نساء في حياة ديستوفسكي


*لىوند جروسمان ترجمة‮:‬‮ ‬د‮. ‬أنور ابراهىم


في شبابه الباكر أغفل دستوڤسكي تماماً‮ ‬حياته العاطفية‮ ‬غارقاً‮ ‬في مخطوطات كتبه‮. ‬لقد صرفه السعي وراء الظهور الأدبي بقوة أكبر عن الانفعالات الرومانسية‮. ‬وفي سيبيريا انفتح عصر حكايات دستوڤسكي الغرامية‮. ‬ومنذ ذلك الحين ظهرت في طريق حياته شخصيات نسائية رائعة انعكست سماتهن بقوة في بطلات رواياته،‮ ‬وهذا هو السبب وراء ولعه الشخصي الهائل بدراسة العديد من النماذج النسائية التي ظهرت في فترة نضجه الإبداعي‮.‬
هذا الكتاب يقدم العالم الخاص من المشاعر والهواجس والعلاقات العاطفية الحقيقية في حياة واحد من أعظم كُتّاب الإنسانية علي مر العصور‮.‬هناك أمر علي جانب كبير من الأهمية،‮ ‬وهو أن دستويڤسكي أحب وللمرة الأولي امرأة مريضة،‮ ‬منهكة القوي،‮ ‬انهالت عليها الحياة بالضربة تلو الأخري‮. ‬امرأة فقيرة معدمة،‮ ‬كُتب عليها الجنون والموت‮.‬
وللأسف،‮ ‬فإن كافة المراحل المضنية التي مر بها هذا الحب الأول لدستوڤسكي لا يمكن تقديمها بصورة كاملة‮. ‬يبدو أن الخطابات المسهبة التي كتبها دستويڤسكي من سيميبالاتينسك إلي كوزنيتسك قد ضاعت إلي الأبد‮. ‬يذكر فرانجيل أن هذه الخطابات كانت تملأ كراسات كاملة‮. ‬
إن الظروف القاسية التي عاشتها ماريا ديمترييڤنا وما عانته من أحداث درامية وفَقْد،‮ ‬لم تكن لتسمح لها أن تتعامل بقدر كاف من الاهتمام بهذه الخطابات‮. ‬المذكرات،‮ ‬التي ضاعت بداهة في‮ ‬ركن سحيق في سيبيريا‮.‬
إن الجانب الهام والعميق من القصة المأساوية لحب دستوڤسكي الأول،‮ ‬التي‮ ‬كتبها في اعترافاته المطولة لم تصل إلينا‮. ‬وسوف يكون علينا أن نقيم فصولها الضائعة استناداً‮ ‬إلي المعلومات‮ ‬غير المباشرة‮.‬
علي أية حال،‮ ‬فإن صورة ماريا ديمترييڤنا والعديد من مشاهد هذه العلاقة العاطفية قد انعكست بشكل واضح وحاد في إبداع دستوڤسكي‮. ‬نجدها في رواية‮ «‬المذلون والمهانون‮» ‬في الحب المتفاني لبطل الرواية المستعد للتضحية بمشاعره من أجل سعادة شخصين آخرين‮. ‬إن هذه المشاهد تنقل إلينا بوضوح جانباً‮ ‬من‮ ‬غرام دستوڤسكي في سيبيريا‮. ‬
وفي‮ «‬الجريمة والعقاب‮» ‬يقدم نموذج كاترينا إيڤانوڤنا صورة طبق الأصل من ماريا ديمترييڤنا لينبعث معها مصيرها كله‮. ‬إن مشهد وفاة زوجة مارميلادوف قد كُتب تحت انطباع الحزن علي الزوجة الأولي لدستوڤسكي،‮ ‬بل إننا نجد أيضاً‮ ‬بعض العبارات التي تذكِّرنا بوصف هذا الحادث الحزين كما وردت في خطابات دستوڤسكي‮.‬
إن المظهر الخارجي لماريا ديمترييڤنا في لحظة تعرُّفها علي دستوڤسكي،‮ ‬أي قبل عشر سنوات من موتها،‮ ‬يتميز بقدر كبير من الجاذبية‮. ‬آنذاك كانت تبلغ‮ ‬من العمر ستاً‮ ‬أو سبعاً‮ ‬وعشرين عاماً،‮ ‬إذا كان سنها قد أشير إليه بشكل صحيح في خطاب دستويڤسكي إلي شقيقته في عام‮ ‬1857‮ : »‬أبلغ‮ ‬من العمر خمسة وثلاثين عاماً،‮ ‬بينما تبلغ‮ ‬هي تسعة وعشرين‮ . ‬
ويصفها فرانجيل بأنها‮ : »‬حسناء ذهبية الشعر،‮ ‬متوسطة القامة،‮ ‬نحيفة للغاية،‮ ‬شديدة الحساسية،‮ ‬مندفعة‮. ‬آنذاك كانت هذه الحمرة المشئومة تداعب وجهها الشاحب،‮ ‬ليذهب بها مرض السل بعد بضع سنوات إلي القبر‮. ‬كانت امرأة واسعة الاطلاع،‮ ‬تلقت تعليماً‮ ‬جيداً‮ ‬وكانت محبة للمعرفة،‮ ‬طيبة محبة للحياة بشكل استثنائي،‮ ‬كما كانت سريعة التأثر والانفعال‮«.‬
وقد التقاها الناقد‮ . ‬ستراخوف علي نحو عابر في بطرسبورج وتركت لديه انطباعاً‮ ‬طيباً‮ ‬بشحوبها ورقَّة ملامحها،‮ ‬علي الرغم من أنه كان من الواضح إصابتها بمرض مميت‮.‬
هذه الطبيعة الحساسة المندفعة هي ذاتها التي أسرت دستويڤسكي علي الفور‮.‬
ها هو دستوڤسكي يصف بنفسه قصة علاقتهما في خطابه إلي شقيقته في عام‮ ‬1857‮ : «‬بعد أن عدت في عام‮ ‬1854‮ ‬من أومسك إلي سيميبالاتينسك تعرفت علي موظف يقيم هنا هو وزوجته‮. ‬الرجل من روسيا،‮ ‬يتمتع بالذكاء والطيبة،‮ ‬مثقف،‮ ‬وقد أحببته كأخ‮… ‬كان عاطلاً،‮ ‬ولكنه كان ينتظر أن يلحقوه مرة أخري بالخدمة‮. ‬كان لديه زوجة وابن‮. ‬أما زوجته فهي ماريا ديمترييڤنا إيسايڤا‮. ‬ما تزال في ريعان الصبا وقد استقبلاني كأني واحدة من أقاربهم،‮ ‬وفي النهاية وبعد عناء طويل حصل علي عمل في مدينة كوزنيتسك من أعمال محافظة تومسكايا،‮ ‬وهي تبعد عن سيميبالاتينسك سبعمائة فرسخ،‮ ‬ودَّعتهم وكان الفراق أكثر وطأة علي نفسي من فقدان الحياة نفسها‮.«‬
حاشية‮ : ‬حدث ذلك في مايو عام‮ ‬1855‭.‬‮ ‬ولست أبالغ‮ ‬هنا‮. ‬بعد وصوله إلي كوزنتسك،‮ ‬مرض إيسايف فجأة ثم وافته المنية تاركاً‮ ‬زوجة وابناً‮ ‬دون قرش واحد،‮ ‬وحيدة في بلدة‮ ‬غريبة،‮ ‬دون مساعدة وفي حالة مزرية‮. ‬ما إن عَرفتُ‮ ‬بذلك‮ ( ‬وكنا نتراسل‮)‬،‮ ‬حتي اهتممت بالأمر وأرسلت لها نقوداً‮ ‬في أقرب فرصة‮. ‬كم كنت سعيداً‮ ‬عندما علمت بتسلمها النقود‮. ‬وأخيراً‮ ‬استطاعت أن تكتب لأهلها ولأبيها‮. ‬كان أبوها يعيش في أستراخان ويحتل وظيفة هامة‮ ( ‬مدير الحجر الصحي‮ )‬،‮ ‬كان صاحب رتبة رفيعة ويتقاضي راتباً‮ ‬كبيراً،‮ ‬لكن الرجل كانت لديه ثلاث فتيات وأبناء يخدمون في الحرس‮. ‬كانت كنيته كونستان‮. ‬وهو حفيد لمهاجر فرنسي شارك في الثورة الأولي،‮ ‬نبيل،‮ ‬جاء إلي روسيا واستقر فيها‮. ‬أما أبناؤه فهم روس من جهة الأم‮ . ‬ماريا ديمترييڤنا هي الابنة الكبري وكان والدها يفضلها علي الجميع‮. ‬
صديقتي العزيزة،‮ ‬أكتب إليك تفصيلاً‮ ‬لكنني لم أكتب إليك الأهم‮. ‬إنني أهيم بهذه المرأة منذ زمن بعيد إلي درجة الجنون،‮ ‬أحبها أكثر من حياتي‮. ‬لو أنك عرفت هذا الملاك،‮ ‬لما أخذتك الدهشة‮. ‬إنها تمتلك خصالاً‮ ‬رائعة‮. ‬ذكية،‮ ‬رقيقة،‮ ‬مثقفة،‮ ‬مثال نادر من النساء المثقفات مع شيء من الوداعة،‮ ‬تدرك ما عليها من واجبات،‮ ‬متدينة‮. ‬لقد رأيتها في لحظات الشقاء عندما كان زوجها عاطلاً‮ ‬عن العمل‮. ‬لا أريد أن أصف لك ما كانا عليه من ضنك‮. ‬ليتك رأيت علي أي نحو من نكران الذات وقوة التحمل واجهت به هذه المرأة هذه التعاسة التي يمكن أن نصفها تماماً‮ ‬بالبؤس،‮ ‬إن مصيرها الآن بشع‮: ‬إنها تعيش في كوزنتسك،‮ ‬حيث توفي زوجها،‮ ‬يعلم الله من يحيط بها وهي الأرملة اليتيمة بكل معني الكلمة‮. ‬بالطبع كان حبي لها سراً‮ ‬لم أصرح به‮.‬
لقد أحبت الكسندر إيڤانوڤيتش،‮ ‬زوجها،‮ ‬مثل أخ‮. ‬ولكنها،‮ ‬بعقلها وقلبها،‮ ‬لم تستطع أن تفهم حبي لها،‮ ‬لم تخمن ذلك‮. ‬والآن هي امرأة حرة‮ (‬بعد وفاة زوجها منذ عام ونصف العام‮) ‬وعندما رُقِّيتُ‮ ‬إلي درجة ضابط،‮ ‬كان أول ما فعلت أن عرضت عليها الزواج‮. ‬إنها تعرفني،‮ ‬تحبني وتحترمني‮. ‬ومنذ أن افترقنا ظللنا نتبادل الخطابات‮. ‬وافقت وقالت‮ «‬نعم‮»‬،‮ ‬وإذا لم تقع أحداث طارئة‮… ‬فإننا سنتزوج قبل‮ ‬15‮ ‬فبراير،‮ ‬أي قبيل عيد الرماد‮. ‬صديقتي العزيزة،‮ ‬أختي الحبيبة‮! ‬لا تغضبي،‮ ‬لا تغتمي ولا تنسيني‮. ‬ليس‮ ‬هناك شيء أفضل لأفعله‮…لكن هذا المديح الحماسي الذي كاله دستوڤسكي لماريا ديمتريڤينا إيسايڤا في خطابه لأقاربه،‮ ‬كان عليه أن يتراجع عنه في مراسلاته مع فرانجيل‮. ‬لقد اتخذت العلاقات المتبادلة بين فيودور ميخايلوڤيتش وزوجة المستقبل علي الفور منحيً‮ ‬خاطئاً‮ ‬وأصبح كل منهما مصدر عذاب للآخر‮. ‬يقول فرانجيل‮: ‬لقد أبدت مشاعر العطف الدافيء نحو دستويڤسكي،‮ ‬كانت تعامله بلطف،‮ ‬لا أظن أنها كانت تعرف قدره بعمق،‮ ‬الأمر ببساطة أنها كانت تعطف علي شخص تعيس ظلمه القدر،‮ ‬ربما تكون قد تعلقت به،‮ ‬لكنها لم تقع في حبه بأي شكل من الأشكال‮. ‬كانت تعلم أنه مصاب بداء الصرع،‮ ‬وأنه في أمسّ‮ ‬الحاجة إلي المال،‮ ‬وأنه،‮ ‬كما قالت ا رجل بلا مستقبل‮ ‬،‮ ‬أما فيودور ميخايلوڤيتش فقد رأي في شعور العطف والأسي حباً‮ ‬متبادلاً‮ ‬وراح يحبها بكل ما في الشباب من حمية‮.‬
