*محمد الأسعد
اخترعت كلُّ الثقافات المعاصرة أبطالها، وفي مختلف وسائل السرد وأنواعه، المتخيل منه والواقعي على حد سواء، للأطفال والكبار، للأصحاء ولذوي الاحتياجات الخاصة. ويمتلئ التاريخُ القريب بأمثلة نتداولها كطرائف، ففي منافسة «سوبرمان» الأمريكي، اخترع الفرنسيون «آستركس»، مثلما سبق لهم وأن اخترعوا المخبر السري «أرسين لوبين» في مواجهة الانجليزي «شرلوك هولمز»، وقبلها كان الرجل القرد، طرزان، ابن اللورد الإنجليزي غريستوك الذي اخترعه الأمريكي أدغار بوريس يرجّ بصيحاته شاشات السينما منذ أوائل القرن العشرين، ويشرح مخترعه كيف أن الخالق خص دماغ الرجل الأبيض بشرارة الإبداع وحرم منها دماغ الرجل الأسود، وكيف أن العرب في إفريقيا هم لصوص وهمج!، وتجاوزت بعض هذه الثقافات الحدود، فأخذت «أبطال» ثقافات أخرى، مثل الثقافة العربية، وقولبتهم وأعادتهم إلينا، وهكذا قدمت منذ وقت مبكر شخصيات علاء الدين والسندباد وحرامي بغداد.. بل وحتى الخليفة هارون الرشيد نفسه ووزيره جعفر، وهم يتحولون تارة إلى دمى بأيدي السحرة أو إلى غرانيق وأغربة تارة أخرى.
كل هذا الحشد مرّ، ويمر الآن أمام عيون المشاهدين العرب، والصغار بخاصة، من دون أن يلفت انتباه مثقفيهم (صناع الأفكار كما يقال) المشغولين بالتسابق إلى شاشات الفضائيات، وتدبيج سرديات لا تعزز، باستعارة من النيوزيلندية «باتريشيا غريس»، قيمنا وأعمالنا وعاداتنا وثقافتنا وهويتنا، بل تنصرف إلى الحديث عن «الآخرين» كأن العرب غير موجودين على وجه الكرة الأرضية، وإذا أخذتهم بأطراف أحاديثها كتبت عنهم أشياء زائفة، وإن ركزت عليهم جاءت بكل ما هو سلبي لتقول إن العرب لا خير يرجى منهم. وأشعر حين أقرأ بعض السرديات الحالية، من أي نوع كانت، رواية أو قصة أو قصيدة أو مسرحية، بغربة تامة عنها، وأخص الفلسطينية منها، لأنني أدرك فوراً كفلسطيني لاجئ الفرق بين صورة فلسطين وهذه الصورة المشوَّهة التي بدأت تقدمها سرديات، بعضها مصور موجه لأطفالنا، وبعضها مكتوب بأقلام محترفي «كتابة» موجهة للأكبر سناً.
(٢)
تختلق إحدى السرديات الروائية فلسطينياً يتشبث بركاب «إسرائيلية» من «تل أبيب»، ينظر يميناً فيرى في المطار «الإسرائيليي» بشراً عاديين يشربون القهوة في حلقات فيندهش ويشعر بالدفء بينهم، وينظر شمالاً فيرى الفلسطينيين المحاصرين في غزة أشباه بشر ملثمين، ينتحرون أو يموتون برصاص طائش فينفر منهم، بل ولا يرى حتى في أمّهِ إلا رأساً يشبه بطيخة ويداً مثل عصا تسندها. وآخر يسرد ولا يرى، ماراً برام الله عائداً إلى قريته، إلا أناساً ملتصقين بالماضي يثيرون اشمئزازه لأنهم فقراء لم تدخل قريتهم العمائر الحداثية، فيهم المقطوع الساق والمقطوع اليد ومحطم الكتف، ويتخيل ماضي الفلسطينيين كلباً راقداً في الشمس يود أن يمسك عصا ويطرده!
وفي سردية أخرى تختلق قاصة فلسطينية «العم توم» الفلسطيني الخانع الذي يتفجع على موت مستعمر «إسرائيلي» على يد فلسطيني مقاوم. هذه السردية الأخيرة هي الأكثر شيوعاً الآن، لأننا نجدها تتردد ويَمْثلُ صداها في حكاية مصورة (غرافيكية) يأتي بها فلسطيني مولود في إسبانيا بالتعاون مع أحد الفرنسيين لتقص على أطفالنا، ليس حكاية استعمار وطنهم، بل حكاية فلسطيني يقتل المحتلون أحد أقربائه فيشعر بكراهية تجاه المحتلين، إلا أن شعوره هذا يتغير تغيراً تاماً حين يلتقي مصادفة ب «إسرائيلي» فقد ابنة له، فيتعاطف معه ويتفق الاثنان على الانضمام إلى حلقة تجمع وتؤاخي بين صاحب الأرض الذي سرقت أرضه، وتسرق يومياً، والسارق المستعمر «الإسرائيلي» بحجة إن كليهما فقد عزيزاً له!
على أن السردية الأغرب التي تتمدد على أرض فلسطين وتطمح إلى محو كلمات مثل «تحرير» و«مقاومة» و«فلسطين»، تلك التي تمسخ الحكاية الفلسطينية فتحولها إلى حكاية «نضال» ضد الفصل والتمييز العنصري! فتحل الحكاية/المسخ محل الحكاية الحقيقية، حكاية احتلال أرض وإبادة سكانها ومحوها عن الخريطة، وحكاية مقاومة فلسطينية عمرها أكثر من قرن ضد هذا الغزو الصهيوني. وكأن سكان هذه المستعمرة المسماة «إسرائيل» إذا عاملوا دعاة إنهاء الفصل والتمييز العنصريين، وهم لن يفعلوا بالطبع، معاملة بشر لا قطعانا من السائمة كما يفعلون، فستعود الأرض لأصحابها، ويكون كل شيء على ما يرام.
هذه مجرد أمثلة على سرديات شائعة، تشوه صورة فلسطين، فتتلاشى وراء عوالم بعضها ذاتي فج مسطح جعل من فلسطين كانتونات تتضاءل وتتآكل رغم هزالها في ضفة وقطاع، وبعضها لا يرى فلسطين إلا مجتمعاً منغلقاً مشلولا غارقاً في الماضي وليس مجتمعاً في حالة صيرورة.وترافق هذه السرديات برامج وحفلات ومقالات و«سحجات» لا مكان فيها للفلسطيني المشرد منذ ما يقارب 67 عاماً، ولا مكان فيها حتى للفلسطيني الذي يصادر بيته الآن في عكا ويافا واللد، أو الذي تهود قدسه ومدنه في الجليل.
أليس غريباً أن يكون الشعب الفلسطيني هو مبتكر شخصية الفدائي الواقعية في الزمن العربي الراهن، ثم لا يستطيع مثقفوه رفع هذه الشخصية إلى مستوى سردية رفيعة؟ ونجد غالبيتهم الآن تحاول التنكر حتى لكلمات «فدائي» و«مقاوم» و«لاجئ»، وتلغي صور عكا ويافا وحيفا من معارضها، بل ويمضي بعضهم من أصحاب سردية الفصل العنصري إلى تقديم الفلسطيني في صورة «عم توم» آخر خانع للعبودية يجلس بجوار ذلك الذي اخترعته الأمريكية «هاريت بيتشر ستو» عند بوابة كوخه ماداً يده طالباً إحسان المحسنين.
(٣)
الغرانيق والأغربة، وصورة «علاء الدين» البليد، الذي لا يجد ما يطلبه من المارد الظريف بعد أن يخرج إليه من مصباحه غير الطعام والثراء والقصور الفارهة، على خلاف البطل الغربي «فاوست» الذي وصلت به الحال إلى أن يعده بالتنازل له عن روحهِ إن منحه سلطة المعرفة، والقدرة على رؤية ماضي البشرية ومستقبلها، ليست هي وحدها ما تحمله الثقافات الغربية التي تخترع أبطالاً من العدم أو الدخان أو من شظايا كواكب منفجرة، وتملأ بها مجلاتنا وشاشاتنا ومخيلات أطفالنا وحلقات نقاشنا، بل تحمل أيضاً وجهة نظر ورؤية إلى العالم، ونحن جزء من هذا العالم، بل وكنا وما زلنا محوراً من محاور رؤيتها وتركيزها منذ زمن بعيد، وهدفاً للعرض على مسارحها، نحن والشرق كله، تارة في صورة بداة همج يشوون الناس كما يشوى الكباب على السفود، وتارة في صورة وحوش تسير بلا رؤوس، أو تنبت لها عيون في صدورها، فضلاً عن ملاحقة قادتنا الدينيين والفكريين والمخترعين إلى العالم الآخر وزجهم في جهنم، معرضين لأبشع أنواع التعذيب بأدوات تخيلتها أوروبا واخترعتها في قرونها المظلمة، ولكن هذه المسارح، وإن امتلكت سلطة على أذهان فلاحي أوروبا الجهلة في تلك الأيام، وجندتهم لخوض حروب الفرنجة طوال قرنين على أمتنا، لم تكن تصل إلينا كما يحدث الآن في عصر التقانات ووسائل الاتصال الحديثة، ولهذا لم تمتلك سلطة علينا في الماضي.
وها نحن نراها تعود الآن على شكل سرديات، مثل سيد الخواتم، تهاجم فيها جيوش قادمة من أعماق خرافات أوروبا، قلاع الشرق المتهم بكل أنواع الشرور، فيرفع قائدها سيفه هاتفاً «دافعوا عن الغرب»! ويحدث هذا بعد خلطة عجيبة يتجند فيها الجن وقرويو الشايرات الانجليزية، وملوك قلاع القرون الوسطى، وسكان الجبال الموتى، ليواجهوا آكلي اللحوم الشرقيين.
أمام هذا أصبحنا بحاجة ماسة إلى سرديات مضادة، ليس ضد سرديات حضارة الرأسمالية المتوحشة فقط، بل ضد سرديات تأتينا من الداخل، وبلغة عربية.سرديات تخلق أبطالها الواقعيين، إذ إننا لسنا بحاجة إلى اختلاق، وتقدم الرواية العقلانية وليس روايات تحالف الجن والموتى والأحياء، فالسرديات كما يقول إدوارد سعيد تقع في قلب ما يقوله المستكشفون والروائيون عن مناطق العالم الأخرى الغريبة بالنسبة لهم، وتقع السرديات أيضاً في قلب حاجة الشعوب التي تعرضت للغزو إلى تأكيد هويتها ووجود تاريخها.إن معركة حضارة رأس المال تدور حول الأرض وثرواتها كما يصرح ولاتها وموظفوها بلا مواربة، وحين يصل الأمر إلى من يملك الأرض، ومن له الحق في استيطانها والعمل فيها، ومن يدير شؤونها، ومن يستعيدها، ومن يخطط لمستقبلها الآن، ينعكس كل هذا ويناقش في السرديات، وفي القلب منها.
________
* الخليج الثقافي