كلام دون جُمْرك
تأملات شخصية
الأديب السُّوري موسى رحوم عباس، السويد
في هذا المعتزل الثلجي شمال الشمال لا مكتبة لدي، ولا كتبا تخصني، الشيء الوحيد الذي يؤنسني هو النهر الذي يجري إلى جوار البيت الصغير الذي أسكنه وأسميه ” الفرات” تسمية تخصني، وحسب، مما مكنني من المحافظة على طقس رافقني منذ أكثر من ربع قرن وهو المشي اليومي لبضعة أكيال، لكن الجديد في هذا الطقس أنني ضبطت نفسي عدة مرات أنني أكلم هذه النفس، وأحيانا بصوت مسموع. لم يُبدِ الآخرون استغرابهم لأنهم معتادون على ذلك، فمعظم المرتاضين على شاطئ النهر، الذي يشق صدر المدينة إلى قسمين، يضعون سماعات في آذانهم، وربما يتحدثون إلى أصدقائهم بصوت مسموع أحيانا، أما أنا فالوضع مختلف؛ لذا قلت لماذا لا أستطيع الكتابة لتعوضني عن العتبة الأولى في سلم الجنون، لكن سيكون كلاما دون جمرك! أعني هذا الكلام الذي يقوله صاحبه دون أن يفلتره خوفا من سلطة سياسية أو اجتماعية أو أي نوع من الخوف، كلام لا يطالبه المتربصون حوله بالدليل أو المراجع أو أرقام الصفحات، فهو ليس بحثا بكل الأحوال، مجرد كلام قد يستفيد منه باحث أو طالب علم أو دارس لاتجاهات الرأي مثلا. إذ كثيرا ما أعجب بمقالات الدكتور رشيد الخيُّون من العراق، الأكاديمي الذي أحبه، وأجله، ولم نلتق شخصيا سوى مرة واحدة في منتدى خميسية الشيخ حمد الجاسر بالرياض؛ فهو يوثق لكل شخصية أو اقتباس بدأب وحرص شديدين، لكني، من ناحية أخرى، أقول ألا يحتاج أن يرتاح قليلا من صرامة الأكاديمي؟ ألا يحب مثلا أن يفكر بصوت عال دون أن يطالب بالوثيقة والمصدر، هكذا مثلنا نحن البسطاء المساكين؟ لا أدري ربما، ترى هل يغفر لي الأصدقاء قبل الأعداء – إن وُجدوا – ذلك، ولا يعدونها خفَّة في غير محلها؟
-
مت أولا، وسنحتفي بك:
في الجامعات السورية وربما العربية غير السورية وفي كليات الآداب أو علم الاجتماع … ما زالوا يدررسون الليل في شعر امرئ القيس، والناقة في الشعر الجاهلي، والضب في شعر الصحراء… أما المساكين الشعراء والأدباء، الذين يسكنون على بعد خطوات من الجامعة، يصدرون العشرات من الدواوين والمجموعات القصصية والروايات والدراسات، وتبيضُّ عيونهم دون أن يتكرم عليهم أحد من داخل هذه الكليات، فيجعل إبداعهم موضع تشريح ودراسة لطلابه وبخاصة طلبة الدراسات العليا، فهم باحثو المستقبل. يبدو أن هؤلاء المبدعين متهمون حتى يثبت العكس، فربما كتب أحدهم قصة أو رواية بعد عشر سنوات لم تُرضِ رقيبا في هذا الفرع أو ذاك؛ فترتد وبالا على صاحب الدراسة أو المشرف أو حتى جيرانهم في البناية! فالأضمن أن ننتظر موتهم أولا؛ لنطمئن إلى صمتهم وعندها يمكن أن نصنفهم تحت مسمى “حياد إيجابي” على الأقل! هذا لا ينطبق على المقربين من دائرة الولاء وحلقات المركز.
-
لست طبالا، يا سيدي!
لا أدري لماذ ارتبطت وظيفة الشاعر تاريخيا بالسلطان، إذ كلما ذكرت، يقفز إلى ذهني صورة الخليفة أو وزيره، وهو ينثر الذهب على رأسه، أو يلقي إليه بصرة الدنانير. أشعر بالاستياء من هذا الارتباط شبه الشرطي بين الشاعر وصرة الدنانير؛ لم يسلم من ذلك إلا القلة، من المتنبي حتى الجواهري وممدوحيه الكثر. ترى لو منح كافورٌ المتنبي ما كان يطمح إليه من سلطة ومال هل كنا سنقرأ ” لا تشترِ العبد …” أم كنا اكتفينا برائحة الصندل التي تطيب كلما زدنا من احتراقه؟ ثم ماذا عن أولئك النفر من الشعراء الثائرين في شرقستان العربية والهاربين من الظلم، والمتزلفين في غربستان العربية أيضا، يمارسون الكِدْيةَ كما كانوا يمارسونها في العصر العباسي في شوارع الكرخ والرصافة؟ أم أن القضية حتى في الطغيان “خيار وفقّوس؟”
متى يقتنع أهل السياسة أن الشاعر والأديب والمفكر ليس طبالا، بل وظيفته أن يكون معارضا يظهر النواقص، ويدافع عن الحقوق، وينبه إلى التجاوزات؟ أما التمجيد والمدح فهما من وظيفة الحاشية والمكتب الإعلامي والناطق الرسمي … وهلم جرا. على الأقل لنحترم الاختصاص، وحسب، اتركوا الخلق للخالق، واقنعوا بمكاسبكم وأموالكم وسياراتكم الفارهة، واتركوا لأهل القلم أقلامهم، وضنك عيشهم أيضا.
-
نمور الثقافة، والآلهة على الأرض:
أظن أننا في بلادنا رغم التطور في الوسائل والمعمار … ما زلنا في ذاكرتنا الجمعية تتلبسنا ثقافة القبيلة، بعد أن أسقطنا مفاهيمها على حياتنا المعاصرة. وفي مجال الأدب والفكر، حل الشاعر أو المفكر أو الروائي محل شيخ القبيلة. فهو منتحلٌ شخصية الزعيم والقائد الملهَم الذي لا يخطئ، ولا يجوز الاقتراب من مداراته، فهي ستحرق أصابعك. لا أستطيع أن أقول مثلا عن شاعر سوري كبير ومكرس بأنَّ بعض قصائده أو نصوصه كما يسميها ضعيفة اللغة ضعيفة الموهبة، أو لهذا الروائي صاحب الروايات الكثيرة رواية مهلهلة، … عندها سأصبح رجعيا، أتطاول على الكبار للفت الانتباه … إلخ، وسيخرج علي المريدون من كل حدب وصوب بسؤال القذافي عفا الله عنه “من أنتم؟” حتما سأقول نحن الفقراء الذين لا ظهر لنا ولا سند، يا سيدي!
تنشر أديبة كبيرة رسائل وردتها من أديب آخر على مدى سنوات، تصوره فيها عاشقًا ولهًا مُدنف القلب، خرَّ ساجدا عند قدميها، وقد فتنه جمالها الموناليزي، لا أستطيع أن أتساءل بضعة أسئلة، أظنها مشروعة، من مثل:
-
لماذا لم تنشرها في حياته؟ ما الذي تخاف منه؟ لماذا انتظرت موته، رحمه الله؟
-
أين ردودها على هذه الرسائل؟ لمصداقيتها، ينبغي لها أن تنشرها. إذا علمنا أنها امرأة مستقلة متحررة، لا أظن أن ذلك من باب الخجل أو مراعاة المجتمع مثلا.
-
لماذا لم يذكر تلك الرسائل الطرف الآخر في حياته، وهو أيضا شخص مستقل وتقدمي الأفكار؟
-
لماذا لم يذكر تلك الرسائل صديق مشترك للطرفين البتة؟ ذكرتني هذه الرسائل بزميل عربي كان يعطي دروسا خصوصية لابن أحد الميسورين. بعد صدور النتائج وتأكد هذا الابن من نجاحه أنكر – هداه الله – على أستاذه حقه، ورفض إعطاءه أجره. عندها قال له هذا الزميل: “يا بني، هل نسيتَ أنني كنت أكتبُ بالأزرق [أي، نيابةً عنك] وأصحح بالأحمر؟”
مثل هذه أفكار مشروعة، ولا شيء شخصيا يدفعني للتساؤل، فأنا أستمتع بقراءة ما كتبته الأديبة نفسها من كتب أخرى، وتعجبني العذوبة واللغة الأنثوية الجميلة فيها، إن صح التعبير، وأحترم تاريخها الفني الغني.
أتيتُ بهذا المثال، ولا أنتقص فيه من مكانة أحد، لكنني أشير إلى خلل بنيوي في تعاملنا مع كتابنا وأدبائنا، فهم إما أن يكونوا آلهة وإما لا شيء. حسنا، أليسوا بشرا مثلنا؟ ومن الطبيعي أن شخصا يمارس الكتابة ثلاثين سنة أو أكثر، لن يكون بجاهزية كاملة صحيا ونفسيا طوال هذه المدة؟ ألا تمر عليه سنوات بؤس مثلنا نحن خلق الله العاديين؟ ثم ألا يترك هذا أثرا ملموسا على نتاجه في مرحلة ما؟
-
مؤتمرات وحفلات سرية:
تقام العديد من المؤتمرات والمهرجانات الشعرية والأدبية في هذا البلد أو ذاك، ونقرأ لبعض الأصدقاء أنهم فوجئوا بدعوتهم، ثم يحدثنا آخر أن الأمر ليس كذلك، بل هو “حُكَّ لي لأحُكَّ لك” وهي حفلات سرية بواجهة أدبية، ما علينا لن أطيل، والله يهنِّي سعيد بسعيدة.
-
النقد ومهرجانات التكاذب: