قصص”بيت الضفادع” للصفّار: استحضار السكيتش في موضوع كورونا

(ثقافات)

قصص(بيت الضفادع) للصفّار

 استحضار السكيتش في موضوع كورونا

د. نادية هناوي

 

إن في القصة القصيرة إمكانيات فنية كبيرة، جرَّبها كبار الكتّاب، ووسعوها حتى انتجوا مجموعات قصصية متغايرة في أشكالها وتعدد أنماطها.

وما كان لهذا الجنس القصير أن يتوفر على كل هذه الإمكانيات، إلا بسبب ما رافقته من عمليات تجريب دؤوبة، شهدت كثيراً من التحولات والتطورات التي أفضت إلى رسوخ قالبه الاجناسي.

والقاعدة التاريخية التي عليها قام هذا التجنيس إنما شكّلتها الحكايات الخرافية والأساطير والأخبار، وعليها شُيدت تقاليد سردية ذات خصائص وقواعد وعناصر سار عليها القصاصون، فكان الشكل الحكائي أولا ثم الشكل الخبري ثم المقامي والشعبي الفلكلوري. وفي أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر أخذت بعض التحويرات تطرأ على هذه الأشكال القصصية، انتهت بجنس القصة القصيرة المتعارف على عناصره وطبيعة قالبه. وما هذا التاريخ الطويل الذي مر به تجنيس القصة القصيرة سوى تعبير عن طابعها الفني العابر على الأنواع والأشكال والأنماط والصيغ.

وإذ يذهب اغلب المعنيين بدراسة القصة القصيرة إلى إبقاء الباب مفتوحا في مسألة وضع تحديدات للقصة القصيرة لعلمهم بسيولة حديتها مع ثبات قالبها في الوقت نفسه، فإن هناك نقادا كثرا يغيب عن أنظارهم هذا الأمر فيتخذون من القصر أو الطول معيارا به يميزون هذا الجنس عن ذاك، وفي ظنهم أن طول القصة هو الذي يجعلها رواية قصيرة بينما الطول الأكثر يجعلها رواية طويلة. وإذا قصر فهي قصة قصيرة وإذا ازداد قصرا فهي قصة قصيرة جدا. وهذا الاخير تنوعت اسماؤه فمن أقصوصة أو قصة ومضة إلى سرد ميكروي أو خيال وامض أو فلاش فكشن أو لقطة أو قصة صورة أو سرد وامض. وإذ يرفض بعض النقاد اتخاذ عدد السطور والصفحات معيارا، فإنهم إجرائيا يعتمدون ذلك، فالناقد صالح هويدي استعمل مسمى السرد الوامض وحدده كالآتي(هو سرد قصصي ذو خصوصية مردها حبكة القاص الموهوب وطريق إدارته وشكل اللغة التعبيرية التي استخدمها على نحو من الانزياح اللغوي والدلالي) (السرد الوامض، 2017، ص11)

وعموما يبقى(القصر) سمة وليس مقياسا، والسبب هو تاريخ القصة القصيرة الضارب في القدم الذي منحها قالبا قابلا لأن يعبر على انواع مختلفة ويطور في البناء والتنظيم ويجمع القدامة بالحداثة.

إن ما يجعل القصة القصيرة مميزة عن غيرها من الأجناس السردية هو اختزالية قالبها، ولا علاقة لهذا الاختزال بكثرة السطور وعدد الصفحات، إنما العلاقة هي بالوحدة في مقتضيات تحبيك البناء وتشكيله وطريقة محاكاة الحياة واستكشاف ما هو جديد وغير مألوف فيها. وبسبب هذه الاختزالية تنوعت الأشكال والأنماط التي يمكن للقصة القصيرة أن تضمها في قالبها.

وصحيح أن موباسان وتشيخوف وادجار الن بو كانوا قد دشنوا قالب القصة القصيرة غير ان ذلك تم على خلفية تجريب الكتابة المختزلة. ومن ذلك تجريب كتابة السكيتش كصورة وصفية سردية ورسومات تخطيطية تتوفر فيها عناصر القصة من أحداث وحبكة وشخصية وزمان ومكان. ومن اوائل من كتب السكيشات مارك توين في مجموعته القصصية(ضفدع سيء السمعة) وادجار الن بو وفيتزجيرالد، ومعهم كاتبة أمريكية من أصل إفريقي قلما يذكر اسمها مع رواد القصة القصيرة هي فرانسيس هاربرFrances Harper(1845ـ1911) التي نشرت عام 1872 سكيتشات وصفت فيها الجنوب الأمريكي والظروف القاسية التي عاشها السود المحررون حديثا من الرق. وجعلت شخصية العمة كلوي هي الساردة في هذه السكيتشات. ولعل دورها النضالي في مناهضة العنصرية وفضح أساليب العبودية والتمييز العرقي داخل المجتمع الأمريكي الأبيض هو السبب وراء تغييب اسمها كرائدة من رائدات كتابة القصة القصيرة. فلا يشير تاريخ القصة القصيرة إليها البتة علما أن لها مجموعات شعرية منها كأوراق الغابات وإثيوبيا والروح والأم المستعبدة. وأصدرت أول قصيدة وهي في العشرين من عمرها، وأشهر قصائدها(ادفني في ارض حرة) التي أثارت ضجة كبيرة لرفض هاربر التخلي عن مقعدها في عجلة مخصصة للامريكان البيض، ولها رواية لولا لروي lola Leroy المنشورة عام 1892 تتحدث عن موضوعة العنصرية. وليس غريبا بعد ذلك ان تضيع مجموعاتها القصصية والشعرية إلى ان عثرت باحثة اسمها جوانا اورتنز على بعض تلك المجموعات وقامت بإعادة معالجتها ونشرها مطلع القرن الحادي والعشرين.

ويظل التجريب في القصة القصيرة مستمرا سواء بالمراهنة على استعادة الأشكال التي كانت سببا في تدشين قالب القصة القصيرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أو بابتكار أشكال مستحدثة أو بالجمع بين أشكال مستعادة وأشكال مستحدثة. ولقد قام ادواردو غاليانو بتجريب ذلك كله.

وعربياً هناك تجريب ملحوظ في استعادة او استحداث أشكال جديدة في القصة القصيرة مع اهتمام نقدي أيضا بهذا التجريب ولكنه يأخذ في إغلب الأحيان مسار التنقيب عن جنس آخر أكثر قصرا وليس البحث في إمكانيات هذا التجنيس القصير.

ومن المجموعات القصصية التي راهن كاتبها على الاختزال مجرباً استعادة كتابة السكيتش في القصة القصيرة، هي مجموعة(بيت الضفادع) للقاص عامر هشام الصفار والمنشورة حديثا عن دار أقلام للنشر في لندن، وهي المجموعة الخامسة له، وتتألف من سبع وتسعين قصة قصيرة، وضع القاص توصيفا لها(قصص قصيرة جدا) كعنوان فرعي يتلو العنوان الرئيس. وهو أمر طبيعي لان القاص لا يبحث عن تجنيس جديد تقيده نظرية أو اتجاه. فهذه مهمة النقد ولا يتصدى لها سوى منظري السرد.

وتتنوع موضوعات هذه القصص ومضامينها وتتوزع بين الأسرة والعمل والذكريات والحب والمرأة وداعش والموصل والعنف وثوار تشرين، بيد ان موضوعة كورونا تتصدر سائر الموضوعات الاخرى وبكل ما يتعلق بهذا الفايروس من حجر ولقاح وطبيب وعلاج ومستشفى وصيدلة كما في قصص(احمد وكورونا / جائحة /تنفس اصطناعي/غسل يدين/ كورونا ولو في الصين/ النزيف/ المفراس/ كعب أخيل/ مرضى في ردهة/ مناعة/ أنا وكورونا/ الراقصة والطبيب/ بيت الضفادع) وبسبب هذا التركيز الجلي على موضوعة كورونا، سميت المجموعة باسم(بيت الضفادع) وفيها ساردان ذاتيان الأول طبيب والآخر مريض مسن(أعطني فسحة من وقتك لأتحدث إليك أيها الطبيب.. هكذا قال لي السيد كامبل الرجل الثري المعروف في هذه المدينة التي يلّفها الضباب هذه الأيام). وليست موضوعة كورونا هي ما يميز مجموعة(بيت الضفادع) بل يميزها أيضا المراهنة التجريبية على الاختزال فيبدو السارد،ذاتيا كان او موضوعيا، منشغلا بضغط الأحداث والشخصيات إلى أقصى حد يمكن للحبكة ان تتقبله، والمحصلة مفارقة فنية تأتي فجأة وبانسيابية ليس فيها تكلف أو فجوات.

وهذا الانشغال بالاختزال جعل القاص عامر هشام الصفار يجرب استعادة السكيتش كشكل كتابي تعبر عليه القصة القصيرة كما في(الرسام/ ترامبيات/ المفراس/ إعلان مدفوع الثمن/ تسكع/ انفجار/ صاروخ / الفقمة/ رمضانيا/ الخاسر/ العم سام/ تمويه) وغيرها. وكل سكيتش يتألف من مقاطع متوالية مرقمة تقسم القصة إلى لوحات، وبها يتطور سرد الحكاية. ويؤدي الوصف دورا مركزيا كبؤرة فيها تلتم عناصر القصة من جهة السارد الذي هو في الغالب عليم وأحيانا يكون ذاتيا ومن جهة حكاية الأحداث وبشخصية أو أكثر. وعادة ما ينتهي السكيتش بقفلة درامية.

وقد يتعمد القاص بدء السكيتشات برسم لوحة وصفية تتبعها لوحات تتكرر فيها مفردة(رسم) مع توظيف نقاط الحذف التي تحفز القارئ على قراءة المحذوف وتقسيم فضاء القصة إلى لوحات ولكل لوحة رقم، فمثلا تبدأ قصة(الرسام)بوصف تخطيطي للشخصية يقدمه سارد عليم مسترجعا زمنا سابقا، واضعا له رقم 1(رسم وجهها الجميل.. كحّل العينين..وخطّط الحاجب.. ووضع الخال على جهة الخدّ الأيسر.. وألبسها أقراطا من زمرد.. ولكنه نسى أن يجعلها تبتسم للحياة..) وتكمل اللوحة الثانية استرجاع ما بدأته اللوحة الأولى متضمنة نقاط الحذف وبرقم 2 وتفتتح أيضا بالفعل رسم(رسم الفنان لوحته..وقف أمامها حائرا..مَنْ يشبه هذا الشخص الذي في اللوحة؟.. انه يبدو قلقا.. حزينا.. ولكنه مقطّب الحاجبين كئيبا..عيناه تخفي حكايات..ويداه مبسوطتان للمشاهدين…بدا له أنه رسم نفسه..!)

وتأتي اللوحة الثالثة ليكتمل رسم المشهد بقفلة درامية تستدعي من السارد أن يتوقف عن الاسترجاع ويتحول إلى استعمال الأفعال المضارعة مع توظيف الإشارات السيميائية نفسها اي نقاط الحذف والترقيم 3 فتتناغم استمرارية الفعل مع تكرار مفردة رسم(لم ينته المعرض بعد.. ما زال هناك بعض الزوار في القاعة..انتبه إلى سيدة طويلة القامة، ممشوقة القوام، قصيرة الشعر..حاملة حقيبتها الجلدية في يدها..وهي واقفة أمام أحدى لوحاته التي رسم فيها جسرا معلقا يمتد بين صوبين في المدينة.. السيدة واقفة..وهو الآن بدأ يقرأ ما يدور في خاطرها.. المعرض ما زال مفتوحا للمشاهدين.)

وتفتتح قصة (رمضانيات) بلوحة 1 فيها السارد يتحدث في حوار هاتفي بين أخ يسكن لندن وأخت تسكن مدينة الموصل وبعدها لوحة 2 فيها يصف السارد مستشفى الموصل وفي اللوحة 3 يصف السارد مستشفى بغدادي والمفارقة أن محاوره على الهاتف صار صديق الطفولة ويسأله عن موعد الإفطار في لندن.. وبهذا يكون تجريب عبور القصة القصيرة على السكيتش قد حقق للسارد اختزالا في الأحداث أما بالوصف او بالمفارقة أو بالحوار. وهو ما أكسب قصص (بيت الضفادع) تنوعاً في فنية أبعادها فضلا عن الجدة في موضوعاتها.

  • عن المدى

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *