*لىوند جروسمان ترجمة: د. أنور ابراهىم
في شبابه الباكر أغفل دستوڤسكي تماماً حياته العاطفية غارقاً في مخطوطات كتبه. لقد صرفه السعي وراء الظهور الأدبي بقوة أكبر عن الانفعالات الرومانسية. وفي سيبيريا انفتح عصر حكايات دستوڤسكي الغرامية. ومنذ ذلك الحين ظهرت في طريق حياته شخصيات نسائية رائعة انعكست سماتهن بقوة في بطلات رواياته، وهذا هو السبب وراء ولعه الشخصي الهائل بدراسة العديد من النماذج النسائية التي ظهرت في فترة نضجه الإبداعي.
هذا الكتاب يقدم العالم الخاص من المشاعر والهواجس والعلاقات العاطفية الحقيقية في حياة واحد من أعظم كُتّاب الإنسانية علي مر العصور.هناك أمر علي جانب كبير من الأهمية، وهو أن دستويڤسكي أحب وللمرة الأولي امرأة مريضة، منهكة القوي، انهالت عليها الحياة بالضربة تلو الأخري. امرأة فقيرة معدمة، كُتب عليها الجنون والموت.
وللأسف، فإن كافة المراحل المضنية التي مر بها هذا الحب الأول لدستوڤسكي لا يمكن تقديمها بصورة كاملة. يبدو أن الخطابات المسهبة التي كتبها دستويڤسكي من سيميبالاتينسك إلي كوزنيتسك قد ضاعت إلي الأبد. يذكر فرانجيل أن هذه الخطابات كانت تملأ كراسات كاملة.
إن الظروف القاسية التي عاشتها ماريا ديمترييڤنا وما عانته من أحداث درامية وفَقْد، لم تكن لتسمح لها أن تتعامل بقدر كاف من الاهتمام بهذه الخطابات. المذكرات، التي ضاعت بداهة في ركن سحيق في سيبيريا.
إن الجانب الهام والعميق من القصة المأساوية لحب دستوڤسكي الأول، التي كتبها في اعترافاته المطولة لم تصل إلينا. وسوف يكون علينا أن نقيم فصولها الضائعة استناداً إلي المعلومات غير المباشرة.
علي أية حال، فإن صورة ماريا ديمترييڤنا والعديد من مشاهد هذه العلاقة العاطفية قد انعكست بشكل واضح وحاد في إبداع دستوڤسكي. نجدها في رواية «المذلون والمهانون» في الحب المتفاني لبطل الرواية المستعد للتضحية بمشاعره من أجل سعادة شخصين آخرين. إن هذه المشاهد تنقل إلينا بوضوح جانباً من غرام دستوڤسكي في سيبيريا.
وفي «الجريمة والعقاب» يقدم نموذج كاترينا إيڤانوڤنا صورة طبق الأصل من ماريا ديمترييڤنا لينبعث معها مصيرها كله. إن مشهد وفاة زوجة مارميلادوف قد كُتب تحت انطباع الحزن علي الزوجة الأولي لدستوڤسكي، بل إننا نجد أيضاً بعض العبارات التي تذكِّرنا بوصف هذا الحادث الحزين كما وردت في خطابات دستوڤسكي.
إن المظهر الخارجي لماريا ديمترييڤنا في لحظة تعرُّفها علي دستوڤسكي، أي قبل عشر سنوات من موتها، يتميز بقدر كبير من الجاذبية. آنذاك كانت تبلغ من العمر ستاً أو سبعاً وعشرين عاماً، إذا كان سنها قد أشير إليه بشكل صحيح في خطاب دستويڤسكي إلي شقيقته في عام 1857 : »أبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، بينما تبلغ هي تسعة وعشرين .
ويصفها فرانجيل بأنها : »حسناء ذهبية الشعر، متوسطة القامة، نحيفة للغاية، شديدة الحساسية، مندفعة. آنذاك كانت هذه الحمرة المشئومة تداعب وجهها الشاحب، ليذهب بها مرض السل بعد بضع سنوات إلي القبر. كانت امرأة واسعة الاطلاع، تلقت تعليماً جيداً وكانت محبة للمعرفة، طيبة محبة للحياة بشكل استثنائي، كما كانت سريعة التأثر والانفعال«.
وقد التقاها الناقد . ستراخوف علي نحو عابر في بطرسبورج وتركت لديه انطباعاً طيباً بشحوبها ورقَّة ملامحها، علي الرغم من أنه كان من الواضح إصابتها بمرض مميت.
هذه الطبيعة الحساسة المندفعة هي ذاتها التي أسرت دستويڤسكي علي الفور.
ها هو دستوڤسكي يصف بنفسه قصة علاقتهما في خطابه إلي شقيقته في عام 1857 : «بعد أن عدت في عام 1854 من أومسك إلي سيميبالاتينسك تعرفت علي موظف يقيم هنا هو وزوجته. الرجل من روسيا، يتمتع بالذكاء والطيبة، مثقف، وقد أحببته كأخ… كان عاطلاً، ولكنه كان ينتظر أن يلحقوه مرة أخري بالخدمة. كان لديه زوجة وابن. أما زوجته فهي ماريا ديمترييڤنا إيسايڤا. ما تزال في ريعان الصبا وقد استقبلاني كأني واحدة من أقاربهم، وفي النهاية وبعد عناء طويل حصل علي عمل في مدينة كوزنيتسك من أعمال محافظة تومسكايا، وهي تبعد عن سيميبالاتينسك سبعمائة فرسخ، ودَّعتهم وكان الفراق أكثر وطأة علي نفسي من فقدان الحياة نفسها.«
حاشية : حدث ذلك في مايو عام 1855. ولست أبالغ هنا. بعد وصوله إلي كوزنتسك، مرض إيسايف فجأة ثم وافته المنية تاركاً زوجة وابناً دون قرش واحد، وحيدة في بلدة غريبة، دون مساعدة وفي حالة مزرية. ما إن عَرفتُ بذلك ( وكنا نتراسل)، حتي اهتممت بالأمر وأرسلت لها نقوداً في أقرب فرصة. كم كنت سعيداً عندما علمت بتسلمها النقود. وأخيراً استطاعت أن تكتب لأهلها ولأبيها. كان أبوها يعيش في أستراخان ويحتل وظيفة هامة ( مدير الحجر الصحي )، كان صاحب رتبة رفيعة ويتقاضي راتباً كبيراً، لكن الرجل كانت لديه ثلاث فتيات وأبناء يخدمون في الحرس. كانت كنيته كونستان. وهو حفيد لمهاجر فرنسي شارك في الثورة الأولي، نبيل، جاء إلي روسيا واستقر فيها. أما أبناؤه فهم روس من جهة الأم . ماريا ديمترييڤنا هي الابنة الكبري وكان والدها يفضلها علي الجميع.
صديقتي العزيزة، أكتب إليك تفصيلاً لكنني لم أكتب إليك الأهم. إنني أهيم بهذه المرأة منذ زمن بعيد إلي درجة الجنون، أحبها أكثر من حياتي. لو أنك عرفت هذا الملاك، لما أخذتك الدهشة. إنها تمتلك خصالاً رائعة. ذكية، رقيقة، مثقفة، مثال نادر من النساء المثقفات مع شيء من الوداعة، تدرك ما عليها من واجبات، متدينة. لقد رأيتها في لحظات الشقاء عندما كان زوجها عاطلاً عن العمل. لا أريد أن أصف لك ما كانا عليه من ضنك. ليتك رأيت علي أي نحو من نكران الذات وقوة التحمل واجهت به هذه المرأة هذه التعاسة التي يمكن أن نصفها تماماً بالبؤس، إن مصيرها الآن بشع: إنها تعيش في كوزنتسك، حيث توفي زوجها، يعلم الله من يحيط بها وهي الأرملة اليتيمة بكل معني الكلمة. بالطبع كان حبي لها سراً لم أصرح به.
لقد أحبت الكسندر إيڤانوڤيتش، زوجها، مثل أخ. ولكنها، بعقلها وقلبها، لم تستطع أن تفهم حبي لها، لم تخمن ذلك. والآن هي امرأة حرة (بعد وفاة زوجها منذ عام ونصف العام) وعندما رُقِّيتُ إلي درجة ضابط، كان أول ما فعلت أن عرضت عليها الزواج. إنها تعرفني، تحبني وتحترمني. ومنذ أن افترقنا ظللنا نتبادل الخطابات. وافقت وقالت «نعم»، وإذا لم تقع أحداث طارئة… فإننا سنتزوج قبل 15 فبراير، أي قبيل عيد الرماد. صديقتي العزيزة، أختي الحبيبة! لا تغضبي، لا تغتمي ولا تنسيني. ليس هناك شيء أفضل لأفعله…لكن هذا المديح الحماسي الذي كاله دستوڤسكي لماريا ديمتريڤينا إيسايڤا في خطابه لأقاربه، كان عليه أن يتراجع عنه في مراسلاته مع فرانجيل. لقد اتخذت العلاقات المتبادلة بين فيودور ميخايلوڤيتش وزوجة المستقبل علي الفور منحيً خاطئاً وأصبح كل منهما مصدر عذاب للآخر. يقول فرانجيل: لقد أبدت مشاعر العطف الدافيء نحو دستويڤسكي، كانت تعامله بلطف، لا أظن أنها كانت تعرف قدره بعمق، الأمر ببساطة أنها كانت تعطف علي شخص تعيس ظلمه القدر، ربما تكون قد تعلقت به، لكنها لم تقع في حبه بأي شكل من الأشكال. كانت تعلم أنه مصاب بداء الصرع، وأنه في أمسّ الحاجة إلي المال، وأنه، كما قالت ا رجل بلا مستقبل ، أما فيودور ميخايلوڤيتش فقد رأي في شعور العطف والأسي حباً متبادلاً وراح يحبها بكل ما في الشباب من حمية.
غير أن دستوڤسكي سرعان ما شعر باليأس لأن ماريا ديمترييڤنا لا تبادله حباً بحب، فعندما نقل إيسايف إلي كوزنيتسك علي بُعد 500 فرسخ من سيميبالاتينسك وقع دستويڤسكي فريسة لليأس العميق. يشكو دستويڤسكي حاله لفرانجيل قائلاً: ا لقد وافقت علي السفر. لم تعترض، وهذا أمر شائن!
عندما حانت لحظة الفراق راح يبكي بكاء مُرًّا مثل طفل، وعندما اختفي عن ناظريه ركْبُ المسافرين، ظل واقفاً كالمقيد بالأغلال متابعاً إياهم ودموعه تنهمر علي خده.
لقد ظهرت هناك خطابات أكثر إيلاماً من العلاقات الشخصية. لم تتوقف ماريا ديمترييڤنا عن تعذيب دستوڤسكي وهي بعيدة عنه وهي تجأر بالشكوي من الفقر والمرض ومن الحالة المحزنة التي وصل إليها زوجها ومن المستقبل البائس. لكن أكثر ما أثار الاضطراب والعذاب عند دستويڤسكي هو شكوي مراسلته من الوحدة التي لا تحتمل وحاجتها إلي شخص ما يفرج همها.
آنذاك بدأ التلميح أكثر حماساً حول اسم صديق جديد في كوزنتيسك – مدرس شاب لطيف»، يمتلك خصالاً نادرة و »روحا سامية«. هنا سقط دستويڤسكي في كآبة نهائية، راح يمشي كالظل بل وأهمل رواية »مذكرات من البيت الميت، التي كان منشغلاً بالعمل علي إتمامها في تلك الفترة بكل ولع. وعندما عاتبه فرانجيل علي ذلك رد عليه قائلاً: كتبت لي تقول أنني أتكاسل عن العمل، أبداً ياصديقي، لكن علاقتي بماريا ديمترييڤنا قد شغلتني كلية في العامين الأخيرين. كنت أعيش، وإن كنت أعاني، لكنني، علي أقل تقدير، كنت أعيش!.
في شهر أغسطس في عام 1855 تلقي دستوڤسكي خطاباً من ماريا ديمترييڤنا يفيد أن زوجها قد توفي. وأخبرته أن إيسايف قد مات في ظروف قاسية لا تحتمل، وأن ابنها قد جُن من البكاء واليأس وأنها تتعذب من الأرق ومن نوبات حادة من المرض، ثم حكت له أنها دفنت زوجها بنقود اقترضتها من أغراب، وأنه لم يتبق لديها شيء سوي الديون وأن شخصاً ما أرسل إليها ثلاث روبلات. »لقد دفعتني الحاجة لأن أقبل… وقبلت… الإحسان…
انكب دستويڤسكي بكل كيانه في تدبير الأمور المتعلقة بمصير ماريا ديمترييڤنا. حصل علي مال من فرانجيل. سعي ليلحق پاشا إيسايف بالجيش، بذل ما في وسعه بتضحية بطولية وكان علي استعداد أن يجثو علي ركبتيه »ليتسول من أجل منافسه المدرسي من كوزنيتسك، الذي تحمل له ماريا ديمترييڤنا مودة عميقة (يقول فرانجيل عن هذا المدرس أنه »شخصية تافهة«.
لكن كل ذلك لم يفلح، كما يبدو، في أن يعيد عاطفة ماريا ديمترييڤنا الودية نحو دستويڤسكي. بعد عام تقريباً من وفاة إيسايڤ، في صيف 1856، يرسل دستويڤسكي خطابات إلي فرانجيل تفيض باليأس: »أشعر وكأن بي مسًّا من الجنون… لقد مضي الأمر!« «أحوالي سيئة للغاية، أنا في يأس تام، يصعب أن تتصور ما عانيته من شقاء«. وفي خطابه المؤرخ الحادي والعشرين من يوليو يقول : أخشي أن تتزوج، وعندها قد ألقي بنفسي في الماء أو أغرق في الشراب«.
بحلول شتاء عام 1857 فقط، أي بعد مرور عام ونصف علي وفاة إيسايف، إذا بالأمور تسير أخيراً لصالح دستويڤسكي. وإلي هذه الفترة يعود خطابه الذي أرسله إلي فرانجيل حول زواجه المقبل. وأخيراً وبعد طول انتظار للسعادة، يغلق دستويڤسكي عينيه عن الماضي كله، يكتب دستويڤسكي في خطابه مطمئناً نفسه من جرَّاء الذكريات التي عذبته من منافسه غير بعيد : »إنها تحبني، أعرف ذلك يقيناً. وفي سياق حديثه إلي فرانجيل عن هذا الجزء المظلم من قصته الغرامية يقول: «سوف تتخلي عن حبها الجديد«.
لكن دستويڤسكي لم يجد بطبيعة الحال سعادته المرجوة في هذا الزواج. ها هو فرانجيل يحدد الملمح الرئيسي في العلاقات التالية: كانت ماريا ديمترييڤنا تعاني دوماً من المرض، تجتاحها نوبات من الجموح والغيرة».
كانت دراما الغيرة قد بدأت قبل ذلك في سيميبالاتينسك علي أثرها تفككت الصداقة الأسرية تماماً.
كانت ماريا ديمترييڤنا تشعر بالشك العدواني تجاه عائلة زوجها باعتبارها قريبة مريضة وفقيرة، وكان وسواس الكراهية يدفعها للتعامل مع العائلة بكل ما تملك من هياج وحقد . ظلت طوال حياتها تعتقد أن ميخائيل ميخايلوڤيتش عدو غامض، ولم تظهر رغبتها في التصالح معه إلا وهي علي حافة القبر.
في غضون ذلك كان المرض يزداد حدة، وسرعان ما انعكس انتقالها إلي بطرسبورج للإقامة الدائمة بها علي تطور مرض السل الرئوي، وفي شتاء عام 1863- 1864 اضطر الزوجان دستويڤسكي إلي اتخاذ موسكو مقراً لإقامتهما بسبب الضعف الشديد الذي أصاب ماريا ديمترييڤنا وبدءاً من فصل الربيع ازدادت حدة المرض، وفي منتصف شهر أبريل أرسل دستويڤسكي خطاباً إلي أخيه يقول فيه بالأمس داهمت ماريا ديمترييڤنا نوبة حاسمة : تفجر الدم من حلقها وأغرق صدرها وراح يخنقها…
وفي اليوم التالي، السادس عشر من أبريل من عام 1864، جاءت خاتمة قصة حب دستويڤسكي المؤلمة : ماتت ماريا ديمترييڤنا. فيما بعد يكتب دستويڤسكي قائلاً : »أحبتني بلا حدود، وأنا أحببتها أيضاً بلا حدود، ولكنني لم أكن سعيداً معها… وعلي الرغم من أننا كنا تعساء معًا بشكل مطلق، بسبب شكوكها وطبعها المرضي العجيب، فإننا لم نستطع أن نتوقف عن حب كل منا للآخر؛ بل كلما ازداد بؤسنا، ازداد تعلقنا كلٌّ بالآخر«.
في نفس يوم وفاة زوجته. يخط دستويڤسكي وهو أمام جثتها الهامدة بضع تأملات في دفتر مذكراته حول فكرة الحب والزواج، حول رسالة كل شخص علي الأرض : 16 أبريل. ماشا ترقد علي الطاولة، تري هل سألتقي بماشا مرة أخري؟
أن تحب إنساناً قدر حبك لنفسك، وفقًا لوصايا المسيح أمر مستحيل. قانون الفرد يشد الإنسان إلي الأرض والأنا تعوقه، ومع ذلك فالمسيح وحده استطاع ذلك، لكن المسيح كان خالداً. إنه المثال الذي نسعي إليه وينبغي، بناء علي قانون الطبيعة، أن يسعي إليه الإنسان… إن السعادة العظمي هي في أن يهب الإنسان نفسه كاملة لجميع الناس ولكل شخص وبكل تفانٍ.
علي هذا النحو فإن قانون الأنا يندمج مع قانون الإنسانية وفي اندماجها، أنا والجميع (وهما يبدوان طرفيْ نقيض)، وبشكل متبادل يضحي كل واحد من أجل الآخر، وفي الوقت نفسه يبلغان أيضاً الهدف الأسمي للتطور الفردي لكل منهما.
هذا ما يمكن أن نسميه بجنة المسيح. إن التاريخ كله، سواء تاريخ البشرية، أو جزئيًّا تاريخ كل فرد علي حدة، ليس سوي التطور، الصراع، السعي وتحقيق الهدف…..
وهكذا فإن الإنسان يسعي علي الأرض نحو المثال المناقض لطبيعته. عندما لا يحقق الإنسان قانون السعي نحو المثال، أي عندما لا يضحي بذاته من أجل الناس من أجل كائن آخر ( أنَّا وماشا )، فإنه يشعر بالمعاناة ويسمي هذه الحالة بالذنب. وهكذا فإن علي الإنسان أن يشعر دائماً (دون انقطاع) بالمعاناة التي تتساوي ونعيم الجنة، تنفيذ العهد، التضحية. هذا هو التوازن الأرضي وإلا ستصبح الحياة علي الأرض بلا معني……….
بعد عام ونصف ينقل دستويڤسكي ما تبقي في ذاكرته الإبداعية عن رفيقة حياته الأولي ليضعه في شخصية كاترينا إيڤانوڤنا مارميلادوفا في رواية »الجريمة والعقاب« ليكون مصير وشخصية صديقه مارميلادوفا الكثير من الظروف التي مرت في سيرة حياة زوجته الأولي : الشباب اللامبالي، الزواج من سكير مدمن، »العفو اليائس«، تطور حدة مرض السل الرئوي، نوبات الغضب ثم شلالات من دموع الندم – كلها سمات كاترينا إيڤانوڤنا المأخوذة من طبيعة عرفها الكاتب عن قرب ليجسدها مستخدماً السبك الفني للمادة الواقعية الخام.
لقد استخدم دستويڤسكي عند وضعه لهذه الشخصية بعض لمسات أيضاً من خطابات كوزنيتسك التي كتبتها ماريا ديمترييڤنا : فيوم وفاة كاترينا إيڤانوڤنا مارميلادوفا تتلقي اصدقة» مقدارها ثلاثة روبلات، بل إن دستوڤسكي استخدم سمات زوجته الأولي في الفترة التي سبقت وفاتها ليضعها في المظهر الخارجي لبطلته:»هي امرأة نحيلة نحولاً رهيباً، دقيقة القسمات، طويلة القامة حسنة الهيئة، لها شعر رائع كستنائي اللون، علي خديها بقعتان حمراوان فعلاً. إنها تسير في الغرفة طولاً وعرضاً، وقد شدَّت يديها إلي صدرها تضغطه بهما، وكانت أنفاسها قصيرة مقطَّعة، وكانت عيناها تسطعان ببريق محموم، ولكن نظرتها حادة ثابتة. إن هذا الوجه الذي التهمه مرض السل يُحدث مرآه علي ضوء الشمعة الصغيرة الذائبة أثراً أليماً في النفس«.
علي هذا النحو يتذكر دستويڤسكي رفيقته الأولي في الحياة. وعلي طريقة رامبرندنت يرسم دستويڤسكي الضوء في شفق بطرسبورج في تلاعب الظلال الكثيفة العابرة، التي راحت تتجمع علي خديها الشاحبين لتبرز عينين ثابتتين محمومتين- إنه وجه مُعذَّبة عظيمة ترزح تحت وطأة الحياة، وبهذه الألوان القاتمة صوَّر دستويڤسكي لوحة لقبر صديقته المسلولة.
في حديث شخصي دار بيني وبين أنّا جريجوريڤنا دستويفسكايا أخبرتني ببعض المعلومات الإضافية عن الزواج الأول لدستويڤسكي : »لقد أحب فيودور ميخايلوڤيتش زوجته الأولي بقوة، لأنه أول شعور حقيقي له في الحياة، فقد مرَّ شبابه كله في العمل الأدبي. وتحــت انطبـاع نجـاحه الأول المـدوي، استغـرقتـه الكتابة تماماً ولم يكن لديه وقـت ليقيم أي علاقـة غراميـة حقيقيـة. أمــا ولعه ببانـايڤا فكان أمراً عابراً لايُؤخذ في الحسبان. علي أن الأمر مع ماريا ديمترييڤنا قد جري علي نحو مختلف».
لقد كان شعوراً جارفاً كل ما فيه من أفراح وأتراح. في سنواتها الأخيرة اكان للمرض الذي اشتدت حدته علي الراحلة أثر خاص علي ما أحاط علاقتهما من عذاب«.
لقد عرفت من الأطباء الذين كانوا يتولون علاج ماريا ديمترييڤنا أنها عند اقتراب نهايتها لم تكن في حالة نفسية سوية علي الإطلاق. كانت تنتابها حالات غريبة من الهلاوس. وأحياناً ما كانت تبدأ فجأة في الغمغمة قائلة: »الشياطين، ها هي الشياطين! ولم تكن تهدأ إلا بعد أن يقوم الطبيب بفتح النافذة متظاهراً بطرد الشياطين من الغرفة«.
في عام 1864 وَصَلَتْ إلي مجلة »العصر« قصتان من مدينة ڤيتيبسك النائية خطتهما يد امرأة بتوقيع مختصر لشخص يُدعي يوري أوربسيلوف.
كُتبت القصة الأولي بروح القصّ الحديث، كما لو أنها استلهمت قصيدة الشاعر الشهير دوبروليوبوف التي يقول فيها :
أخشي ما أخشاه
أن يُكتب علي شاهد قبري.
أن كلّ ما تمنيته بشراهة
وأنا علي قيد الحياة
قد ذهب أدراج الرياح
وأن السعادة أبت أن تبتسم لي
فتاة من علية القوم، مغرمة بطالب فقيــر، تتكتـم مشـاعرها ثم تدرك أخيراً بعد وفاة بطلها أنها خسرت سعادتها.
أما القصة الأخري فتتناول موضوعاً أكثر تعقيداً. وكان من الحتمي أن تلفت إليها اهتمام دستويڤسكي. تصف القصة الأزمة المعقدة التي عاشها شاب من النبلاء الأثرياء، أُعجب بفكرة الكمال الأخلاقي فقادته في سياق بحثه عن الحقيقة إلي صومعة في دير من الأديرة.
انضم هذا النبيل ليصبح تلميذاً لواحد من النُسَّاك الصارمين هو الأب أمفروسي ليخضع للنظام الصارم للدير. لكن لقاءً علي غير انتظار مع أميرة شابة أثارت فيه الحنين إلي عالم آخر وإلي حياة مختلفة، فإذا به يغادر صومعته بحثاً عن الفكرة الأسمي للوجود وسط الناس ؟
وعندما أُصيب بالإحباط يقفل عائداً إلي الأب ليموت في صومعته الضيقة بعد أن عاني اليأس العميق في إمكانية الوصول إلي الطريق القويم.
برغم مما بدا من نضج غير كافٍ في فنية الكتابة، فقد كشفت الرواية عن موهبة فائقة لدي الكاتب في «تصوير النفس البشرية»، وقد جري تصوير العالم الداخلي لأزمات البطل ( في كنيسة أوسبينسكي، وفي الدير القائم في شارع تڤيرسكايا).
بثقة بالغة وعلي نحو درامي. وفي سياق تقلبات السرد نجد أن التباينات النفسية في النص قد تم التخطيط لها بفهم كامل للمؤثرات البنائية.
رأي دستويڤسكي أن القصتين جديرتان بالاعتبار. وبعد أن أشار محرر مجلة »العصر« إلي ما وقع فيه المؤلف المبتدئ من زلات فقد عبَّر في رده الودي عن تقديره لموهبة هذا المؤلف المجهول وتعهد بنشر المادة التي أُرسلت إليه في أقرب عدد من مجلته.
سرعان ما انعقدت أواصر التعارف بين دستوڤسكي وهذه الفتاة الشابة التي توارت خلف الاسم المستعار يوري أوربيسلوف.
لقد ترك هذا اللقـاء أثـراً قـويًّا علي دستويڤسـكي، وينبـغي علينـا أن نعـترف أن من بين النساء اللائي افتتن بهن دستويڤسكي كانت أنَّا ڤاسيليڤنا كورڤين – كروكوڤسكايا، بلا أدني شك، أكثرهن موهبة ونبوغاً وجمالا.
___
*أخبار الأدب