النمر المتأرنب

(ثقافات)

النمر المتأرنب

فراس ميهوب

لم تمضِ إلا بضعة أيام حتى تشرفتُ بالتعرف على أنمار، شاب طويل القامة، أشقر بعينين ملونتين، شعر طويل، ذقن بارزة للأمام تغطيها عنفقة عريضة وفوق الشفتين الثخينتين شاربان ناعمان.

لم يكن يخرج للعمل ومشاهدة المرضى ولا يحضر أبدا اجتماع الأطباء سواء أحضره رئيس القسم أم لا، اكتفى بالبقاء في غرفة المناوبة نهارات وليالٍ عديدة  وأحيانا دون فواصل.

أثار فضولي هذا السلوك الهامشي، أو “الهمشري”، والأغرب أن هذا الطبيب المقيم كان متفوقا ودرجاته الجامعية عالية.

تكشفت نزعته الانفرادية مع الأيام، قيل أنه شرس الطبع ولا يهتم بسلطة مهما كانت النتيجة، ولا أخفيك عزيزي القارئ أن هذا لامس فيَّ ميلا للتعاطف معه والاعتقاد بأنه بطل شجاع يسلك الطريق المناسب مهما كان الثمن.

لم تكن هذه هي الرواية الوحيدة، فقد سمعتُ من أحد الزملاء أنه ليس إلا جاسوسا لمدير المشفى، ولهذا كان محميا ولا يكترث بالآخرين.

كانت علاقتنا مع أنمار جيدة رغم أنه لم يكن منفتحا على الحديث بينما كنت مع زملاء دفعتني لا نكف عن الثرثرة في أوقات الغداء واستراحات العمل.

لكن حدثا فاصلا سيغير نهائيا نظرتنا إليه، في مناوبة عاصفة سادها عمل شاق، فوجئت بأنمار يقترب مني ويوجه لي تهديدا و وعيدا دون سبب واضح ويبدو أنه فقد السيطرة كليا على نفسه، احمرَّ وجهه كنمر يستعد للافتراس، لم أتمالك أعصابي ورددتُ عليه بعنف ولولا تدخل زميل لحدثَ ما لا تحمد عقباه.

 قاطعته بعدها تماما ونهائيا، وانقلب الإعجاب والتعاطف إلى تجاهل تام، واختفى عن رادار اهتمامي، ولا أذكر من ساعتها أي موقف مشترك، ولكن هذه الحادثة جعلت زملائي يعيدون النظر في علاقتهم معه، وتجنبوه بشكل شبه كامل.

زميلنا يسار كان له رأي مختلف، فقد اقترب منه أكثر، وكان الوحيد الذي زاره في شقته القريبة من الجامعة، نقل لنا بتندر أخبارا عن معيشته في ظلمة دائمة، إرخائه للستائر وعدم تحمله لأشعة الشمس ولو لدقائق قليلة:

يعيش أنمار كأنه أرنب في جحر مظلم، ولا يخرجُ إلا بعد إلحاح.-

لم يوضح يسار سر قدرته على استيعابه، جزم بأنه مريض نفسي، وسيحاول مساعدته على الشفاء!

لم أتردد بتحذير يسار من هذه العلاقة، والحقيقة أني لم أفكر بعواقب محددة ولم أضمر لأنمار أي شر، لكن التناقض بينهما كان صارخا، فيسار شاب منفتح، مرح بشكل مذهل، و ذي خبرة ملفتة في الحياة، أنهى خدمته الإلزامية وعاد ليبدأ رحلة الاختصاص، وفرض احترامه على الجميع بدماثته وذكائه وخفة دمه.

كان يسار فوق ذلك شابا وسيما، حسدناه قليلا على خطوبته من حسناء، الفتاة الجميلة خريجة كلية الاقتصاد والموظفة في إدارة المشفى كسكرتيرة لمديرها العام.

كانا متشابهين حتى بالشكل، أخبرَنا يسار بقرب زفافهما وأننا مدعوون برتبة الشرف فنحن أصدقاء العريس المقربون.

مضتِ الأيام على هذه الوتيرة أسابيع أخرى، حتى جاءنا نبأ عاجل بل نبأين معا، فقد جاء يسار كعادته باكرا إلى المشفى ولكنه كان منزوعا من شيئين لم يكونا يفارقانه: الابتسامة، وخاتم خطوبته.

كل شيء قد انتهى، والصدمة كبرى، حوقلنا وبسلمنا واستسلمنا للكآبة.

كان هذا النبأ حزينا، ولكن الآخر كان صاعقا، ولا يمكن لعاقل أو مجنون أن يتوقعه، الخطيبة الفاضلة والمخلصة انتقلت من حضن يسار إلى حضن أنمار الذي شفي على ما يبدو من عزلته وانقض كالنمر عليها.

2022/08/30

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. يسعد اوقاتك أستاذي
    قصة جميلة و مشوقة النهاية غير متوقعة و هذا بالضبط ما يجعل القارىء في حيرة..
    احترامي و تقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *