثيراً، وأوجع قلبي أكثر، فانكمشت على ذاتي.

 لكنه أعاد إلى ذهني ليلتها، صوراً لا تزال تسكن القلب والضمير وتستقرّ في الوجدان، فيتلقفّها العقل ليمعن في تحليلها. طريق ممتدّ يصل القدس بالخليل مروراً ببيت لحم، على يمينه بلدة “بيت جالا” ومخيميّ “عايدة والعزّة”، وفي مستقرّ وادٍ فاصل بين المخيمين والبلدة الجبليّة، تقع مدرسة بنات بيت لحم الثانوية، حلّ بناؤها الحديث هذا بديلا لبناء قديم  وسط المدينة، فأعادني معلّمة في صفوفها لعامين قبل زواجي وانتقالي إلى عمان. يمرّ هذا الطريق بـ “مخيم الدهيشة” على يساره، تلي قرية “الخضر” على يمينه، وقرية “ارطاس” على امتداده الأيسر قبل الوصول إلى بلدتيّ “بيت أمّر وحلحول” على تخوم مدينة “الخليل”. كروم وبساتين بأشجارها المثمرة المتنوّعة، وعبق أزهارها ربيعا، وما يُزرع شتاء وصيفا من نباتات يحتاجها  كلّ أهل المنطقة، أو نباتات بريّة ربيعية يفيدون منها بجمعها. وكلّ من هذه القرى والبلدات تشتهر بنوع يختصّ بها، فنعرفه، نميزّه ونذكره باسمها. بساتين مزيّنة بحمولة أشجارها، بجمال ثمارها وتميّز مذاقها وقت نضجها.  ما يجمعها هو ذاك البساط الأخضر الواسع بتمدّده، لتعتقد أن عينيك قد تلوّنتا بلونه، فلا تشيح عنه، أو تتلهّى لتنشغل بغيره.

أشتمّ روائحها، وأتلذّذ بطعم نتاجها كلّ على حدة  فتزوّدني بمؤونة أكثر من كافية.

 أعود من حيث ابتدأت متجاوزة مدرسة بنين بيت لحم الثانوية (دار جاسر) على الشارع الرئيس، لآخذ الطريق الشرقي الواصل بين القدس وبيت لحم هذه المرّة. أختصر المسافة بالمرور تحت سقف ” قوس الزرّارة” المعتم إلى حدّ ما  كمدخل قديم للمدينة، لأخرج منه إلى فضاء ساحة قليلة الاتساع، على يمينها درج السوق بدرجاته الواسعة ومحالّه التجاريّة المنوعة، والصاعدة إلى شارع ضيق يُفضي إلى “المدبسة”، ملتقى الطرق المتجهة غرباً وشمالاّ وجنوبا. أنعطف  يساراّ لمواجهة شرق المدينة حيث كنيسة المهد بساحتها الشهيرة المقابلة لمسجد عمر بن الخطّاب على يميني. ألتزم يمين الساحة لأنعطف يساراً إلى حارة القنواتي (التجمّع الأكبر لتلك العائلة) وسط محلات بيع التذكارات والتحف الشرقية، لأجتاز رواقاّ مسقوفا بين المنازل يشكّل دهليزاً معتماً.

أهرع إلى ملعب مدرسة بنات بيت لحم الثانوية ببنائها القديم القريب في الجهة الجنوبية من الكنيسة. مدرسة احتضنتني ستّ سنوات كطالبة إعدادية وثانوية، وثلاث سنوات كمعلمة بعد  تخرجي قبيل استبدالها بذاك المبنى البعيد. لا ترفضني بواباتها الحديدية الكبيرة، ولا تستوقفني أبنية صغيرة ملحقة على يمين مدخلها أو ساحتها الأمامية ، ولا يستمهلني بناؤها في التفافي خلفه، فكلّها تعرف ما يعنيني تلك اللحظة، وصول ملعبها الخلفي. ملعب ترابي متّسع عليّ اجتيازه لأقف على سياجه الشرقي  الكاشف والمعلن لوجهتي. أطلّ على “بيت ساحور” لأرقب تموّجات حقول القمح الخصبة في سهول  بلدتي المحيطة بكنيسة الرعوات (حقل الرعاة)، مع إبقاء مربّعات أو مستطيلات حمراء قانية بينها لزراعتها صيفاً بالقثاء، الذي يُنسب إليها. أعيش اللوحة الفاتنة، وأتوقّف هناك لمطلع الصباح.

أترى يا أخاّ وصديقاً ورفيقاً عتّقته الأيام، والسنوات الطوال والمواقف، ما أعاده لي ذاك الحديث؟ وإذا ما عدتُ إلى واقعيّة التفكير أجد أنني عشت تخيّلاً. فكلّ ما استعدته تغيّر وغُيّر بمسمياّت مختلفة ولأسباب متعددّة. أم إنني أتمنّى عودة الأرض كما هي دون دخلاء، يسكبون مرارة العيش على هذا الطريق، كما  كلّ الطرق غيره؟  أم هو مجرّد حلم لا غير؟

 أعتقد أنه ينبغي لنا أن نحلُم، ففيه الأمل والتفاؤل والسعي لإخراجه من مكنونات النفس  الدفينة المتجذّرة، ليرى النور بإرسائه على أرض الواقع….

شاهد أيضاً

قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

(ثقافات) قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة سامر حيدر المجالي على غير ما يُظَنُّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *