إبراهيم نصرالله: الرواية حكاياتي و الذين شكّلوا حياتي
حاوره : عمر أبو الهيجاء
“طفولتي حتى الآن” تذهب في رحلة أبعد، ورغم البساطة الماكرة فيها فنيًّا، هذا ما ذهب إليه الشاعر والروائي الأردني/الفلسطيني إبراهيم نصرالله، مؤكدا أنها رواية و مسيرة أكثر من ستين عاما عاشتها شخصياتها، وأنا أحدها، لافتا النظر إلى أن ما كتبته بعد الخمسين، ربما هو ما جعله ما عليه اليوم، ومتمنيا أن يكون كاتبا في السبعين.
في الحوار التالي نتعرف على جوانب مهمة ومدهشة في تجربته الإبداعية المتنوعة.
• ملامح طفولتك، كيف سردت هذه الملامح بحب جارف لفلسطينيتك؟
– ربما أفضل توصيف للتعامل مع هذه الطفولة، ورد في الجملة الافتتاحية لرواية “طفولتي حتى الآن”، والذي يقول “عن الخيال الذي عشته، والحقيقة التي عاشتني” وهذا القول عابر لحياة المخيم، الصداقات، الحب الذي يحتل مساحة واسعة، بحيث يمكن القول إنها رواية حب، والأحلام التي أجهضت ولكنها ولدت في أحلام أخرى تحققت، ثم هناك التحوّلات الكبرى على صعيد الحروب المعلنة، وغير المعلنة، إنها في النهاية مسيرة أكثر من ستين عاما عاشتها شخصياتها، وأنا أحدها، وعاشتها فلسطين على ضفتي حكايتها: الاحتلال والتّهجير، وهي قبل هذا وبعده عن الأمل وقوة الحياة التي فينا.
• الرواية “السيرذاتية” في عملك الجديد، ما البعد الفني والإنساني فيها ومنجزك الروائي السابق؟
– في كل مرة أحاول أن أجتهد في تقديم شكل فني مختلف، وقد قلت أكثر من مرة إن البناء الفني أو الشكل الفني من أكثر المتع الأدبية التي أسعد بها؛ حتى حين قدمت كتابي، أو سيرتي في السفر، “السيرة الطائرة” كتبته وبودّي أن أكتب سيرة مختلفة، وعلى رأي أحد النقاد الذين أحترمهم، قال: لو تغيّر اسم السارد الذي هو إبراهيم، ونُشرتْ هذه السيرة كما هي تماما، لكانت واحدة من الروايات النادرة عن فلسطيني يجوب العالم مدافعًا عن الجمال في وطنه وفي كل مكان”! وإذا كانت “السيرة الطائرة” تتبع الحياة في خمسة وعشرين عاما، فإن “طفولتي حتى الآن” تذهب في رحلة أبعد، ورغم البساطة الماكرة فيها فنيًّا، إلا أنها تتحرك بين بدايات الستينيات من القرن الماضي، حتى الآن، بيسر، ففيها التداعي الذي يمتُّ للماضي، والتداعي الذي يستحضر المستقبل. وهي رواية في النهاية عن الفنون وسحرها، وعن الحب كما أشرت، وهي تطرح منظورا جديدا للعلاقة بين الرجل والمرأة، أو الإنسان والإنسان، بعيدا عن التسميات الرائجة لأسماء العلاقات، وهي مسألة يمكن القول “فلسفية” أرقتني منذ أربعين عاما.
• ثمة علاقة مختلفة للسارد نصرالله لمعنى الطفولة في وجدانك، وهل من رسالة مغلفة بمتعة الخيال الشعري، ماذا عن تلك العلاقة؟
– الرواية حكايتي وحكاية الآخرين الذين شكّلوا حياتي، وشكلُّتُ جزءا صغيرا أو كبيرا من حياتهم، وهي رحلة في الزمن، الماضي والحالي، تبين لي في نهايتها أن أجمل رواية للإنسان هي حياته نفسها، إذا كانت حياتك فقيرة إنسانيا، فمهما كتبت من أعمال، فإنك ستكون مهزوما، أظن أن البطولة الحقيقية هي أن تعيش الحياة كما ينبغي أن تعاش، بحيث ستكون محظوظا إذا وصلت إلى النتيجة التي وصل إليها الشاعر بابلو نيرودا حين عنون سيرته “أعترف أنني قد عشت”. إذا استطاع الانسان أن يصل إلى نتيجة كهذه فأظن أنه سيكون قد حقق شرط إنسانيته: حياته هي أجمل رواية قرأها، أو أجمل رواية كتبها.
• نصرالله كثير السفر، ما الذي يستفيد منه المبدع من تغيير الأمكنة، وما الذي يحمله من المدن داخله إبداعيا؟
– السفر ساهم منذ البدايات في تشكُّلي، وبقوة، ربما بعنف في البداية، فحين سافرت للمرة الأولى لأعمل مدرسا في منطقة القنفذة، السعودية، واجهت عالما بالغ التأثير، وهو الذي ألقاني في اختبار المرض والموت، وهو بالتالي الذي أنجب روايتي “براري الحمَّى” ولذا أتساءل، لو لم أذهب إلى هناك هل كنت سأصبح روائيًّا فعلا، بل وشاعرا، فعدد القصائد التي كانت مختبر بداياتي كان كبيرا. بعد ذلك توالت الأسفار بشكل أرحم، أو بأشكال مختلفة، فالبلدان يتنوّع جوهرها، وهذا هو جمالها القائم في الاختلاف، وهكذا أنجب السفر رواية “الأمواج البرية” و “فضيحة الثعلب” و “الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق” و “السيرة الطائرة” و “الحب شرير” كما كان عابرا لأعمال كثيرة كتبتها.
تتنوع البلاد، وتتنوع التجارب، وبالسفر اكتشف مناطق جديدة في نفسي وفي العالم. في السيرة الطائرة جاء: كل رحيل إلى البعيد لا تكتشف به داخلا، لا يعوَّل عليه.
• منجزك الإبداعي توزع ما بين الشعر والرواية والتشكيل والسينما، هذه الأجناس الإبداعية هل أفادتك في السرد؟
– لقد قدمت هذه الأجناس الفنية الكثير لي، إنها الروافد التي ظلت على الدوام تروي أرض السّرد لدي، وارض الشِّعر أيضا، وبخاصة الأعمال الشعرية السّردية، وهي كثيرة جدا؛ حيث يقول الشاعر الناقد علي جعفر العلاق في دراسة رائعة له: كل قصائد إبراهيم نصر الله يخترقها السرد تقريبا. في حين كتب الناقد يوسف يوسف كتابين؛ الأول عن أثر السينما في رواياتي، والثاني عن أثرها في شعري. وكتب الناقد حسين نشوان كتابه الرائع “عين ثالثة” وتتبع فيه لقاء الفنون في أعمالي الشعرية والروائية.
• النقد والإبداع، هل استطاع النقد أن يواكب تجربتك الإبداعية؟
– منذ البدايات كنت محظوظا بحجم النقد الذي واكب تجربتي منذ ديواني الأول، وروايتي الأولى، وأعني ذلك النقد الذي احتضنته الصحف والمجلات الفنية، في زمن قوة الصحافة اليومية والأدبية، ولعل هذا هو ما أعطى دفعة كبيرة لذلك الكاتب الشاب، لكن هذا النوع من النقد تراجع إلى حد كبير في زمن احتضار الصحافة الورقية، منذ سنوات أصبح الاهتمام بتجربتي بالدرجة الأولى واسعا على مستوى الدراسات الأكاديمية والأبحاث الجامعية، فقد تجاوز عدد اطروحات الماجستير والدكتوراه ستين أطروحة في دول العالم، بلغات مختلفة، وهذا عدد كبير في ظني. “ثلاثية الأجراس” مثلا، التي صدرت عام 2019 كتبت حولها وتكتب الآن خمس أطروحات دكتوراه وماجستير.
أظن أن هذا النوع من الاهتمام يسد فراغا كبيرا، لأن أزمة النقد كبيرة بسبب عدم وجود منابر ثقافية كثيرة للنقاد كما كان في الماضي، لكن ذلك لا ينفي وجود دراسات نقدية تنشر باستمرار في منابر إلكترونية، وورقية، وهي نوع من الدراسات التي لها أهميتها لأن علاقتها مباشرة مع القارئ.
• الترجمة والإبداع، حظيت أعمالك بترجمات لأكثر من لغة عالمية شعرا ورواية، كيف تنظر لواقع الترجمة عربيا، وهل أنت راض عن مستوى الترجمة لأعمالك.
– لنعترف، قبل التحوّلات التي شهدها العالم العربي، التي غيّرت صورته، كان الأمر يسير بسلاسة أكبر، وبخاصة حين يتعلق الأمر بفلسطين، موجة العنف الأصولي ساهمت في تشكيل صورة يحتاجها الغرب السياسي والعسكري لامتصاص دمنا بشيطنتنا، وهذا أوجد مشكلة كبيرة للوكلاء الأدبيين الذين يمثلوننا في الحديث مع دور النشر، وهم يعترفون: علينا أن نبذل عشرة أضعاف الجهد لتسويق كتاب عربي لدى الناشرين الأجانب، مقارنة بالكتاب القادم من أي دولة من دول العالم. ويقابل ذلك الواقع السياسي العربي الذي لا يقف مع الكتاب العربي، فالكاتب العربي ببساطة، مكروه من قبل الأنظمة، وغير مرغوب فيه، ولذلك لا يتمّ التعامل مع ما ينتجه كجزء من نهوض وجمال هذا البلد أو ذاك، بل باعتبار هذا المنجز نقيضا للمؤسسة الأمنية والسياسية بالدرجة الأول.
ما أُنجِز من ترجمات لكتب عربية وكتبي أمر جميل، ولكنه في ظني لا يمثل المنجز الإبداعي العربي كما يجب، أقول ذلك مع أن أكثر من خمس وعشرين ترجمة ظهرت لكتبي.
• ما هي مقومات الأديب العالمي؟
– مقومات الأديب العالمي حاضرة أمام أعيننا في كل كتاب أحبه العالم واندفع لقراءته، من “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، و “النبي” لجبران خليل جبران، و “مائة عام من العزلة” لماركيز، و “العمى” لساراماغو، وقصائد لوركا ونيرودا وطاغور وغيرها الكثير. هذه الأعمال سرها في داخلها، وهي غير موجودة في خزائن مغلقة، إنها في الأسواق، وسرها فيها، ولكن المسألة قائمة في من يُدرك هذا السر.
وهذا أمر يمكن أن ينطبق على الفنون التشكيلية، والسينما والمسرح، والدراسات النقدية، والموسيقى. هذه، في ظني عبقرية، مثل هذا النوع من الأعمال، إنها أمامنا، وقلة هم أولئك الذين يستطيعون إضافة كتاب آخر لها!
• بعد مسيرة حافلة بالإبداع، هل قال إبراهيم نصرالله ما يريد إبداعيا؟
– لا أظن ذلك، تعرف، في لقاء تلفزيوني معي، وكنت في الثامنة والأربعين، سألتني المحاورة في نهاية ذلك اللقاء المعدِّ جيدًا: ما هي امنيتك؟ فقلت لها: أن أصبح كاتبا حين أبلغ الخمسين.
يومها ضحكتْ كثيرًا، وقالت إنني أقابلك الآن بصفتك كاتبًا، ولكنني أكدت لها أن أمنيتي أن أصبح كاتبا في الخمسين فعلا، اليوم لا أرى في هذه الجملة أي شكل من التواضع أو المبالغة، فما كتبته بعد الخمسين، ربما هو ما جعلني ما أنا عليه اليوم، من “لو أنني كنت مايسترو” إلى “الحبّ شرير” شعرًا، ومن “زمن الخيول البيضاء” إلى “طفولتي حتى الآن” رواية، ولذا لن أبالغ إذا قلت لك إنني أتمنى أن أكون كاتبًا بعد السبعين!
مرتبط