(ثقافات)
رحلةٌ في فُلكِ حافظ محفوظ ( نص وقراءة له)
بقلم: الهادي إسماعلي
نصّ القصيدة بقلم الشاعر: حافظ محفوظ
الفُلك
-ماذا تفعلُ عند الجبلِ النائم؟
-أصنَع فُلكا. هذي صارِيَةُ التجديفِ،
وهذي غرفةُ رُبّاني.
-أتَرى بَحرًا في الأنحاءِ؟
أتُبصِرُ مَوجًا يَعلو؟
لا شيءَ سِوى الصحراءْ
فأيّ ذهانٍ تشكو؟
-اليَمّ القادم يدنو،
وأكاد أشمّ روائحهُ، وأرى عاصفةً وبروقًا
وأرى ماءً يغرق في الماء.
-ليست عاصفةً تلكَ، وما ذاكَ بِماءْ
دَع فاكِهَةَ الرؤيا للكُهّان، وهاتِ يدَيكَ أدُلَّكَ
ذاك سرابٌ ظمآنُ ونحن على عطشٍ من زمَنٍ
وعلى كتفي ما يَكفي
فاصرِف نظَرًا عن هذا اللغوِ
اصرف كفَّك عن هذي الأخشابِ وهذا المِعول
وارفع عن زمنَيْنا ما رانَ على زمنَينا
-بل كُن معي
كن صاحبي ورفيقَ رحلتنا القريبةِ
كن دليلا ممكنًا للأرضِ
وامضِ الآنَ في أرجائها
اجمع سُلالات الحياةِ جميعها
اثنَين/ اثنَين، انطلق…
فالماءُ يوشِك أن يكون خِتامَها
لَولا … هتافٌ في الأعالي
هذه الفُلكُ الوحيدة للنجاة
وهذه الأولى في الصحراءِ
أعرف أنّها تمضي إلى غاياتها
فامضِ، السماءُ تئنّ تحت سمائها.
والأرضُ كالعنقاءِ تنهض من رُكامِ رمادِها.
مَن قدَّ هذا الحلمَ؟
آنِيَةُ الظنونِ تمايَلت
ودوارقي انشقّت لى آهاتها
والماءُ تحتَ وفوقَ عيني…
كلّ ما حولي منابعُ،
كلُّ ما حولي عيونٌ فتحت أجفانَها
سيروا إليَّ أحِبَّتي
لا وقتَ، فالغَيماتُ مِن زمَنٍ تدقّ زمانها
لا وقتَ فالأمطارُ من زمنٍ…
وصاحِبَتي وأبنائي وذو القربى، رفيقُ صباي
كيف أرُدُّهم؟
وأخي وأصحابي
أهذا الظلُّ مَحضُ فكاهةٍ
والشمسُ هل نامَت إلى حينٍ
وهاتيكَ البيوتُ وريحُها
اليومُ أقصرُ مِن هبوبِ نُسَيْمَةٍ
لا وقتَ
كيف أردّهم؟
ما لي أرى ما لا يُرى وأصيح في أهلي
إلى فُلكي تسيرُ الأرضُ
ما لي أقتفي آثارَها
وأجِدّ في طلب الحياة إلى الحياة
وأرسم الموتى على أطلالها؟
وحدي أدلّ الطيرَ
كي أُبقِيَ على لون الصباح
أدلّ أجنحةَ الفراشةِ
كي يكونَ ربيعُها
وأدلّ ما يأتي إلى ما كانَ في حلمي مراكبَها
لأكمل رسمَها
الآن يأتي آخرُ الأحياء أسمع خطوَهم
الآن أنشر بعضَ أشرعتي
وأمدّ مِجدافي إلى حلقاته
الآن أسمع خفقةَ الأكوانِ
أسمع صيحةَ الغَيبِ الأخيرةَ في المدى
وحدي صنعتُ سفينتي
وحدي أغلّق بابَها.
الآن نمضي
لم تكن للفُلكِ أجنحةٌ
ولكنّا قطفنا أنجُمًا كانت على أغصانِها
وكواكبًا سودًا تكاسل نورُها
ورنا إلينا مرفَأٌ لم يبتدع أضواءَه
ودَنَت سواحلُ لم تكن يومًا سواحلَ
لم نَكن في البحر
كان البحرُ، كلُّ البحر، أرضُ البحرِ، ريحُ البحر، صوتُ البحر، بحرُ البحرِ
بين عيوننا
الآنَ صمتٌ كلّه صمتٌ يَدبُّ ملاطفًا أطيارَنا
وسِباعَنا…
الآنَ تتّكئ السفينُ على الرمال وتُفتَح الأبوابُ
مَرحى أيّها العصفورُ
أيّتها الحمامةُ، أيّها الديكُ الجليلُ وأيّها اليُعسوبُ
مرحى أيّها الأسدُ الكريمُ، وأنتِ أيّتها الغزالةُ
أيّها الجملُ الرشيدُ لك التحيّةُ
رَفرِفي يا زوجةَ البطريقِ… هيّا رفرفي
أو فاقعُدي في الأرض شامخةً كسَيّدةٍ
إليكِ تسيرُ قِطعانُ الذكورِ
وأنتَ يا طاووسُ، كن مُتَبَختِرًا ما عِشتَ
واقعُد مثلها في الأرض مغتربًا
فلا نِدٌّ لمثلكَ في الطيور
الآنَ يُهدينا المكانُ زمانَه
الآنَ يُهدينا الزمانُ مكانَه
فَلتَرقُصي يا حلوتي، فَلترقصي
ولْنَبتَدِع للأرض أغنيةً تليقُ بمائها
(حافظ محفوظ: لا ينام البحرُ إلاّ وحيدا، ص ص 69 78 – الأطلسيّة للنشر، 2016)
الفُلك بين النص التراثيّ والنص الشعريّ:
الفُلك في القصيدة عنوانُها وفضاؤها المكانيّ وغايةُ الحجاج بين الأصوات المحتدمة في بواطنها. وهو إسم جنسٍ معرفةٌ لِسَفينٍ ضخم يركب موجَ البحر العاتي. واللفظة تناهبَتها النصوصُ التراثيّة المتعدّدة مرتبطةً بأسطورة الطوفان الّذي أغرقَ الأرضَ في بداية الخليقة. واتّخذت هذه اللفظةُ تفسيراتٍ عديدةً. ففي كتاب “أسطورةُ ميلادِ البطلِ” (Mythe de la naissance du héros) يعقد عالم النفس “أوطو رانك” (Otto Rank) الصلةَ بين فلكِ نوحٍ وسلَّةِ الرضيعِ موسى وقد ورد ذكرُهما في النصّ التوراتيّ بنفس التسمية “تبت”. وقد استندت مقاربَتُه إلى هذا التطابقِ اللفظيّ قصد تأسيس تطابق دلاليّ رمزيّ يدور حول النجاة والميلاد الجديد للإنسانيّة(1).
ويقول أرثور سعدييف وتوفيق سلّوم “لقد غرق الناسُ في بحر الجهل الّذي يغمر وجهَ الأرض منذ الطوفان عندما تجسّدت كلمةُ اللّـه في ظاهر الشريعة، لكنّ هلاكهم ليس مُحَتَّما، فهناك سفينةُ نوحٍ، سفينةُ المعرفة الّتي تحمل النجاةَ لِمَن يُحصّلها على يدَي المعلّمِ”(2). ويقول الفخرُ الرازي في سياق تفسيره لقوله تعالى “وقالَ اركَبوا فيها باسمِ اللّـه مَجراها ومُرساها” “واعلم أنّ الإنسانَ إذا تفكّر في طلَبِ معرفةِ اللّـهِ تعالى بالدليلِ والحُجَّة، فكأنّه جلس في سفينة التفكّر والتدبّر، وأمواجُ الظلماتِ والضلالات قد علت تلكَ الجبالَ وارتفعت إلى مصاعد القلال (…) بسم اللّـه مجراها ومُرساها حتّى تصل سفينةُ فِكرِه إلى ساحل النجاة وتتخلّص من أمواج الضلالات”(3).
فالفُلك إذن رمزٌ للخلاص بالمعرفة والفكرِ المتعقّل السويّ واقتفاء آثار الفيلسوفِ الحجّةِ والدليلِ والبرهانِ. وفي هذا إلماع من طرَفٍ خفيّ إلى دور الشاعر العارف الرائي في نقل جمهوره عبر اللغةِ الشعرِ إلى حالةٍ من المعرفة المنشودة. فالفُلك إذن هو علامةُ الفعل الملحميّ في مغامرة العقل الّتي يترسّم الشاعرُ مراحلَها شعرًا. هو أثرُ البطل في مغامرة النجاة، وأثر الشاعر في الشعر يجعل منه فُلكا واصلا بين اليابسة الساكنة المتكلّسة الفاتنة بوعودها الزائفة المحدودة أفقًا وزمانًا من جهة، وحركيّة الماء وقوّته وهديره المندفع وقدرته على البعث وانفتاحه على اللامحدود واللامتناهي من جهة أخرى.
فضلا عن أنّ هذه التفسيرات تنبّهنا إلى أنّ الفلكَ واسطةٌ بين متقابلاتٍ شتّى، الضلالة والهدى، والشكّ واليقين، والشقاء والسعادة، والموت والولادة، ومن شأن هذه الثنائيّات الّتي شُحِنَ بها العنوانُ أن تمهّد إلى الصراع الدائر في رَحِم القصيدة بين الكون والعدم، وأن تُكسِبَها الروح الدراميّة المميّزة.
بين الفُلك وسياقه:
إنّ المتأمّل في هذه القصيدة المطوَّلَة لا يسعه إلاّ إرجاع عتباتِها وأحوالِها وأقوالِها وأعمالِها ومخلوقاتها وخطابها، إلى أسطورةِ الطوفانِ دون أدنى التباسٍ. إذ لا جدالَ أنّ الأساطيرَ والحكايات الدينيّة المتعلّقةَ بالطوفانِ ماثلةٌ في ذهنِ الشاعر ووجدانه وهو يبني فُلكَه “الشعريَّ”، متأمّلاً واقعَه متفكّرا في قضايا الخلاص والمصير والأفق المنتظَر، تحت ضغط طوفانٍ جارفٍ يلوح في أفقٍ مُكفَهِرٍّ لا تراه العيونُ المطمئنّةُ، في الوقت الّذي يهتدي إليه المثقّف القَلِق والشاعر الرائي الّذي يتلقّى إشاراتٍ ربّانيّةً وإلماعاتٍ لم تتأتَّ عبر تاريخ الإنسانيّة الطويل، إلاّ إلى القِلَّةِ القليلة من الأنبياء والشعراء، خاصّةً وأنّ هذا النصّ قد كُتِبَ في منتصف العِقدِ الثاني من الألفيّة الثالثة، يعني في لحظةٍ اجتماعيّة وسياسيّة خانقة في تونس في سياقٍ ما بعد ثوريّ متوتّر لا يوحي بأملٍ مّا في تجاوز الأسلاك الشائكة الّتي صنعها الانقلابيّونَ والانتهازيّونَ والثورجيّون وحيتان المال والأعمال ومخابراتُ الأجانب الغُزاةِ القُساة، بغيةَ اعتصار قلوب الضعفاءِ والمعذَّبينَ والمهمَّشينَ واستنزافِ موارد وطنٍ أنهكَتهُ اللعبة السياسيّةُ القَذِرَةُ، فغرق في الكفرِ والعقوقِ والخطيئةِ. فكان الطوفانُ. وكان لزامًا بناءُ فلكٍ “شعريّ” محمّل برسائلِ النجاة لانتشالِ ما تبقّى من أملِ حياةٍ ثانيةٍ على أرض ممكنةٍ موعودةٍ.
لقد استقرأ حافظ محفوظ واقعَ تونس السياسيّ والاجتماعيّ الّذي تتقاذفه تداعياتُ زلزال الثورة، بحساسيّة عالية. فانتبه إلى المياه الطوفانيّة الّتي تغلي تحت سطحٍ غِرٍّ مطمئنٍّ مؤمن بالمنجزات الثوريّة قانع خانع، فسعى إلى إخراج الفلكِ من قاعه الأسطوريّ إلى هذا السياق النفسيّ والحضاريّ العامّ للتعبير عن حيرة بواطن الذات التائهة في شباك لعبة سياسيّة مآلُها الدمارُ. لقد وجد الطوفان مشروعيّته في العالم الخارجيّ والعالم الداخليّ للشاعر على حدّ السواء. فانكتَب الطوفانُ وانكتَبَ الفُلكُ.
نفذ الشاعرُ إلى البحر الهائج في أعمق أعماق الإنسانيّة للتعبير عن فَورَة غضب المثقّف التونسيّ عمّا يبدو في الظاهر للنفوس الوثوقيّة بحرا هادئا ونصرا خالدا واستحقاقا تامّا. ولارَيبَ أنّ ذاكرة الطوفان القديم قد تفاعلت مع نفسٍ وقفَت بعمق وأسًى على ديستوبيا واقع مرير وأضناها وعيُها المبكّر بالطوفان القادم، واقتضاها هاجسُ التغيير بكلمةٍ هي بمثابة “الفُلكِ الشعريّ” المُنجي. فكتبت نصّا جسَّرَ الفجوةَ بين الماضي الأسطوريّ والسياق الثوريّ، بين الأسطورة وفكرةِ بؤسِ الثورةِ، من الديستوبيا في اتّجاه اليوتوبيا، لتخرج “قصيدةُ الفكرةِ” مغتسلة بماء الطوفان، عنيفةً عنفَه، خفيفةً خِفَّةَ الفُلك يعلو جبالَ الأمواج الشاهقات، فينتصر ولا ينكسر.
بين الفُلك ورُبّانه:
إنّ ما يجعل من “فُلكِ حافظ محفوظ” استثناءً في خضمّ المدِّ الحداثيّ الشعريّ المستفيدِ من الأساطير والحكايات الدينيّة، بلهَ أسطورة الطوفان، أنّه لم يتناول الطوفانَ تناولاً مألوفا. إذ من عادة الشعراء استدعاءُ قسماتٍ أسطوريّة إلى “مسرح الحياةِ” في نصوصهم، مخترقينَ قيودَ الزمان في تفاعل خلاّق بين التراث الأسطوريّ والراهن المعيش. وليس أدلّ على ذلك من نصّ أمل دنقل الأشهر “مقابلةٌ خاصّة مع ابن نوحٍ”(4) الّذي غمر طوفانُه شوارعَ المدينة ودرجاتِ البيوتِ والحوانيت ومبنى البريد والبنوك… فضلا عن رائعة “سركون بولص” الّذي اشتغل كثيرا على تيمة الطوفان “شهود على الضفاف”(5) تمثيلا لا حصرًا، عندما جاء الطوفان هادرا يحمل أبوابَ البيوت وصندوقَ حارسٍ تعلوه رايةٌ ودولابَ عروس له ثلاث مرايا.
إلاّ أنّ حافظ محفوظ قد عفّى عن حضور الواقع وتفاصيل الحياة اليوميّة ومكوّنات الحياة المدنيّة الّتي تجعل مِن نصّه لقاءً طريفًا بين حَيّز التراث الغنيّ بالرمز وحَيّز الواقع الّذي يصبو إلى التعبير عن تصدّعاته، بشكل متداخل متفاعل. بل ركّب “مسرحيّة الطوفان” كما وردت في مظانّها التراثيّة على “مسرحيّة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ” حتّى غطّت الأولى الثانيةَ، تركيبا استدعته حاجةٌ فنّيةٌ وفكريّة في آن واحد، قوامهُ القناعُ يوهمُ بأجواء أسطوريّة قديمة والحالُ أنّه يحدّثك من وراء حجابٍ، عن الطوفان المؤذن بخراب الراهن، يكفي فضلُ الأناةِ لإسقاط القناع فتتجلّى لكَ نفسكَ المعنّاةُ مضطربَةً في مقامع من حديد صنعها جنونُ الساسةِ الأرعنُ، وتتهافت وجوه الماضي ليستحيل وجهُ الحاضر البشع عاريًا جليَّ الملامح، ويلوح عقابُ الطوفان وهو يغمر كلَّ شيء ويُغرق كلَّ شيءٍ عقابًا قديما متجدّدا، ويتراءى لكَ فُلكُ النجاة مبشّرا بعوالم ممكنة، تنقصه الإرادة الحقيقيّة ويُعوِزُه الإيمانُ بدعوة الصادقين المنحازين لحبّ هذا الوطن.
لم يُشِر محفوظ في هذا النصّ غمزا أو جهرا إلى خصوصيّات الواقع الّذي نبتت فيه وتولّدَت عنه القصيدةُ. ولو أنّه انتهج نفسَ الطريق، على أهمّيتها وقدر إبداعيّة أصحابها العالي، لكان نسخةً منمّطةً للسلَف، ولغابَ فضلُه في درب التحديث الشعريّ. فهو لم يوظّف قسماتٍ من التراث المتعلّق بالطوفان والفُلك، باستخدام أدوات التطويع وإعادة التشكيل المتنوّعة، مثلما صنع دُنقل وسركون، وإنّما حلّ حافظ محفوظ حلولَ الشاهدِ على الطوفانِ الآتي وأقام بحضرتِه وعايشَ رُعبَ قدومه وصعوبةَ إقناع الآخرين بنبوءته ومعاناةَ بناء الفلك واستجلاب المخلوقات إليه والعبور بها إلى اليوتوبيا. فَميزَةُ محفوظ إذن أنّه قد كتب الطوفان الّذي يعيش في دواخله وصنع أسطورتَه الخاصّةَ الّتي تضاهي أسطورة الطوفان في التراث. فهو شاعر يكتب بعيْنَي نسرٍ خرافيّ ينقضّ انقضاضا على مخزونه الثقافيّ التراثيّ الحيّ في ذهنه ووجدانه ليتعامل معه بضراوة حسّية استثنائيّة تُحرّره من إسار الأسطورة الأولى وتُحوّله إلى كاتب أساطير قادم من الماضي البعيد وإنْ لاح شخصُه بيننا، وتُحوّل نصّهُ تقليعةً جديدةً مقارنةً بنصوص الطوفان المعروفة.
فخصوصيّةُ حافظ محفوظ أنّه يدعونا في هذا النصّ دون مقدّمات إلى مناخٍ أسطوريّ غابر، بمنأى عن أدنى قرينة لفظيّة من شأنها أن تجذّرَ نصَّه في واقع حضاريّ مّا، وفي المقابل يترك للقارئ مجالاً للتدبّر والتفكّر بغيةَ تبيّن علاقة هذا المناخ الأسطوريّ بالواقع وأزماته وقضاياه. ويوغل بنا الشاعرُ في زمنٍ بعيد، يقتلعنا من طمأنينَتِنا في “الآن” والـ”هنا”، يعيد كتابةَ أسطورة الطوفان بطريقته الخاصّة النابعة من رؤيةٍ عالِـمة وبصَر حديدٍ، ليَستَحثَّ القارئَ على قراءة أسطورة الطوفان قراءةً جديدةً قصد مراجعةِ قَناعاته السياسيّة وأحلامه الطوباويّة.
دون الوقوع في مطبّ النمطيّة والعادةِ ودونَ أدنى وشيجةٍ لفظيّةٍ مع هذا العالم الّذي نحياه، يتقمّص الشاعرُ وظيفةَ الخلق ليكتب أمثولةً تجري على ظاهر تليد وباطن حيّ مُتَّقدٍ بمشكلات الراهن،أمثولةً تقصّ تفاصيل جديدة عن الطوفانِ تلتحق بالنصوص المرجعيّة القديمة، تناطحها تنافسها ولا تستمني خصائصَها ولا تستجدي مكوّناتها. وهنا تتجوهَر حداثةُ الرؤيا الشعريّة عند محفوظ.
وحسبُنا أنّ حداثةَ هذا النصّ الشعريّ أيضا لا تكمن في مجرّد استدعاء قصّة الطوفان على أساس التحاور والتفاعل معها، فهذا أمرٌ مألوفٌ كرّسَتهُ الأدبيّات الشعريّة الحديثةُ منذ ما يزيد عن نصف قرنٍ بأشكال متنوّعة وقدرات متفاوتة. وإنّما تتمثّل بالأساس، في قدرة محفوظ على بلوَرَة رؤيا خاصّة به عبر مغامرةٍ لا يتقحّمُ مِحَنَها إلاّ الشاعرُ باتّجاه الماضي وما وراء الماضي لفَهم الحاضر والتحريض على فهم ما وراء الحاضر بُغيَةَ تشييد المستقبل، مغامرَة في أعماق الشعر والذاكرة والنفسِ، تصير بمقتضاها أسطورَةُ الفُلكِ والطوفان المُغرِقِ رمزًا تتمرأى فيه وعبرَه رؤيا محفوظ، ويصير بطلُ الطوفان المتسربل بالغموض شكلا حيًّا ملموسًا ومعنًى نابضًا بالحياةِ يُكثّف من مَقروئيّة النصّ ويحفر بعيدا في أبعاده.
الفُلك بين البطل الأسطوريّ والبطل الشعريّ:
“قوّض البيتَ وابنِ لكَ فلكًا
تخلَّ عن مالِكَ وانشُد النجاةَ
انبذ الملكَ وخلّص حياتَكَ
واحمل في السفينةِ بذرَةَ كلِّ ذي حياةٍ”
ملحمة جلجامش، 150 151
من المحاورة الّتي رواها “أوتنابشتم” مع جلجامش
لمّا كشف له الإله “إيا” قرارَ الآلهة بالطوفان
وعسى قارئ هذه القصيدة أن يتملّكه شيءٌ من التهيّب وهو يُزمع ركوبَ “فُلكِ حافظ محفوظ”. ومرَدُّ ذلك سَعَةُ اطّلاع الشاعر وموسوعيّتُه وعمق معرفته بالأساطير والخرافات والحكايات الدينيّة. وأدنى دليلٍ على ذلك العفاءُ عن ذكرِ “نوح” الّذي تعلّق اسمُهُ بالطوفان في المصادر الدينيّة السماويّة أساسًا. وهو تغييبٌ مقصودٌ يشي بأنّ “رُبّانَ الفُلكِ” لا يركب “المياهَ الإقليميّةَ القرآنيّةَ أو التوراتيّة أو النصرانيّة” فحسبُ. وإنّما يجوز بنا أغوارَ نصوص أخرى تليدة لم تنسب مغامرةَ الفلكِ إلى “نوح”، من قبيل الأساطير والخرافات والقصص القديمة الّتي حدّثتنا عن الطوفان عند سُكّان الجُزُر الشرقيّة في أوقيانوسيا اليوم، وعند اليابانيّين والصينيّينَ والبورميّينَ والهنود والهنود الحمر وبلاد النهرين، فضلا عن الطوفان في الملاحم الّتي اشتملت عليها المدوَّنات العراقيّةُ: الطوفان السومَريّ والطوفان البابليّ الّذي عبّرت عنه ملحمةُ قلقامش وطوفانُ “أتراخاسيس” والطوفان في روايةِ “بيروسيس” باللغة اليونانيّة، إلى نهاية ما في هذا البابِ من النصوص الروافد(6).
ويكفي الاطّلاعُ على هذه الروافد الثقافيّة المتعلّقة بالطوفان، مع تحييد الطوفان التوراتيّ والطوفان النصرانيّ والطوفان القرآنيّ، حتّى نجلُوَ غياب لفظة “نوح” عن المغامرة البطوليّة في قصص الطوفان المتنوّعة. فالبطل في النُسَخ المدوَّنَة بالسومَريّة يسمّى “زيوسدرا” (Ziusudra) وبطلُ قصّة الطوفان في ملحمة قلقامش هو “أوتنابشتم” (Utnapishtim) وقد اصطلح المختصّونَ في المسماريّات على تسمية قصّة الطوفان البابليّة نسبةً إلى بطلها “أتراخاسيس” (Atrahasis) وحدّث المؤرّخ البابليّ “بيروسيس” أنّ قصّة الطوفان من بطولةِ الملك أكسيسوثروس الملك العاشر الّذي حكم بابل.
ويمكن أن نستفيد من ذلك أنّ بطلَ الطوفان ليس إلاّ قناعًا توارثَتهُ الحضاراتُ والأديانُ يستوعبه الإنسانُ في كلّ عصرٍ ويتمثّله ويحوّر فيه تحت ضغط حاجتِه الملحّة إلى تفسير العالم، فمن الأصول السومريّة القديمة سافر البطلُ الطوفانيُّ إلى البابليّينَ فالكنعانيّين فالعبرانيّين إلى أن اتّخذه المسلمون رمزا دينيّا. ومهما يكن من أمر هويّةِ بطلِ الطوفان فإنّ الشاعر حافظ محفوظ قد فطِنَ إلى ثراء هذه الشخصيّة الأسطوريّة والدينيّة وتقاطعِ الخطابات الدائرة في فلَكها، فنزع إلى اتّخاذها قناعا فنّيا طريفا في نصّ شعريّ يروم تقديم بدائل لوضع جحيميّ لا يُطاق، وإجابات على أسئلة قاسية فرضها وعيٌ متدنّ ووضع مهترئ.
ولِلقِناع في هذا النصّ ميزةٌ، إذ لا يكاد القارئ يميّز إنْ كان الشاعر يتحدّث في القصيدة بلسان البطلِ الطوفانيّ أم هو البطل الّذي يتحدّث بلسان الشاعر. لقد خلق حافظ محفوظ نوعًا من الاندماج أو التجاذب أو تبادل الأدوار بينهما، بشكلٍ أقصى طرَفَيْ اللعبة الاستعاريّة وجعل القارئ وجها إلى وجهٍ أمام خلقٍ آخر ثالث جديد مستقلّ عن كلَيهما يُفضي بشكل موضوعيّ بما في أعماق الشاعر.
ونيّةُ الشاعر من استحداث هذا الصوتِ الثالث في منطقةٍ وسطى بين الصوت القادم من التراث وصوت الشاعر نفسِهِ، نِيَّة مُزدوَجة: الاستفادةُ من المحمولات الشعوريّة والفكريّة الراسخة في اللاوعي الجمعيّ لبطلِ الطوفانِ، دون استنساخ ممجوج لملامح البطل أو تكرار ركيك باهتٍ لتفاصيل القصّة، من جهة، والإفضاء بقضايا الشاعر في واقعه ووجوده مع الحرص على التجرّد من الذاتيّة الانفعاليّة والعواطف المجرّدة الّتي جرفت عددا غير قليل من الشعراء إلى المباشرتيّة الفجّة، فضلا عن كبح الغنائيّة المفرطة وخفض مردود الدفق الانفعاليّ الذاتيّ، من جهة أخرى.
وُكدُ الشاعر أن يُجَسّرَ هذا “البطلُ الشعريّ” صاحبُ الصوتِ الثالثِ ضِفَّتَيْ الذاتيّ والموضوعيّ، وأن يتخلّص شيئا فشيئا من وجهه الحسيّ إلى آخر رمزيّ، وأن تنساب اللغةُ الشعرُ بمقدارٍ بين غنائيّة خافتة وحركيّةٍ دراميّة نابضة، وأن يرتقي القارئ من مجرّد متقبّل سلبيّ لقصّة مألوفة وسرديّة معروفة إلى منتج للمعنى عبر تحديد الانزياحات الّتي أجراها الشاعرُ عن الأصل وأبعادها، وتفكيك الرمز المنبثق عنها والإقبال على المعاني الثواني.
بناء “الفُلك الشعريّ”:
إنّ إدمانَ قراءة نصوص الطوفان في مصادرها الدينيّة والأسطوريّة المتنوّعة يفضي بنا إلى نتيجة مؤدّاها أنّ هذه النصوصَ تشترك في بنيةٍ موّحدة رغم بعض الفُوَيرِقات الشكليّة، إذ تأتلف في مراحل سرديّة قصصيّة يشدّها خيط منطقيّ ناظمٌ، يحسُن اختزالُها بكلّ تجريد في: الانطلاق من وضعيّة أولى يمكن أن نطلق عليها الديستوبيا وتتمثّل في استشراء الفساد على الأرض بشكل يحتّمَ تدخّلا ربّانيا يأمر بطلَ النصّ عبر حلمٍ أو نُبوءَة أو رؤيا، ببناء فُلك ينتشل العبادَ من خطر عقوبَةِ إلهيّة تتمثّل في طوفانٍ مُدَمِّر، ويعقب ذلك استجابةٌ فَبِناءٌ بجهد الساعد يصحبه جهدٌ لغويّ معرفيّ لإقناع الناس بركوب الفلك حذرَ الطوفان الداهم. وعسى هذا الاستنفارُ أن قوبِلَ بعصيان شبه مطلق. وكان الطوفانُ وصدقت الرؤيا، ليمضِي البطلُ في فُلكه مخفورا بقلّةٍ من المصدّقين المخلصين ومعه من كلّ زوجَين اثنَين ليرسُوَ الفلكُ في النهاية على أرض اليوتوبيا الّتي يستأنف معها الوجود البشريّ رحلة جديدةً.
ويبدو أنّ حافظ محفوظ قد استفادَ أيَّما استفادةٍ من الهيكل العامّ الّذي تُجمِع عليه قصصُ الطوفان، على اختلاف مصادرها. فقد منحته القصّةُ قدرةً على التصميم والبناء، ووجّهَت مادّتَه الشعريّةَ توجيها مكشوفًا مع شيءٍ من الحذف والتحوير والإضافة. فقد استَوحى من مراحل القصّ التراثيّ مراحلَ نصّه الشعريّ. وحينئذٍ، منَ اليسير تبَيُّنُ نموِّ بناء القصيدة بنمُوّ شخصيّةِ “بطلِ الطوفانِ” وتطوّرها من خلال حوارها المتعدّد وصراعها المكَثَّفِ، مع مراعاة الانزياحات الشعريّة المتعدّدة الّتي أجراها الشاعر لتخرج قصيدتُه/أسطورَتُه ببصمته الخاصّة المميّزة.
إذ لا مِراء أنّ هذا النصَّ قد كُتِب بوعيٍ دراميٍّ متطوّر أسقط وضْعَ البداية الّذي تواضعت عليه كلّ النصوص التراثيّة، عبر السكوت عن استعراض دواعي بناء الفلك، لمنح القارئ فرصةً للتأمّل في المشهد السياسيّ والاجتماعيّ الجحيميّ وتشريكه لإيجاد مبرّرات التفكير في بناء فُلكِ النجاةِ، تلقائيّا عبر مغامرة الكشف والإبحار في المسكوت عنه من أسباب الفساد الّذي يُغرق البلادَ. وبهذا الشغور الدالّ الموحي يَخرج الشاعر عن المحاكاة السطحيّة إلى محاورة الموروث التراثيّ حوارا حيّا عميقا يُجدّد التراثَ ويزيده نضارةً فيما يهدم جزءًا أساسيّا منه، ويضيف إليه روحا جديدةً وفق تأويليّة خاصّة للطوفان الّذي يسكن بواطنَ الشاعر.
وفي المقابل هجم الشاعر مباشرةً على مرحلة التحريض على ركوبِ الفُلك وارتيادِ الموج العالي خشيةَ عقوبة الطوفان، وبذلك زرَع بذورَ الصراع منذ اللوحة الأولى الّتي اشتملت على حوار ذي طاقةٍ حجاجيّة عالية، بين طرفَين غير محدَّدَين، مداره سعيُ “بطل الطوفان” إلى الدعوة إلى المغامرة بالإبحار في الفُلكِ من الطوفان القادم حذَرَ الموت والفناء. في الوقت الّذي يُصرّ صوتٌ آخر هو انشطارٌ للبطل ونقيضٌ له على الصدّ، يصرفُه عن الرحيل ويسخر من مزاعم طوفان آتٍ ويُكذّب رؤياه. وسرعان ما انسحب الصوتُ الساخرُ ليفسح المجالَ الشعريّ لصوت الشخصيّة المحوريّة يستأثر بالخطاب وينكفئ على ذاته يحاورها في شكل ما يُعرَف في المسرح بالمونولوغ (monologue)، يستعرض أسرارَ هذا الحلم الّذي يبشّر بالطوفان متسائلا عن مصير الأهل، ثمّ يصّعد النفَسُ الدراميّ في لوحةٍ أخيرةٍ عبر المرور من التأهّب إلى الرحيل إلى الـمُضِيِّ الفعليّ في الرحلة فالرُسُوّ على الرمال وتفتيح أبواب الفلك، ومحاورة المخلوقات الّتي تنزل من الفلك لتعمير الكون البديل.
المقطع الأوّل: مسرحَة الدعوة والصدّ
“ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأٌ من قومه
سَخروا منه قالَ إن تسخَروا منّا فإنّا نسخر
منكم كما تسخرون” (سورة هود، الآية 38)
ينفتح النصُّ على محاورةٍ بين صوتَين مُترَعَين بالغموض والإبهام، كلاهما يحتكرُ ضميرَ المتكلّم المفرد فلا تكاد تميّز حيّزَ تلفُّظِ كلٍّ منهما، ولا اسمَ ولا عنوان ولا ملامح. فكأنّنا بإزاء مشهد مسرحيّ على ركح مظلم الأرجاء ممعنٍ في التعتيم، ولا أمارةَ تدلّ على زمان من الأزمنة أو وطنٍ من الأوطان. ولا هويّةَ للمتخاطبَين سوى الأفكار المتعارضة الّتي يُلبسانها دثارَ الكلمات، وسط حياد الشاعر الّذي يزعم نقلَ المحاورَة بتجرّد من سلطة الانحياز أو حرارة الانفعال. هي محاورةٌ بين صوت “البطل الطوفانيّ” المستمسك بأطروحة ارتياد الفُلك جنّد لها خطةً حجاجيّة مدروسة للإقناع، وصوت آخر انشطارٌ له مستهزئ معارض له يُثنيه عن سبيله منوّعًا أدوات الإحباط. ومن شأن هذه الخصائص العامّة لسياق المحاورة أن تُضفي عُمقًا رمزيّا ذهنيًّا على النصّ وتدعم إنماءَه إلى “قصيدة الفكرة”، وعسى إرساءُ الشعر على أرضيّة المسرح أن يكشف عن اختيار جماليّ يؤسّس إلى الصراع والتعارض والتجاذب باتّجاه التوتّر الدراميّ الأقصى.
فليس بغريبٍ إذن أن ينهض هذا المقطع الأوّل على السؤال ورَدَ متدرّجا مكثّفًا، ليغمر القارئ بطوفانٍ من القلق بحثا عن معنًى مّا في عالم لم يعد فيه معنًى. فقد انطلقت شرارَتُه بسؤال مدارُه الفعلُ “ماذا تفعل” مقترنا بالمكان “عند الجبل النائم؟” ما من شأنه أن يُنمي هذا النصَّ إلى الملاحم الكبرى الّتي تقوم على فعل ملحميّ أساسيّ يُنجزه بطلٌ مغامر. ومقتضى القول (Le Présupposé) أنّ السؤالَ يخصّ هويّةَ الفعلِ المنجَز في إطارٍ مكانيّ متناقضٍ مع الفعل نفسِه دلّت على ذلك صفةُ النوم المقترنة بالجبل وما يمكن أن يوحي به من تقابل بين سمات الارتفاع والسموّ والشموخ الّتي يضجّ بها المدلول المألوف للجبل، في مقابل صفة مُخَيّبَةٍ لانتظارات القارئ، وهي صفةُ النوم الّتي جرّدَته من هذه السمات وصوّرَته وهو ينخره الخمولُ والكسل وتُعميه غفلةُ أهله. ما من شأنه أن يصبغ النصّ بدلالة تثويريّة تحرّض على الفعل في سياق حضاريّ انتبذ فيه التونسيّون ركنًا قَصِيًّا ذاهلينَ عن قيمة هذا الجبل الّذي يُدعى وطنًا وواجباتهم نحوه ومسؤوليّتَهم تجاهَه.
وقديما “بينما إبراهيمُ يبني البيتَ إذ ناداه جبلُ أبي قبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعةً، فَخُذها، فلمّا دنا منه انشقَّ الجبلُ وخرج منه الحجرُ الأسودُ … ولمّا صعد موسى الجبل لمناجاة ربّه صار عقيقا”(7) ومن ثمّة يتجلّى دورُ الشاعر المثقّف في إيقاد عزيمة شعبٍ يائس متخاذل بغيةَ دفعه إلى استخراج المعدن النفيس المودَع في دواخله والجوهر المقدَّس الثمين لهذا الوطن الشامخ.
وسرعان ما ينسحب الأسلوب الإنشائيُّ لفائدة الإخبار الّذي لم يخلُ من نفَس شعريّ ترجمَه الإيجازُ والتكثيفُ في قوله “أصنع فلكا” والترديدُ والتوازي التركيبيّ في قوله “هذي صارية التجديف/ وهذي غرفةُ رُبّاني” وهنا نجلو أنّ شفاءَ غُلَّةِ السؤالِ عبر تحديد هويّة الفعل: فعلِ صناعةِ الفلكِ، والإخبار عنه بالإجمال والتفصيل وتعيينه باسم الإشارة، لم يُعدِمهُ شِعرِيَّتَه ولم يَغبِنهُ روحَه الشعريّةَ ومترتّباتِه الانفعاليّة النفسيّة في دواخل بطل الطوفان عبر الطابع الاحتفاليّ الناشئ عن التكثيف الموسيقيّ المرافق للفعل الملحميّ طلبا للإبحار والنجاة.
ولئن مثّل السؤالُ مطيّةً للاستخبار الحقيقيّ، فإنّه سرعان ما تزيّى بثوب المكر والمخاتلة عبر تتالي الاستفهامات الإنكاريّة “أترى بحرا في الأنحاء؟/ أتبصر موجًا يعلو؟/ فأيّ ذهان تشكو؟” وهي أسئلةٌ مقصودةٌ لأعمال لغويّة (Actes de language) تدور على الإنكار والتعجّب وبيان ضعفِ حيلةِ صاحبِ الفلكِ. ويتعمّق الاستهزاء باستعمال النفي والحصر معًا “لا شيءَ سوى الصحراء”. فيبدو إذن أنّه فضلا عن الوظيفة الفنّية الجماليّة المتأتّية من تواتر تركيب الاستفهام والمحافظة على جميع مكوّناته التركيبيّة الّتي تثري إيقاعَ الخطاب، تبرز الوظيفةُ الدراميّة الّتي ينهض بها تصاعُدُ النبر التدريجيّ للأسئلة وتوسّعُ مساحتها الكمّيّة، وما يترتّب عنه من تصعيد للحركة الدراميّة باتّجاه الذروة.
ولا يعزب عن الناظر في مستهَلّ القصيدة هذا البُعدُ الخلافيُّ بين الصوتَين المتحاورَين: طرفُهُ الأوّلُ صوتٌ هو لا رَيبَ قناعُ الشاعر، هو بطل الطوفان، هو ذلك الصوتُ الثالث المحايد الّذي فصلَه الشاعر عن أصله التراثيّ الأوّل وجرَّدَه عن ذاته في نفس الآن ليجعلَه أكثر تحرّرا وموضوعيّة في عرضِ الأفكار، يستشرف دُنُوَّ قدوم اليمّ من خلال مصدر حسّيّ استقبله بطلُ الطوفان بحاسّة الشمّ والبصر:
“وأكاد أشمّ روائحهُ، وأرى عاصفةً وبروقًا
وأرى ماءً يغرق في الماء”
وقد تميّز هذا الاستشعارُ الحسيُّ بروح جماليّة عبّر عنها انزياحُ الشاعر في تصدير الجملة بـ”أكاد” ليُكسب القولَ الشعريَّ شعريّةً نابعة من الترقّب والتوقّع والتوجّس وضيق المسافة بين الشكّ واليقين. وينشئ الشاعر مَرئِيَّهُ إنشاءً بحساسيّة استعاريّة مميّزة تكثّف من هدير الماء واندفاعه “أرى ماءً يغرق في الماء”، فتوغل اللغةُ الشعرُ في تهويل فعلِ الماء، بل في تعجيبه عبر صورة تتجاوز حدودَ النهى من شأنها أن تعمّق الطاقة التدميريّة للطوفان المهلك وترتقي بها إلى ذرى الملحميّة وتجسّد التدفّقَ التصاعديّ للنفَس الدراميّ لهذه الفجيعة المائيّة وتُخرجها بالتوازي، في إهابٍ شعريّ طريفٍ يلطّف من فعلِ الفجيعةِ ويجمّلها.
وفي المقابل يصّاعَدُ الموقف الدراميّ في النصّ من خلال الطرف الثاني للخلاف، بصوتٍ ضديد يمعن في الممانعة والمقاومة لأطروحةِ توقّي الطوفان والدعوة إلى ارتياد الفُلكِ، يدحضها ويستبعدها متسلّحا بالأمر، يخلع عن الرائي رؤياه “دع فاكهةَ الرؤيا للكهّان” بتعبير استعاريّ ماكر ساخر، ويثبّط عزمَه على الرحيل باستعمال أسماء الإشارةِ المشبَعة بمعاني التحقير، والإلحاح في ترديد الأمر صيغةً ولفظًا، بصرفِ النظر عن هذه الرؤيا وعن هذا الفلك، بما من شأنه أن كشفَ عن ذات متخاذلة ممسوخة مستسلمة:
“ذاك سرابٌ ظمآنُ ونحن على عطشٍ من زمَنٍ
وعلى كتفي ما يَكفي
فاصرِف نظَرًا عن هذا اللغوِ
اصرف كفَّك عن هذي الأخشابِ وهذا المِعول”
ولقد برع حافظ محفوظ في إجراء الخطاب الحجاجيّ (Discours Argumentatif) في نسيج الخطاب الشعريّ (Discours Poètique) عبر ذلك التقابل بين دعوةِ بطل الطوفان وصدِّ مُناظرِه، ما كان له من دور أساسيّ في بعث الروح الدراميّة القلِقَة في جسمِ القصيدةِ، نلمحها في ذلك التقابل بين الإنشاء والإخبار، والفعل وإحباطه، وفي تقابل معجميّ بين مفرداتٍ تنتمي إلى سجلّ الشراب والارتواء، من قبيل “بحرًا، موجا، اليمّ، الماء، الحياة”، وأخرى تنتمي إلى معجم السراب والعطش الّذي مثّلَته مفرداتُ “الصحراء، سراب، ظمآن”. إضافة إلى تقابل بين معجم الانفصال “فاصرف نظرا، اصرف كفّك” ومعجم الاتّصال “كن معي، كن صاحبي، كن دليلا”. وهذه المتقابلاتُ المستخرَجَةُ ما هي إلاّ عيّنَة بسيطة عن حركةِ المدّ والجزر المستولية على الخطاب الشعريّ، لتؤكّد أنّ الطوفانَ ليس ظاهرةً خارج العالم الداخليّ للشاعر، بل إنّ عميق الإحساس بالطوفان الّذي يسكن بواطنَ الشاعر هو الّذي أكسَبَ جِيناتِ اللغة الشعريّة حركيّةً طوفانيّة حتّى لَيَرى القارئ المفرداتِ الشعريّةَ متحرّكةً هادرةً في صراع وتصادم موحِيَين.
ولقد عبّرت الأساليب الحجاجيّة الّتي وظّفها كلّ طرف للإقناع بوجاهة رأيه، عن منسوب عال من التوتّر تجلّى في التقابل بين التقرير والنفي في هذا المقطع الشعريّ:
“-اليَمّ القادم يدنو،
وأكاد أشمّ روائحهُ، وأرى عاصفةً وبروقًا
وأرى ماءً يغرق في الماء.
-ليست عاصفةً تلكَ، وما ذاكَ بِماءْ”
والتقابل بين أسلوبَي الأمر والإضراب في قوله:
“فاصرِف نظَرًا عن هذا اللغوِ
اصرف كفَّك عن هذي الأخشابِ وهذا المِعول
وارفع عن زمنَيْنا ما رانَ على زمنَينا
-بل كُن معي
كن صاحبي ورفيقَ رحلتنا القريبةِ”
ولا رَيبَ أنّ هذا التوتّرَ قد كشف عن توق محفوظ إلى النقر على حماقة فئة واسعة من الشعب مصرّة على إفناء نفسها بنفسها بالعنجهيّة والرعونة الصمّاء الخرساء والرضا بأوهام الطمأنينة المخادعة، مستمدّا ذلك من حماقات الأقوام السابقة في التاريخ والأساطير والقصص القديمة متى عصت أنبياءها ومبشّريها، فانتهت إلى الهلاك. ومن شأن المفردات الّتي تنتمي إلى العمق الوجدانيّ والّتي نطق بها بطلُ الطوفان أن تشير إلى المدّ الإنسانيّ النابض بالقِيَم الّتي نحتاجها تلقائيّا لمواجهة الخطر الآتي أمام فوضويّة الطبيعة وعنفها وقهرها وذئبيّة الإنسان وأنانيّته، قيم المحبّة والتضامن والتكاتف رغم كلّ الاختلافات الممكنة.
ويمعن “البطلُ الشعريُّ” في استمالةِ خصمه إلى الإيمان برؤيا الطوفان وحتميّة ركوب الفلك، من خلال إسم الإشارة للتفخيم الّذي جعل من الفُلكِ استثناءً وسانحةً لحياةٍ جديدةٍ قد لا تتكرّر:
“هذه الفلكُ الوحيدةُ للنجاة
وهذه الأولى في الصحراء”
وفضلا عن ذلك، ضيّقَ الشاعرُ الفضاءَ ليبقى البحرُ الملجَأَ الوحيدَ، باعتماد الاستعارة حينا “السماء تئنّ تحت سمائها” وفي هذا إحالة على خيبة الآفاق وعدم الثقة بالآتي. ومن خلال استثمار صورة الرماد المتراكم للتعبير عن الأرض المحروقة والواقع المرفوض حينا آخر، لولا حضور العنقاء هذا الرمز الأسطوريّ الّذي يوحي بالانبعاث والولادة والتجدّد، ولّد منه الشاعرُ أملَ النجاة في رحلة الفلكِ.
وبناءً على ما تقدّم، جسّد هذا الحوار الخلافيّ المتخيَّل ثنائيّةَ الإيمان والكفر ومعركةَ الفرد الرائي مع الآخرين، وهي ثنائيّة متواترة في قصص الأوّلين والحكايات الدينيّة والأساطير، أعاد الشاعرُ تشكيلَها تشكيلا فنّيا طريفا برؤيته الخاصّة. وقد مكّن هذا الحوار من نقل الصراع الدراميّ بين بطل الطوفان وخصمه المحبط لدعوة الفلك، وتَنمِيَته والكشفِ عن علاقة التوتّر والصدام الّتي تحكم طرَفَي الحوار، والجوس في بواطن كلّ منهما وتحديد وجهته وغايته، دون الغفلة عن التعبير الغنائيّ والعناية بشفافيّة اللغة الشعريّة، ليتساوق الدراميُّ والشعريُّ والحجاجيّ معًا، وتهشُّ الحدود الفاصلةُ بينها. وهنا تكمن قدرةُ الشاعر على المزاوجة بين الإحساس والعقل، والشعور والتفكير، وبين الوجع الذاتيّ والتعبير الموضوعيّ عنه.
ومن شأن هذا الحوار أن يحمل دلالة رمزيّة لما يستبدّ بالشاعر الّذي يرى ما لا تراه عيونُ شعبه من قلق جرّاء دمار آتٍ ناتج عن ثورةٍ مقدّسةٍ حادَت عن مسارها وانحدرت إلى مستنقع مدنَّس من الترّهات والهرطقات. ومن شأنه أيضا أن يعيد الاعتبارَ إلى موقع المثقّف السبّاق إلى التفطّن إلى قضايا عصره واستباق الأزمة والبحث عن أفقٍ للخلاص منها أمام معاندة الشعب نفسهِ وكُفرِه بِنَبيّهِ.
المقطع الثاني: المونولوغ
كلّما تعمّق الخطُّ الدراميُّ ازداد قلقُ “البطل الطوفانيّ” فيَجوس إلى دهاليز ذاته يحاورها مكثّفًا من الأسلوب الإنشائيّ الّذي نلمحه في الإلحاح على الاستفهام الّذي اندلعت شرارتُه بالتساؤل عن مصدر هذا الحلم الّذي حدا به إلى بناء الفُلكِ:
“مَن قدَّ هذا الحلم؟”
وفي هذا التفاتٌ إلى الوراء، في إطار ما يسمّيه أهلُ السرد بالومضة الورائيّة (FlashBack)، من شأنه أن يعبث بترتيب الأحداثِ المعروفة في القصّة التراثيّة، فيُكسب النصَّ بذلك ما يكون به شعرًا، فيما يحاول إضاءة ما كان غامضًا من دوافعِ بناء الفلكِ إضاءةً ميتافيزيقيّة ترتاد الغَيبَ وتغوصُ في لا وَعيِ البطلِ وتتشجّر في خيالٍ سرياليّ خلاّبٍ وتحفر في أعماق النفس في أكثر المواطنِ الّتي يهواها الشعرُ.
ويصبح الحلمُ في هذا السياق من الإبداع الشعريّ، بمثابةِ الأحجيَةِ (Rébus) الصغرى داخل الأحجية الكبرى الّتي هي النصّ، بما تتضمّنه من علامات لغويّة وردت في شكل رسوم هيروغليفيّة خارجة عن العادة والمألوف، تمثّل رموزا ينبغي الحفرُ في دلالاتها الاستعاريّة اللطيفة. انظر مثلا إلى هذا الزواج الطريفِ الّذي عقدَه الشاعر بين الماديّ والمجرَّد، وبين الجماد والإنسان، مخترقا النظامَ المنطقيَّ للأشياء عبر التصرّف الفنّي المقصود في أوعيةٍ جُعِلَت أساسا لحفظ السوائل وخصوصا الماء خصّها بفِعلَي التمايل والانشقاق تجسيدًا استباقيًّا لحدث الفيضان الطوفانيّ، فضلا عن إضافةِ “الآنيةِ” إلى “الظنون” و”انشقاق” “الدوارقِ” على “آهاتٍ” هي من خصائص الإنسان لا الجماد، وهذا يدخل في باب الاستعارة المكنيّةِ الّتي تقوّي التعبير الدراميّ عن وجع الذات المهدَّدَة بانفجار الماء وتجاوُز كلّ الحدود. وغنيّ عن البيان تصويرُ مشهد سرياليّ نسيجهُ لعِبٌ لغويّ بلفظة “العين” في مواقع وسياقاتٍ شتّى بالاشتراك اللفظيّ بين عينِ الماء وعين الإنسان:
“والماءُ تحتَ وفوقَ عيني…
كلّ ما حولي منابعُ،
كلُّ ما حولي عيونٌ فتحت أجفانَها”
ورُبَّ متأمّل في هذا التداخل البليغ بين دلالات العين، يفهم ما يرمي إليه الشاعر من تحريض على تفتيح العيون على عقوبة الفاسدين عبر عيون الماء الدافق بشكل طوفانيّ شامل أشار إليه الشاعر بترديد قولِه: “كلّ ما حولي” إمعانا في تصوير حالة الغرق في الخطيئة الّتي استدعت تدخّلَ الفُلك للإنقاذ والإصلاح.
وبمفعولِ هذه المادّة الحلميّةِ وما أرسَته من منطقِ الشعور الّذي حلّ محلّ منطق العقل، استسلم الشعرُ إلى قانون تداعي الحواسّ في زمنٍ شعوريّ باطنيّ لا ميقاتيّ موضوعيّ. ولذلك صرَخَ الشاعرُ غيرَ مرّةٍ “لا وقتَ” وعبّر عن ذلك استعاريّا بنَومِ الشمس:
“والشمسُ هل نامت إلى حينٍ؟”
وأيضا بتغليب زمن الشعور على الزمن المألوف بصيغة التفضيل في قوله:
“اليوم أقصر من هبوب نُسَيْمَة”
ولا جدال أنّ التنصيصَ على ضيقِ الوقت كفيلٌ بفضح ضيق صدر البطل بجسامة المغامرة وصعوبة تبليغ الدعوة وبتكثيف صراع البطل الّذي كان منطَلَقُه المكانُ المشرفُ على الغرَق، ثمّ الصراعُ مع الناس الهازئينَ بالرؤيا. فإذا به يتجاوز ذلك لِيَقف مناطحا لفعل زمانٍ يهدّد بغيماته وأمطاره:
“لا وقتَ فالغيماتُ من زمنٍ تدقّ زمانَها
لا وقتَ فالأمطارُ من زمنٍ…”
وبِتعمّقِ قلقِ البطل لقلّة الحيلة تحت ضغط الزمن، تولّد إحساس فظيع بالعجز عبر التماس استقدام الأحبّة ذهب جُفاءً بلا صدًى “سيروا إليّ أحبّتي” وترديدٍ لاستفهام يائسٍ “كيف أردّهُم؟” يعبّر عن انسداد الآفاق لإغاثة الأهل والوطن. وتَمتِينًا لهذا الشعور المميت يمضي الشاعرُ من إجمال الأحبّة إلى تفصيلهم، فحضر التعديدُ في نفَسٍ جنائزيّ يُشاكل خطابَ الرثاءِ، ويذكّر بوقفة الشعراء على أطلالِ المفقودين الّذين التهمهم الغيابُ، خصوصا عند الإشارة إلى بيوت الأحبّة وريحها:
” وصاحِبَتي وأبنائي وذو القربى، رفيقُ صباي
كيف أرُدُّهم؟
وأخي وأصحابي
(…) وهاتيكَ البيوتُ وريحُها
(…) كيف أردّهم؟”
والبطل هنا يعدّد خساراته لينبئ ضمنيّا بالمسؤولية المرّة المنوطة بعهدةِ المثقّف الحقيقيّ الحامل لهموم المجموعة، الملتزم بقضاياها، الآمل في زحزحة العقليّة المسطَّحة والوعي الجاهز المحنَّط. وعلينا الانتباه إلى أنّ هذا التعديدَ وهو يرتبط بفقدان الأحبّة، يسيّج ذاتَ البطل بإسار عزلةٍ فرضَتها ذاتُه الّتي أبَت أن تكونَ نسخا مفصّلا على قياس الآخرين النائمينَ الغافلينَ ورفضت أن تسايرهم أو أن تساومهم، أو أن تكفَّ عن التبشير بحياة جديدة والدعوة إلى الانفلات من مجرى نهر الراهن الظالم، أو أن تستسهل عَقدَ صُلح مع وحشِ الخواء الساكن فيهم:
“ما لي أرى ما لا يُرى وأصيح في أهلي
إلى فُلكي تسيرُ الأرضُ
ما لي أقتفي آثارَها
وأجِدّ في طلب الحياة إلى الحياة
وأرسم الموتى على أطلالها؟”
لينتهي البطلُ الطوفانيّ الّذي راهَنَ على روح التخطّي والرفض والتمرّد والبناء بطلا تراجيديّا غريبا معزولاً، عبّر عنه التقديم والتأخير الّذي بَأَّرَ معنى الوحدة، في قوله:
” وحدي أدلّ الطيرَ
كي أُبقِيَ على لون الصباح
أدلّ أجنحةَ الفراشةِ
كي يكونَ ربيعُها
وأدلّ ما يأتي إلى ما كانَ في حلمي مراكبَها
لأكمل رسمَها”
وفي هذا المقطع الشعريّ المغتسلِ بقسوة الوحدة والغربة وألَم اللامبالاة وتصامُم العالَم من حول البطل، أينعت أفعالٌ منسوبةٌ إلى المتكلّم المفرَد مقترنة بحروف مشبَعة بمعاني الأجليّة “كي أُبقي، كي يكون، لأكمل” بشكلٍ إيقاعيّ منظّم متقايس على أساس التوازي التركيبيّ، ما يشي بأنّ البطلَ الطوفانيّ يعتنق الفعلَ الملحميّ عقيدةً مقصودةً لا فعلا اعتباطيّا عابثا، ومن شأن ذلك أيضا أن يصوّر ملامح بطلٍ مأسويّ لا تُثنيه غربتُه وتنكُّرُ الآخرين له، عن إزعاج الراهن المستبدّ، وعن تأسيس الكون وإنقاذه من براثن العدم.
ولا يفوتُ القارئَ الثَبِتَ أنّ الأفعالَ المسنَدَة إلى البطل متعدّيةٌ إلى مفاعيلَ، ونلخّصها في: الإبقاء على لون الصباح وخلق الربيع وإكمال الرسمِ، متى أضفنا إليها فعلَ “أدُلّ” الّذي رصّع نسيجَ الخطاب بشكل موقَّع مدروس استحال الشاعرُ على إثره دليلا للطير ولأجنحة الفراشة وللآتي، تجلّى بكلّ وضوح أنّ البطلَ الطوفانيّ لا يلتفت إلى خطاياه الشخصيّة بل إنّه يقاوم من أجل التكفير عن خطايا الآخرين، وأنّه جادٌّ في الفعل والتأسيس وقيادة العالم. ويكفي الانتباه إلى دورانِ المفاعيل الّتي يصبو إليها البطلُ الطوفانيُّ على معجم رومنسيّ صريح: “الصباح، الفراشة، ربيعها، حلمي، رسمها” حتّى نستشعر بذورَ الأمل والجمال والبهاء الّتي يزرعها البطلُ في الأفقِ المنتظَر الّذي سخّر في طلَبهِ أجنحةَ الطير وأجنحةَ الفراشة.
واعتبارا لما سبق، نهض هذا المقطع الثاني على تقنيّة معروفة في السرد، وهي الحوار الباطنيّ منحت الخطابَ الشعريَّ زاويةً أخرى لِسَردِيَّةِ أسطورةٍ خلقها حافظ محفوظ تقوم على الاسترجاع، وبناءِ نسَقِ قَولٍ يُصغي إلى بواطنِ بطلٍ مهجوسٍ بتحقيق رؤيا الفُلكِ. وحضر الحلمُ محمّلا بحمولةٍ حجاجيّة قادرة على العود على بدءِ الأسطورة قصد تفسير هاجسِ الإبحار في الفلك الّذي انفتح به النصُّ. ومن هنا ينبجس التحديثُ الشعريُّ في صلب اللغة الشعر الّتي تحوّلت إلى فُلكٍ مهمّتُه السياحة في العالم الداخليّ للذّات لإعادة ترتيب ما تبعثر من أجزاء الأسطورة ومراحلها، وقهر شوكة الزمن وتليين عريكته بالتداعي الحرّ، والكشف عن بواطن الشخصيّة وانفعالاتها وعلاقتها المتوتّرة بالآخرين بين القنوط والأمل. وهو توتّرٌ بوّأها إلى أن تكتسب صفات البطل المأسويّ زادها الإيقاعُ الاحتفاليّ الرثائيّ الجنائزيّ جلاءً. غير أنّ النصّ لا يتوقّف عند الاحتفاء ببواطن بطلِ الطوفانِ، إذ سرعان ما ينغلق على تحوّلٍ من الزمن الداخليّ الباطنيّ إلى الزمن الموضوعيّ، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن مرحلة ما قبل بناء الفُلك إلى ما بعده، فكان إذن لمغامرة الفُلكِ شرعيّةُ المرور من المنجز القوليّ إلى المنجز الفعليّ.
المقطع الثالث: الفلكُ من الـمُنجَز القوليّ إلى الـمنجَز الفعليّ
“حتّى إذا جاء أمرُنا وفارَ التنّورُ قلنا احمل
فيها من كلّ زوجَين اثنَين” (هود، الآية 40)
“الآن” مشيرٌ زمنيّ (indicateur temporel) يحتلّ من المقطع الصدارةَ ويتسرّب في تفاصيل القولِ الشعريّ كأنّه اللازمة (Refrain)، إيذانا بإمساك البطل الطوفانيّ باللحظة الزمنيّة الهاربة وخروجه من قاع الزمن النفسيّ المرعب إلى الزمن الميقاتيّ المألوف، من اللاوعي إلى الوعي، من الحلم إلى الواقع، ومن الوعد بالإبحار إلى الإبحار الفعليّ:
“الآن أنشر بعضَ أشرعتي
وأمدّ مِجدافي إلى حلقاته
(…)وحدي صنعت سفينتي
وحدي أغلّق بابَها”
ويقوم هذا المشيرُ بتأطير أفعالِ الحركة “أنشر، أمدّ، صنعت، أغلّق” اقترنت بالسفينة ومكوّناتها: “بعض أشرعتي،مجدافي، حلقاته، بابها” وهذا يتجاوز غايةَ التسجيل الدقيق للّحظات الأخيرة تأهّبًا للانطلاق في رحلة في عرض البحر، إلى غاية أجلّ شأنًا وهي إخراج صورة البطل الطوفانيّ إخراجا عجائبيّا يحتكر الفعلَ ويمنحه الإرادة القصوى والجديّةَ والفاعليّةَ ويردّه إلى تلك الصورة الطرازيّة للبطل الملحميّ الخارق الّذي يتجشّم ويلات الصعاب ومشاقَّ الفُلك. ويتعزّز هذا الرأي إذا ما انتبهنا إلى ظاهرة التقديم والتأخير المتردّدة في قوله:
“وحدي صنعت سفينتي
وحدي أغلّق بابَها”
وعسى تقديمُ الحال في الجملتَين أن يرتقي بالحدث إلى باب الخوارق الجسيمة، وبـ”البطل الشعريّ” إلى المخلوقات الأسطوريّة الخارقة ذات القدرات الّتي تفوق الأفراد العاديّينَ. كيف لا؟ وقد فاق إدراكُهُ الحسّيُّ كلّ الحدود:
“الآن يأتي آخرُ الأحياء أسمع خطوَهم
(…)الآن أسمع خفقةَ الأكوانِ
أسمع صيحةَ الغَيبِ الأخيرةَ في المدى”
وقد ركّز الشاعرُ عدستَه على فعل السماع المتكرّر في صيغة المضارَعَة منسوبا إلى المتكلّم المفرد، في كلّ سطرٍ، متدرّجا في التبعيد في كلّ مرّةٍ، انطلاقا من سماع وقع خُطى آخِرِ الأحياء المسرعين للالتحاق بالفُلكِ، فمُفارَقَةِ الأرضِ نهائيّا لتتناهى إلى مسامع البطلِ خفقةُ الكون، ثمّ يبالغ في التبعيد ليسمع البطلُ صيحةَ الغيب الأخيرة في المدى. وهذا التدرُّجُ في توسيع مدى السمع مقصود لنفخ الروح الملحميّة في النصّ الّتي تتجلّى كأروع ما يكون متى شقّ الفُلكُ طريقَ النجاةِ، باستعمال الاستعارة عند نهب الفُلك المسافات بسرعة خرافيّة أدّاها النفيُ والاستدراكُ:
“لم تكن للفلك أجنحة
ولكنّا قطفنا أنجمًا كانت على أغصانها
وكواكبًا سودًا تكاسل نورُها”
وقد تفنّن الشاعرُ في التعبير عن إعجاز “بطل الطوفان” في المضيّ بفُلكه السريع دون أجنحةٍ. وقد جاء نفيُ الأجنحةِ ليعمّق الاستحالةَ والرغميّة، فيتولّد معنى السرعة والسبق عبر تجاوز قدرةِ الطير وأفوَقيّة البطل عليها، وهو فعلٌ عجائبيٌّ مُعجِزٌ يتخطّى حدود البشر للدلالة على قدرة البطل وفُلكه على اختراق الفضاء. ويستمرّ الشاعر في نفخ روح التعجيبِ عبر صورة طريفة تحوّلت بمُقتضاها الأنجمُ والكواكبُ الّتي تفصلنا عنها سنواتٌ ضوئيّةٌ إلى قطوفٍ دانية سهلةٍ. ولا يخفى ما في هذه الصورة من تلطيفٍ جماليّ لقسوة معاندة الطوفان وتحويل رحلة العذاب إلى نزهة في بستان، ما من شأنه أن يبرز مدى استسهال البطل لرحلته ويُخرجَ المعنى في إهاب جماليّ طريف في آنٍ واحد.
وقد حضرت الاستعارة المكنيّة على سبيل تشخيص المرفإ ورنوّه إلى فلك البطل وتشخيص السواحل ودنوّها منه:
“ورنا إلينا مرفَأٌ لم يبتدع أضواءَه
ودَنَت سواحلُ لم تكن يومًا سواحلَ”
وقد مكّن هذا الوجهُ الاستعاريُّ من التعبير عن الروح البطوليّة لبطل الطوفان من خلال صغارة المرامي البعيدة أمام سطوة الفُلك، وانقيادها الطَوعِيّ لشدّة البطلِ الرُبّان واضمحلال المسافات أمام ناظرَيه حدَّ استدعاء النفيِ الّذي هدّد هويّةَ السواحل وسخر منها. وتتسرّب عدوى النفيِ من السواحل إلى البحر:
“لم نَكن في البحر
كان البحرُ، كلُّ البحر، أرضُ البحرِ، ريحُ البحر، صوتُ
البحر، بحرُ البحرِ
بين عيوننا”
فالبحرُ ينفكّ عن أن يكون إطارا للمغامرة الّتي خاضها البطلُ، ليصير البحرُ هو المغامرة بأسرها والحقيقة بعينها الّتي ليس في المقدور الإشاحةُ عنها بوجوهنا، بل قَدَرُنا المصابرة والمكابدةُ وتحمّل أهوالها في اتّجاه اليوتوبيا. وتصدُق رؤيا الطوفان لمّا يحضر الفعلُ الناقصُ لا الناسخُ “كان” الّذي يؤصّل كونَ البحر وفعلَه في كلّ شيء وسيطرتَه على كلّ تفاصيل المجال الواردة تركيبيّا، مُضافَةً إلى البحر: الأرض والريح والصوت والبحر نفسه. وهي إضافةٌ تعكس حجمَ الطوفان الهائل الّذي حوّل اليابسة إلى رقعة مائيّة تحرّكها أرياحٌ عاصفةٌ وتُصدر صوتا هائلاً مرعبا هو صوتُ الموجِ المتلاطم الّذي يضفي على الرحلة أجواءً احتفاليّةً دراميّةً، وهو في حقيقة الأمر موج الأفكار المتلاطمة المتدافعة في صدور التونسيّين القلقينَ الباحثين عن بَرِّ الأمانِ الّذي ينتشلهم من بحر الحيرة والظنون.
وتتناهى إلى المصغي إلى المقطع الّذي هَيمَن عليه البحرُ معنًى وكَمًّا لفظيًّا، هيمنةٌ مطلقة لصوت “الحاء” الحلقيّ المتكرّر، وقد تواتر في مفردة “البحر” بطريقة مسترسلة لا تترك للقارئ سبيلا لاسترداد النفَس، في شكل تصاعديّ دراميّ يشرف على ذروة الاختناق والتأزّم ويشيع معاني النواح والحرقة والتفجّع والنحيب والألم في نفس السامع. وقد ورَد صوتُ الحاءِ مسبوقا بصوت الباء في مناطق عديدة من هذا المقطع، فأحالَ هذا التركيب الصوتيّ على معاني البُحَّةِ والظمإ والعطش وجفاف الحلق، لتشترك جميع هذه الاختياراتِ الصوتيّة في تعميق معاناة البطل في مواجهة أهوال الطوفانِ، فيتلاحم الغنائيُّ والدراميّ ويتناغمان معًا لتأدية هذه الرحلةِ الطوفانيّة الصعبة: رحلة ربّان الفُلكِ في البحر ورحلة ربّان الفُلكِ الشعريّ في مِداد الكلمات.
واللافت للانتباه ذلك الإمعانُ في الفعل العجائبيّ عبر إنطاق الصمت، في نهاية الرحلة الطوفانيّة:
“الآن صمتٌ كلّهُ صمتٌ يدبّ ملاطفًا أطيارَنا
وسباعنا”
وتحويلُ الحوار مع الأحياء إلى حوار الصمت مع أطيار الفلكِ وسباعِه يوحي بأنّ الشاعر قد أطلق العنانَ لذكاء الخيالِ المُجَنَّح إلى درجةِ الاهتداء إلى طريقة سرياليّة مميَّزَة يعبّر خلالَها عن بداية جديدة للكون تعود بنا إلى زمن البدايات في الأساطير القديمة، حين كان الصمتُ سيّدَ الأشياء قبل انبجاس الكونِ. وانتشرت عدوى هذا الصمتِ في الفضاء الجديد وتلبّسَت بالفعلِ الملحميّ. فانقطعت الحركةُ وتعطّلَ السردُ وخرجت المخلوقاتُ من فضاء الفُلكِ المغلق إلى فضاء أكثر حريّةً وانفتاحا، هو فضاء اليوتوبيا المنشودة:
“الآن تتّكئ السفينُ على الرمالِ وتُفتَح الأبوابُ”
وما انتهاءُ رحلة بطلِ الطوفانِ على الرمال الّتي عوّضَت هَيمَنَةَ البحرَ إلاّ تَوقٌ إلى إنهاء القصيدةِ بلوحة رمليّةٍ يَخطّ عليها المواطن التونسيّ بأصابعه وبساعده وبعقله، صورةَ عهدٍ جديد مأمول نابع من إرادة فعليّة بعد التطهّر من أقذاءِ ديستوبيا الماضي.
وفي نهاية الرحلة، أعمل الشاعرُ وسائل التعديدِ والتفصيلِ، ليُناجِيَ الصمتُ مخلوقات الفُلكِ ويلاطفها وهي تغادره إلى مُستقَرِّها الجديد، في شكل استعراضيّ احتفاليّ يقوم بتفخيم هذه المخلوقات، عبر أدوات متنوّعة، أهمّها مناجاتُها بأداة “أيّها” وهي كلمة مركّبة من “أي” و”ها” التنبيهِ الوصليّة، الّتي تستوجب إيرادَ المنادى مُعرَّفا بالألف واللام فتزداد هذه المخلوقاتُ عظمةً وفخامةً “أيّها العصفور… أيّتها الحمامة، أيّها الديكُ الجليلُ وأيّها اليعسوب، أيّها الأسد… أيّتها الغزالة/ أيّها الجمل”. وعسى المحافظةُ على هذا التكرار اللفظيّ والتركيبيّ أن أضفَت إيقاعا موسيقيّا غنائيّا يُعلي من أقدار هذه المخلوقات الّتي يوكَل إليها بناء العالم البديل.
ولم يتوقّف تفخيمُ مخلوقاتِ الفُلك عند ذلك الحدّ. وإنّما تعدّى ذلك إلى الأحوال والصفات والنعوت المتعلّقة بها، من قبيل “الديك الجليل، الأسد الكريم، الجمل الرشيد، زوجة البطريق … شامخة كسيّدة، طاووس … متبخترا” وهي تدور على معجم خاصّ بقِيَم المجدِ والعظمة الّتي يصبو الشاعرُ أن تكون عنوان المرحلة القادمة الّتي لا مجالَ فيها إلى التراجع عن قيمٍ مُكتَسَبَة بعد صبر وكبَد ومشقّة.
وتتدعَّم منظومةُ القيم المثاليّةِ بإرساء قيمة الحريّة الّتي نستشفّها في فعل لغويّ أدّاهُ الأمرُ، وهو فعلُ الإباحة الّذي يجسّد مطلَقَ الحريّة مخاطبا حيوان البطريق، باعتماد “أو” الّتي تفيد التسوية بين المتقابلَين الطيرانُ والقعودُ:
رَفرِفي يا زوجةَ البطريقِ… هيّا رفرفي
أو فاقعُدي في الأرض شامخةً كسَيّدةٍ
ورُبَّ مُتمعّنٍ في هذه المخلوقات الّتي تخيّرَها الشاعرُ بدقّة متناهية وأعاد خلقَها على مسرح الوجود البديل، ينتهي إلى أنّ أغلبها من الطيور و”إنّ للطيور دوما من الصفات ما يجعلها أقرب إلى عالم السماء منها إلى عالم الأرض لما خصّت به من أجنحة تمكّنها من الطيران والاتّصال بالأفق الأعلى”( ما يدعم نيّةَ الشاعرِ إرساءَ مدينةٍ مثاليّة فاضلةٍ والقطع مع عقم الماضي، خاصّةً وأنّ الدعوةَ إلى الولادة والبعث والخصب صريحةٌ عند التوجّه إلى زوجة البطريق بالقول “إليكِ تسير قطعانُ الذكورِ”، والدعوة ضمنيّةٌ أيضا تتجلّى في استدعاء الغزالة، هذا الحيوان الّذي أضحى صفةً للمرأة في موروثنا الغزليّ، رمز الأنوثة والخصوبة والتجدّد في صحراء الشعراء، ويؤيّد هذه المعاني حضورُ “اليعسوبِ” الّذي يعطي ملِكةَ النحل الحامضَ المنويَّ لتخصيب بيوضها والمسؤول الأوّل عن التنوّع الجينيّ في مجتمع النحل.
وفضلا عن ذلك، يبدو عالم الحيوان الّذي نقله الفُلكُ من مدينة الديستوبيا إلى مدينة اليوتوبيا، منسجما على نسق مدروس يفضي بنا إلى نوع من العلائميّة (Sémiosis) مخصوص شبيه بالتسمية المجازيّة الّتي تنسج عالما فردوسيّا مقدَّسًا. فلا جدال أنّ كائنات الفُلك تحمل ريحَ القداسة، خاصّة إذا أمعَنّا النظرَ في حضور هذا “الديك الجليل” في فُلك محفوظ وما يمكن أن يوحي به من دلالاتٍ، فالديكُ في بعض المأثورات الإسلاميّة ديك أسطوريّ أو ملَكٌ بحجم الكون رِجلاهُ في تخوم الأرض السفلى وعنقه مثنيّةٌ تحت العرش وقد أحاط جناحاهُ بالأفُقَينِ مشرقا ومغربا(9) ونقل الدميري في “حياة الحيوان الكبرى” والمقدسي في “البدء والتاريخ” خبر “أنّ تحت العرش ملكا في صورة ديك”(10) وهو المؤذّن المؤذن بانبلاج الفجر والداعي إلى الصلاة(11)، ولابدّ أنّ الشاعر قد دعاه إلى هذه الأرض الجديدة ليرسي معاني انبلاج نور الحقّ والعدالة بعد ظلام الجهالة والفساد وسقوط دولة الديستوبيا. ويذكر “الكسائيّ” في “قصص الأنبياء” أنّ الشيطان لا يدخل بيتًا فيه ديكٌ أفرَق”(12) فإنزالُ محفوظ الديكَ على هذه الأرض إذن يُعَدُّ بمثابة الجدار الحاجز لصدّ أبالِسة الدولة وإبادَتهم لتنهض تونس الجديدةُ على بناء صلبٍ. ويقول “الكسائيّ” أيضا “إنّ أكثر طيور الجنّة الديوك”(13) فلعلّ الشاعرَ قد استعارَ هذا الطائرَ بكلّ محمولاته الدلاليّة الرمزيّة ليكثّف من أمله في تحويل بلده بعد إذ كانت مرتَعا للفاسدين إلى جنّة نعيم أرضيّ.
وتزداد فرضيّتنا يقينا متى انتبهنا إلى الطاووس المتبختر المختال النازل من الفُلك بنفوذ جماليّ ودلاليّ رمزيّ. فهو طائر الجنّة بحقٍّ يجسّدها بحسن شكله وألوانه (14). وفضلا عن ذلك استنفد الشاعرُ شعورَ الأمان والسلام الحتميّ في الجنّة عبر استدعاء “الحمامة” و”الغزالة” وقد تحصّنتا في المخيال العربيّ القديم بمكّةَ حتّى صارتا أيقونةً للقدسيّة والأمان. ففي كتاب “الحيوان” يستخدم الجاحظُ التفضيلَ ليكشف ضمنيّا عن منزلة الحمام والغزالة، بقوله “آمَنُ من حمام مكّةَ ومن غزلانِ مكّةَ”(15) لما كانت تتمتّع به من حرمة في المخيال الدينيّ الّذي نسجته النصوص القديمةُ.
وما يزيد هذه الفكرةَ رسوخا هو دعوة “الجمل الرشيد” الّذي حفّته الحكايةُ الدينيّة بهالةِ قداسةٍ “ذلك أنّ ناقةَ صالحٍ أو ناقةَ اللّـهِ على سبيل المثال ناقةٌ عظيمةٌ مقدّسةٌ كانت آيةً لثمودٍ أو دليلا حتّى يؤمنوا بما أتاهم به نبيّهم صالح وكان عليهم أن يدَعوها وشأنها، لهُم شربُ يومٍ ولها شربُ يومٍ، فعقروها وسقيَها فحلّ بهم العذابُ”(16) وها هو الشاعر يبعث الحكايةَ الدينيّةَ من جديد ليُعيد ذاكرةَ القارئ إلى ديستوبيا ثمود وعصيانهم وكُفرهم عبر النقر على لفظة “الجمل” الّتي تجعل المتقبّلَ يدرك دورةَ اسطوانة الفساد في كلّ الأعصار والأمصار، فيتأهّب تلقائيّا إلى معاقبة مُهلِكي البلادِ بعقوبة مدمّرة تقتلع شجرةَ السوء من جذورها. لذلك أنجى محفوظ “الجملَ الرشيدَ” في فُلكه الشعريّ انتصارا للمقدّس الّذي كاد أن يأتي عليه المدنَّسُ وإعادةَ اعتبار إلى الحرمات على الأرض الموعودة.
وليس بِعزيزٍ على المصغي إلى قَفلَةِ القصيدة أن يدرك احتفاءَ حافظ محفوظ بميلاد عهد جديد على هذه الأرض الممكنة باعتبارها عمقا إيديولوجيّا وروحيّا في آن واحد، مثلما يحتفي بميلاد تونس الجديدة في هذا العهد الجديد، أتاها الشاعر بالتلاعب بالمفردات الّتي بدت على هيئة كائنات راقصة، وردت في خطاب موسوم بشُحّ في الكلم واقتصاد في اللفظ يعزّز الاحتفاليّة الغنائيّة، خاصّةً لـمّا عضدها الترديدُ وغذّاها حضور الموازنة:
الآن يُهدينا المكانُ زمانَه
الآن يُهدينا الزمانُ مكانَه
ويتجاوز الشاعر الرغبةَ الضمنيّةَ في إحداث موسيقى داخليّة ونفخ الأغنية في أجساد المفردات وقوالبها التركيبيّة وبعث الحركة فيها، إلى دعوة صريحة إلى الرقص، إلى الحركة، إلى الخلق، إلى الابتداع ،إلى أغنية جديدة في مستوى هذا الإنجاز الثوريّ الّذي ركب موجَ المغامرة، جاءت على لسان بطل الطوفان مخاطبا حبيبتَه الّتي يكنّي عنها بـ”حلوتي”، وهي لا مراء “تونس”:
” فلتَرقصي يا حلوتي فلتَرقصي
ولنَبتَدع للأرض أغنيةً تليق بمائها”
وهذا يصوّر رؤيةَ الشاعر الّذي يؤذن بعودة الحركة بعد السكون والصمت، ويزرع حبّات الأمل في عالم السعادة المطلقة المنشود. وتتلخّص رسالتُه الّتي وردت في نفَس غزَلِيّ رومنسيّ، في أن لا وجودَ مع اليأس والتشاؤم، وأنّ الحياة رحلة بطوليّة شاقّة تُفتَكّ غِلابًا بحركةٍ طوفانيّة دافقة لا تَني، نهايتها أغنيةٌ إنسانيّة مُشَرّفة، وأنّه ينبغي على الإنسان، بَلهَ المواطن التونسيّ، أن يندفع فكرًا وإحساسا وحركةً إلى إنشاء الكون من العدم، والفعلِ من الحلم، والفعاليّة من الجمود، والروح من المادّة، والاحتفاء برَوعةِ الوجود وبهجته وجماله في أطهر تجلّياته على أنقاض دنَس الساسة وفساد الأفّاقين وجشَع المضاربين، بعد أن تدوسهم عجلةُ التاريخ وننجح في تركهم وراء البحار.
الخاتمة:
هذا النصّ “فُلكٌ شعريّ” يجري على بحر متموّج من الكلمات تبدو تارةً تعبيرا غنائيّا ينبض بذاتيّة خالصة وحساسيّة مفرطة وشعور عاتٍ بالأشياء والعناصر، وتارةً أخرى تعبيرا دراميّا ينهض على موضوعيّة جادّة وصرامة عقليّة وقوّة في التفكير والحجاج.
ويطوّح بهذا الفلكِ إحساسٌ باطنيّ جارفٌ بطوفانٍ داخليٍّ فاض على العالم الخارجيّ ارتآه الشاعرُ عقوبةً عادلةً لمدينة أفسدها أهلُها. وقد اكتسى هذا الإحساسُ الباطنيُّ أهمّيتَه بقدرِ التحامه بأنموذج طرازيّ من الإحساس الإنسانيّ الخالد المترسّب في القاع الأسطوريّ والدينيّ والتاريخيّ البعيد، وبقدرِ التحاق الألَم الذاتيّ الخالصِ بالأوجاع الإنسانيّة الكبرى الّتي وجدت الذاتُ معها قواسم مشتركة حدّ التطابق بل الاتّحاد والذوبان.
الإحساس بالطوفان هو الّذي كتب الطوفان، لأجله ركب حافظ محفوظ فُلكا لا يعرف سرَّه إلاّ حُذّاقُ صناعة الشعر، شقّ به بحرَ النفسِ والزمن والتاريخ والثقافة معًا بغية الإقامة بحضرة ديستوبيا الماضي الّتي لم تفارق أمَّةً من البشر يتفرّس في وجوه أبطال الطوفان باحثا عن وجهه، عن صورة لنفسه ولوعيه بنفسه ووعيه بالعالم من حوله. فكان القناعُ حاجةً وقناعةً من صميم الرؤيا الشعريّة لا حِليَةً فنّيةً مجرّدةً، أظهر محفوظ قدرةً بالغةً ووعيًا مثقَّفًا في ارتدائه لتصوير المعركة الوجوديّة والسياسيّة والاجتماعيّة المحتدّة في داخله، وتبليغ مرارةِ مَن علّق آمالا على ثورة استحالت إفسادا في الأرض والثوّارُ غافلون، وتنوير المتقبّل بصورة عامّة، لَسِيّما المتقبّل التونسيّ في العشريّة الأولى بعد الثورة، بفساد الراهن المؤذن بالخراب وتصحيح نظره إلى عوامل الانهيار والهزيمة، وتثويره على نار الجحيم المحيقة به من كلّ جهة عساه يصنع الأمل.