غير أن دستوڤسكي سرعان ما شعر باليأس لأن ماريا ديمترييڤنا لا تبادله حباً‮ ‬بحب،‮ ‬فعندما نقل إيسايف إلي كوزنيتسك علي بُعد‮ ‬500‮ ‬فرسخ من سيميبالاتينسك وقع دستويڤسكي فريسة لليأس العميق‮. ‬يشكو دستويڤسكي حاله لفرانجيل قائلاً‮: ‬ا لقد وافقت علي السفر‮. ‬لم تعترض،‮ ‬وهذا أمر شائن‮!‬
عندما حانت لحظة الفراق راح يبكي بكاء مُرًّا مثل طفل،‮ ‬وعندما اختفي عن ناظريه ركْبُ‮ ‬المسافرين،‮ ‬ظل واقفاً‮ ‬كالمقيد بالأغلال متابعاً‮ ‬إياهم ودموعه تنهمر علي خده‮.‬
لقد ظهرت هناك خطابات أكثر إيلاماً‮ ‬من العلاقات الشخصية‮. ‬لم تتوقف ماريا ديمترييڤنا عن تعذيب دستوڤسكي وهي بعيدة عنه وهي تجأر بالشكوي من الفقر والمرض ومن الحالة المحزنة التي وصل إليها زوجها ومن المستقبل البائس‮. ‬لكن أكثر ما أثار الاضطراب والعذاب عند دستويڤسكي هو شكوي مراسلته من الوحدة التي لا تحتمل وحاجتها إلي شخص ما يفرج همها‮. ‬
آنذاك بدأ التلميح أكثر حماساً‮ ‬حول اسم صديق جديد في كوزنتيسك‮ – ‬مدرس شاب لطيف‮»‬،‮ ‬يمتلك خصالاً‮ ‬نادرة و‮ »‬روحا سامية‮«. ‬هنا سقط دستويڤسكي‮ ‬في كآبة نهائية،‮ ‬راح يمشي كالظل بل وأهمل رواية‮ »‬مذكرات من البيت الميت،‮ ‬التي كان منشغلاً‮ ‬بالعمل علي إتمامها في تلك الفترة بكل ولع‮. ‬وعندما عاتبه فرانجيل علي ذلك رد عليه قائلاً‮: ‬كتبت لي تقول أنني أتكاسل عن العمل،‮ ‬أبداً‮ ‬ياصديقي،‮ ‬لكن علاقتي بماريا ديمترييڤنا قد شغلتني كلية في العامين الأخيرين‮. ‬كنت أعيش،‮ ‬وإن كنت أعاني،‮ ‬لكنني،‮ ‬علي أقل تقدير،‮ ‬كنت أعيش‮!.‬
في شهر أغسطس في عام‮ ‬1855‮ ‬تلقي دستوڤسكي خطاباً‮ ‬من ماريا ديمترييڤنا يفيد أن زوجها قد توفي‮. ‬وأخبرته أن إيسايف قد مات في ظروف قاسية لا تحتمل،‮ ‬وأن ابنها قد جُن من البكاء واليأس وأنها تتعذب من الأرق ومن نوبات حادة من المرض،‮ ‬ثم حكت له أنها دفنت زوجها بنقود اقترضتها من أغراب،‮ ‬وأنه لم يتبق لديها شيء سوي الديون وأن شخصاً‮ ‬ما أرسل إليها ثلاث روبلات‮. »‬لقد دفعتني الحاجة لأن أقبل‮… ‬وقبلت‮… ‬الإحسان‮…‬
انكب دستويڤسكي بكل كيانه في تدبير الأمور المتعلقة بمصير ماريا ديمترييڤنا‮. ‬حصل علي مال من فرانجيل‮. ‬سعي ليلحق پاشا إيسايف بالجيش،‮ ‬بذل ما في وسعه بتضحية بطولية وكان علي استعداد أن يجثو علي ركبتيه‮ »‬ليتسول من أجل منافسه المدرسي من كوزنيتسك،‮ ‬الذي تحمل له ماريا ديمترييڤنا مودة عميقة‮ (‬يقول فرانجيل عن هذا المدرس أنه‮ »‬شخصية تافهة‮«.‬
لكن كل ذلك لم يفلح،‮ ‬كما يبدو،‮ ‬في أن يعيد عاطفة ماريا ديمترييڤنا الودية نحو دستويڤسكي‮. ‬بعد عام تقريباً‮ ‬من وفاة إيسايڤ،‮ ‬في صيف‮ ‬1856،‮ ‬يرسل دستويڤسكي خطابات إلي فرانجيل تفيض باليأس‮: »‬أشعر وكأن بي مسًّا من الجنون‮… ‬لقد مضي الأمر‮!« «‬أحوالي سيئة للغاية،‮ ‬أنا في يأس تام،‮ ‬يصعب أن تتصور ما عانيته من شقاء‮«. ‬وفي خطابه المؤرخ الحادي والعشرين من يوليو يقول‮ : ‬أخشي أن تتزوج،‮ ‬وعندها قد ألقي بنفسي في الماء أو أغرق في الشراب‮«.‬
بحلول شتاء عام‮ ‬1857‮ ‬فقط،‮ ‬أي بعد مرور عام ونصف علي وفاة إيسايف،‮ ‬إذا بالأمور تسير أخيراً‮ ‬لصالح دستويڤسكي‮. ‬وإلي هذه الفترة يعود خطابه الذي أرسله إلي فرانجيل حول زواجه المقبل‮. ‬وأخيراً‮ ‬وبعد طول انتظار للسعادة،‮ ‬يغلق دستويڤسكي عينيه عن الماضي كله،‮ ‬يكتب دستويڤسكي في خطابه مطمئناً‮ ‬نفسه من جرَّاء الذكريات التي عذبته من منافسه‮ ‬غير بعيد‮ : »‬إنها تحبني،‮ ‬أعرف ذلك يقيناً‮. ‬وفي سياق حديثه إلي فرانجيل عن هذا الجزء المظلم من قصته الغرامية يقول‮: «‬سوف تتخلي عن حبها الجديد‮«.‬
لكن دستويڤسكي لم يجد بطبيعة الحال سعادته المرجوة في هذا الزواج‮. ‬ها هو فرانجيل يحدد الملمح الرئيسي في العلاقات التالية‮: ‬كانت ماريا ديمترييڤنا تعاني دوماً‮ ‬من المرض،‮ ‬تجتاحها نوبات من الجموح والغيرة‮».‬
كانت دراما الغيرة قد بدأت قبل ذلك في سيميبالاتينسك علي أثرها تفككت الصداقة الأسرية تماماً‮.‬
كانت ماريا ديمترييڤنا تشعر بالشك العدواني تجاه عائلة زوجها باعتبارها قريبة مريضة وفقيرة،‮ ‬وكان وسواس الكراهية يدفعها للتعامل مع العائلة بكل ما تملك من هياج وحقد‮ . ‬ظلت طوال حياتها تعتقد أن ميخائيل ميخايلوڤيتش عدو‮ ‬غامض،‮ ‬ولم تظهر رغبتها في التصالح معه إلا وهي علي حافة القبر‮.‬
في‮ ‬غضون ذلك كان المرض يزداد حدة،‮ ‬وسرعان ما انعكس انتقالها إلي بطرسبورج للإقامة الدائمة بها علي تطور مرض السل الرئوي،‮ ‬وفي شتاء عام‮ ‬1863‮- ‬1864‮ ‬اضطر الزوجان دستويڤسكي إلي اتخاذ موسكو مقراً‮ ‬لإقامتهما بسبب الضعف الشديد الذي أصاب ماريا ديمترييڤنا وبدءاً‮ ‬من فصل الربيع ازدادت حدة المرض،‮ ‬وفي منتصف شهر أبريل أرسل دستويڤسكي خطاباً‮ ‬إلي أخيه يقول فيه بالأمس داهمت ماريا ديمترييڤنا نوبة حاسمة‮ : ‬تفجر الدم من حلقها وأغرق صدرها وراح يخنقها‮…‬
وفي اليوم التالي،‮ ‬السادس عشر من أبريل من عام‮ ‬1864،‮ ‬جاءت خاتمة قصة حب دستويڤسكي المؤلمة‮ : ‬ماتت ماريا ديمترييڤنا‮. ‬فيما بعد يكتب دستويڤسكي قائلاً‮ : »‬أحبتني بلا حدود،‮ ‬وأنا أحببتها أيضاً‮ ‬بلا حدود،‮ ‬ولكنني لم أكن سعيداً‮ ‬معها‮… ‬وعلي الرغم من أننا كنا تعساء معًا بشكل مطلق،‮ ‬بسبب شكوكها وطبعها المرضي العجيب،‮ ‬فإننا لم نستطع أن نتوقف عن حب كل منا للآخر؛ بل كلما ازداد بؤسنا،‮ ‬ازداد تعلقنا كلٌّ‮ ‬بالآخر‮«.‬
في نفس يوم وفاة زوجته‮. ‬يخط دستويڤسكي وهو أمام جثتها الهامدة بضع تأملات في دفتر مذكراته حول فكرة الحب والزواج،‮ ‬حول رسالة كل شخص علي الأرض‮ : ‬16‮ ‬أبريل‮. ‬ماشا ترقد علي الطاولة،‮ ‬تري هل سألتقي بماشا مرة أخري؟
أن تحب إنساناً‮ ‬قدر حبك لنفسك،‮ ‬وفقًا لوصايا المسيح أمر مستحيل‮. ‬قانون الفرد يشد الإنسان إلي الأرض والأنا تعوقه،‮ ‬ومع ذلك فالمسيح وحده استطاع ذلك،‮ ‬لكن المسيح كان خالداً‮. ‬إنه المثال الذي نسعي إليه وينبغي،‮ ‬بناء علي قانون الطبيعة،‮ ‬أن يسعي إليه الإنسان‮… ‬إن السعادة العظمي هي في أن يهب الإنسان نفسه كاملة لجميع الناس ولكل شخص وبكل تفانٍ‮.‬
علي هذا النحو فإن قانون الأنا يندمج مع قانون الإنسانية وفي اندماجها،‮ ‬أنا والجميع‮ (‬وهما يبدوان طرفيْ‮ ‬نقيض‮)‬،‮ ‬وبشكل متبادل يضحي كل واحد من أجل الآخر،‮ ‬وفي الوقت نفسه يبلغان أيضاً‮ ‬الهدف الأسمي للتطور الفردي لكل منهما‮.‬
هذا ما يمكن أن نسميه بجنة المسيح‮. ‬إن التاريخ كله،‮ ‬سواء تاريخ البشرية،‮ ‬أو جزئيًّا تاريخ كل فرد علي حدة،‮ ‬ليس سوي التطور،‮ ‬الصراع،‮ ‬السعي وتحقيق الهدف‮…..‬
وهكذا فإن الإنسان يسعي علي الأرض نحو المثال المناقض لطبيعته‮. ‬عندما لا يحقق الإنسان قانون السعي نحو المثال،‮ ‬أي عندما لا يضحي بذاته من أجل الناس من أجل كائن آخر‮ ( ‬أنَّا وماشا‮ )‬،‮ ‬فإنه يشعر بالمعاناة ويسمي هذه الحالة بالذنب‮. ‬وهكذا فإن علي الإنسان أن يشعر دائماً‮ (‬دون انقطاع‮) ‬بالمعاناة التي تتساوي ونعيم الجنة،‮ ‬تنفيذ العهد،‮ ‬التضحية‮. ‬هذا هو التوازن الأرضي وإلا ستصبح الحياة علي الأرض بلا معني‮……….‬
بعد عام ونصف ينقل دستويڤسكي ما تبقي في ذاكرته الإبداعية عن رفيقة حياته الأولي ليضعه في شخصية كاترينا إيڤانوڤنا مارميلادوفا في رواية‮ »‬الجريمة والعقاب‮« ‬ليكون مصير وشخصية صديقه مارميلادوفا الكثير من الظروف التي مرت في سيرة حياة زوجته الأولي‮ : ‬الشباب اللامبالي،‮ ‬الزواج من سكير مدمن،‮ »‬العفو اليائس‮«‬،‮ ‬تطور حدة مرض السل الرئوي،‮ ‬نوبات الغضب ثم شلالات من دموع الندم‮ – ‬كلها سمات كاترينا إيڤانوڤنا المأخوذة من طبيعة عرفها الكاتب عن قرب ليجسدها مستخدماً‮ ‬السبك الفني للمادة الواقعية الخام‮. ‬
لقد استخدم دستويڤسكي عند وضعه لهذه الشخصية بعض لمسات أيضاً‮ ‬من خطابات كوزنيتسك التي كتبتها ماريا ديمترييڤنا‮ : ‬فيوم وفاة كاترينا إيڤانوڤنا مارميلادوفا تتلقي اصدقة‮» ‬مقدارها ثلاثة روبلات،‮ ‬بل إن دستوڤسكي استخدم سمات زوجته الأولي في الفترة التي سبقت وفاتها ليضعها في المظهر‮ ‬الخارجي لبطلته‮:‮»‬هي امرأة نحيلة نحولاً‮ ‬رهيباً،‮ ‬دقيقة القسمات،‮ ‬طويلة القامة حسنة الهيئة،‮ ‬لها شعر رائع كستنائي اللون،‮ ‬علي خديها بقعتان حمراوان فعلاً‮. ‬إنها تسير في الغرفة طولاً‮ ‬وعرضاً،‮ ‬وقد شدَّت يديها إلي صدرها تضغطه بهما،‮ ‬وكانت أنفاسها قصيرة مقطَّعة،‮ ‬وكانت عيناها تسطعان ببريق محموم،‮ ‬ولكن نظرتها حادة ثابتة‮. ‬إن هذا الوجه الذي التهمه مرض السل يُحدث مرآه علي ضوء الشمعة الصغيرة الذائبة أثراً‮ ‬أليماً‮ ‬في النفس‮«.‬
علي هذا النحو يتذكر دستويڤسكي رفيقته الأولي في الحياة‮. ‬وعلي طريقة رامبرندنت يرسم دستويڤسكي الضوء في شفق بطرسبورج في تلاعب الظلال الكثيفة العابرة،‮ ‬التي راحت تتجمع علي خديها الشاحبين لتبرز عينين ثابتتين محمومتين‮- ‬إنه وجه مُعذَّبة عظيمة ترزح تحت وطأة الحياة،‮ ‬وبهذه الألوان القاتمة صوَّر دستويڤسكي لوحة لقبر صديقته المسلولة‮.‬
في حديث شخصي دار بيني وبين أنّا جريجوريڤنا دستويفسكايا أخبرتني ببعض المعلومات الإضافية عن الزواج الأول لدستويڤسكي‮ : »‬لقد أحب فيودور ميخايلوڤيتش زوجته الأولي بقوة،‮ ‬لأنه أول شعور حقيقي له في الحياة،‮ ‬فقد مرَّ‮ ‬شبابه كله في العمل الأدبي‮. ‬وتحــت انطبـاع نجـاحه الأول المـدوي،‮ ‬استغـرقتـه الكتابة تماماً‮ ‬ولم يكن لديه وقـت ليقيم أي علاقـة‮ ‬غراميـة حقيقيـة‮. ‬أمــا ولعه ببانـايڤا فكان أمراً‮ ‬عابراً‮ ‬لايُؤخذ في الحسبان‮. ‬علي أن الأمر مع ماريا ديمترييڤنا قد جري علي نحو مختلف‮».‬
لقد كان شعوراً‮ ‬جارفاً‮ ‬كل ما فيه من أفراح وأتراح‮. ‬في سنواتها الأخيرة اكان للمرض الذي اشتدت حدته علي الراحلة أثر خاص علي ما أحاط علاقتهما من عذاب‮«. ‬
لقد عرفت من الأطباء الذين كانوا يتولون علاج ماريا ديمترييڤنا أنها عند اقتراب نهايتها لم تكن في حالة نفسية سوية علي الإطلاق‮. ‬كانت تنتابها حالات‮ ‬غريبة من الهلاوس‮. ‬وأحياناً‮ ‬ما كانت تبدأ فجأة في الغمغمة قائلة‮: »‬الشياطين،‮ ‬ها هي الشياطين‮! ‬ولم تكن تهدأ إلا بعد أن يقوم الطبيب بفتح النافذة متظاهراً‮ ‬بطرد الشياطين من الغرفة‮«.‬
في عام‮ ‬1864‮ ‬وَصَلَتْ‮ ‬إلي مجلة‮ »‬العصر‮« ‬قصتان من مدينة ڤيتيبسك النائية خطتهما يد امرأة بتوقيع مختصر لشخص يُدعي يوري أوربسيلوف‮.‬
كُتبت القصة الأولي بروح القصّ‮ ‬الحديث،‮ ‬كما لو أنها استلهمت قصيدة الشاعر الشهير دوبروليوبوف التي يقول فيها‮ :‬
أخشي ما أخشاه‮ ‬
أن يُكتب علي شاهد قبري‮.‬
أن كلّ‮ ‬ما تمنيته بشراهة
وأنا علي قيد الحياة
قد ذهب أدراج الرياح
وأن السعادة أبت أن تبتسم لي
فتاة من علية القوم،‮ ‬مغرمة بطالب فقيــر،‮ ‬تتكتـم مشـاعرها ثم تدرك أخيراً‮ ‬بعد وفاة بطلها أنها خسرت سعادتها‮.‬
أما القصة الأخري فتتناول موضوعاً‮ ‬أكثر تعقيداً‮. ‬وكان من الحتمي أن تلفت إليها اهتمام دستويڤسكي‮. ‬تصف القصة الأزمة المعقدة التي عاشها شاب من النبلاء الأثرياء،‮ ‬أُعجب بفكرة الكمال الأخلاقي فقادته في سياق بحثه عن الحقيقة إلي صومعة في دير من الأديرة‮. ‬
انضم هذا النبيل ليصبح تلميذاً‮ ‬لواحد من النُسَّاك الصارمين هو الأب أمفروسي ليخضع للنظام الصارم للدير‮. ‬لكن لقاءً‮ ‬علي‮ ‬غير انتظار مع أميرة شابة أثارت فيه الحنين إلي عالم آخر وإلي حياة مختلفة،‮ ‬فإذا به يغادر صومعته بحثاً‮ ‬عن الفكرة الأسمي للوجود وسط الناس ؟‮ ‬
وعندما أُصيب بالإحباط يقفل عائداً‮ ‬إلي الأب ليموت في صومعته الضيقة بعد أن عاني اليأس العميق في إمكانية الوصول إلي الطريق القويم‮.‬
برغم مما بدا من نضج‮ ‬غير كافٍ‮ ‬في فنية الكتابة،‮ ‬فقد كشفت الرواية عن موهبة فائقة لدي الكاتب في‮ «‬تصوير النفس البشرية‮»‬،‮ ‬وقد جري تصوير العالم الداخلي لأزمات البطل‮ ( ‬في كنيسة أوسبينسكي،‮ ‬وفي الدير القائم في شارع تڤيرسكايا‮).‬
بثقة بالغة وعلي نحو درامي‮. ‬وفي سياق تقلبات السرد نجد أن التباينات النفسية في النص قد تم التخطيط لها بفهم كامل للمؤثرات البنائية‮.‬
رأي دستويڤسكي أن القصتين جديرتان بالاعتبار‮. ‬وبعد أن أشار محرر مجلة‮ »‬العصر‮« ‬إلي ما وقع فيه المؤلف المبتدئ من زلات فقد عبَّر في رده الودي عن تقديره لموهبة هذا المؤلف المجهول وتعهد بنشر المادة التي أُرسلت إليه في أقرب عدد من مجلته‮.‬
سرعان ما انعقدت أواصر التعارف بين دستوڤسكي وهذه الفتاة الشابة التي توارت خلف الاسم المستعار يوري أوربيسلوف‮.‬
لقد ترك هذا اللقـاء أثـراً‮ ‬قـويًّا علي دستويڤسـكي،‮ ‬وينبـغي علينـا أن نعـترف أن من بين النساء اللائي افتتن بهن دستويڤسكي كانت أنَّا ڤاسيليڤنا كورڤين‮ – ‬كروكوڤسكايا،‮ ‬بلا أدني‮ ‬شك،‮ ‬أكثرهن موهبة ونبوغاً‮ ‬وجمالا.
___
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *