رأس مدركة.. نحو تأثيث فضاء الصحراء

رأس مدركة.. نحو تأثيث فضاء الصحراء

آمنة الربيع

رأس مدركة، الصادرة طبعتها الأولى عن دار عرب، لندن، ٢٠٢٢م إحدى الروايات العمانية التي ظهرت مؤخرًا للروائي يونس الأخزمي. رواية تجتزئ من عنوانها ما يدل على أنها رواية تحتفي بالمكان الغائر في ذاكرة الأجداد. بالإضافة إلى ذلك فتاريخ الأحداث في الرواية معاصرة يحكي من خلالها الأخزمي عن حياة مختلطة ومركبة مليئة بالأجناس البشرية الأصلية أو السكان المحليين؛ كالبدو والحضَر، أو القادمين إليها كالأوروبيين والآسيويين، أما الأماكن في رأس مدركة المختلفة مثل (اللبيتم، والكُحل، والدقم، وبنتوت، وخلوف، وصراب، وصوقرة، ومحوت، وغيرها التي لم تُكتشف بعد، يجيء السرد على ذكر أماكن أخرى متعددة لمدن أجنبية متحققة في الحداثة كمدينتي ليدز وديفون في بريطانيا، وأنطاليا في تركيا.

كلّ هذه الأمكنة وتشكّل عناصر السرد من خلال البحر واليابسة الخاصة برأس مدركة عناصر يمكنها أن توّجه الرواية ودارسوها إلى مقاربات تمهيدية للنقد البيئي والوقوف على ما يتهدد رمال صحرائها، أو أعماق بحرها من مخاطر وتهديدات وكوارث طبيعية أو تقلبات في الديموغرافيا، ويُعبر عن ذلك التخوّف يونس الأخزمي في الرواية البالغ عدد صفحاتها (301) على لسان شخصية التاجر (باعبود) ناصحًا لديفيد محذرًا إياه من التوّرط مع شخصية التاجر (أبو مريم) قائلا له: “البنجاليون استعمروا البحر بسبب الشيوخ-ص151” وتتضمن هذه الجملة إشارات نقدية كثيرة ودلالات خطيرة.

يُسجل الأخزمي وعيًا بهذه المسألة ضمن أجزاء ثلاثية بحر العرب (برّ الحكمان-2016م، غبّة حشيش-2018م) المتصلة المنفصلة في آن ويتحرك وعيه في منطقة خصبة أخذت الأعمال الروائية العمانية الالتفات إليها كمشاريع سردية بشكل مكثف. يكتب واصفا بيئة البحر الذي ستتبلور حول مياهه وجواهره وساكنيه أحداث أزمنة مرتحلة ما بين 1904م-2018م وما على القارئ إلا أن يحبس أنفاسه وهو يخوض مغامرة المفاجآت غير السّارة مع انكشاف ذوات الشخصيات وطموحها ومخاوفها في الرواية: “ارتعبت أسماك السطح الصغيرة، وهربت باتجاه الشعاب المرجانية القريبة، وبعضها سبح باتجاه المياه الضحلة الممتدة في البعيد وعادت السرطانات الخضراء الصغيرة إلى حفرها في الرمال-ص8” وفي موضع آخر يكتب: “توسعت ابتسامته أكثر وهو يتذكر أنها المرة الثالثة، في غضون فترة قصيرة التي تَعَلق فيها عبّارة على صخور رأس مدركة، التي ثُلمت أطرافها بفعل زيارات غواطس السفن المتكررة والعبّارات الضالة طريقها طيلة السنوات الماضية-ص19″؛ فالنظرية النقدية حول البيئة كما يكتب المترجم نجاح الجبيلي في كتاب (النقد البيئي مقدمات، مقاربات، تطبيقات-ط1- دار شهريار¬-2021م) أن “النقاد البيئيين يتخذون من الطبيعة عاملًا مهيمنًا، فهم يؤمنون بأنّ تطوّرنا كمجتمع يعتمد بصورة كبيرة على قوى الطبيعة. فيرى هؤلاء النقاد أنّ العالم الذي نعيش فيه لا يتشكّل من اللغة والعناصر الاجتماعية فحسب-ص5″، وفي صفحات الرواية قرأنا عن ذلك العالم الذي تشكّل عبر عدد المرات التي غاص فيها (ديفيد) بحثًا عن صناديق الذهب؛ كالريح التي اشتدت على الصخرتين والتيارات المائية الشديدة الهائلة والصخور التي توزعت في كل مكان في أعماق البحر وعلى الجدران والحُفر، غير ذلك إلى فصل الخريف الذي يهيج فيه البحر، أو الفصل الذي يدفع بأهل المخيمات في الصحراء إلى النزوح نحو بيئات أكثر دفئا.

في النسيج السردي الشائق بالأمكنة والشخصيات يلفت السارد انتباهنا إلى المفاهيم والأفكار والرؤى الاستعمارية التي كوّنها القادم إلى أرضنا عنّا، ليتسنى له كتابة تاريخنا لنا. وقد تكررت تلك الشذرات في حوارات الشيخ (شالح) مع ولده (سند) وكرهه المتعاظم للإنجليز. فليس خاف الحمولة الأيديولوجية التي بنت بها (روز إنرديل) قصتها عن البدو، فهم كالوحوش الضارية، فتكتب سطرها الأول الذي يُعد بمثابة فتح لشهية القارئ وجرّه إلى تمثيلات السرد العجائبي. تفتتح روز مذكراتها بهذه العبارة: “هذه قصة لا تُصدق، وأنا نفسي لم أكن لأصدقها لو أنني سمعتها من غيري. لكننّي عشتها، كنت وسط أحداثها […] فهنالك في تلك الصحراء القاحلة قتلة مجرمون لا يزالون طلقاء […] منتصف مايو عام 1904م […] البدو لن يهاجموننا إلا إذا رفضنا أوامرهم، وأوامرهم لن تكون سوى أن نُسلمهم كل ما نملك من أموال وطعام…-ص182”

هكذا يجري تحفيز مخيلة القارئ الغربي تجاه فضاء حياة البدوي الصحراوي؛ البدوي الغامض الشديد الغرابة؛ إذّ تستمر روز في قصتها التي لا تُصدق لتأثيث عقل حفيدها بما كان قد جاء على لسان مايكل، من نحو ذلك الحديث: “القصص التي سمعتها تقول بأنّ خلف هؤلاء الأربعة يختبئ العشرات ممن يحملون السكاكين والرماح والبنادق، المَثْل يقول الحذر أفضل من الندم”، أو قوله: “لسنا أغبياء يا هذا، نعرف نواياكم جيدا […] بعضهم لو أعطيتهم كل ما تملك من مال وطعام، فلن يكتفوا، وإن حاولت الاعتراض فسيسلخون جلدك”، أو “انتَبَه مايكل إلى شلة البدو الذين جاؤوا مهرولين نحونا، فطَلب منّا الجري بأقصى ما نملك من سرعة باتجاه الزورق. ركضنا وأصوات البدو تقترب… كان البدو يقتربون منا وهم يومئون لنا بالعودة، لكن مايكل ما زل يعيد على مسامعنا بأن لا مجال للثقة فيهم مهما حاولوا هم أن يبدوا طيبين مسالمين”.

ولإكساب المُخيلة طاقتها الثرية وفق الأفكار والقصص العجائبية المترسخة في ذهنية المستعمر يأتي ربط قوة البدو مع طاقة السّحر، فيكسبها قيمة مضاعفة ويجري تأكيد ذلك في مقطع الرواية التالي: “إن البدو يملكون قدرة غير طبيعية على فعل ما لا يقبله العقل، ومنها قدرتهم على جرّ السفن والبواخر باتجاه الصخور”.

تبدو لنا رغبة السارد هنا هي الذهاب إلى العمق الثقافي للأوروبي الإنجليزي من خلال التأكيد على ما تُفكر به عقلية مايكل وزوجه معا، وذلك تبعًا لرؤيتهما المكونة من قرون تاريخية ثقافية انبنت عليها حضارتهما، تكتب روز: “هجم البدو علينا بسرعة الرِّيح، كقطيع من حيوانات مفترسة، تسمّرنا في مكاننا بعد أن تجمدت الدماء في عروقنا. كانوا يطلقون صيحات كأنهم ذئاب مسعورة.. رفعوا ثيابهم فانكشفت السكاكين التي كانت مخبأة في وسطهم”.

تعدُّ كلمات (روز) القادمة عند توقفها لتصف هذا المشهد الذي ظل يتكرر في خطابات الاستشراق أو الفنون والأدب بوجه عام على أنحاء متباينة واحدا من المشاهد التأسيسية التي تخفي خلفها رسالة ضمنية مفادها الإبادة لجميع المتوحشين، فتصف قائلة: “توقفت في القريب وأنا أشاهد المنظر المؤلم الذي لن يغيب عن مخيلتي طوال حياتي. تكاثف البدو على البّحارة المساكين الذين لم يكونوا يملكون ما يمكنهم الدفاع به عن أنفسهم، بل إنهم حتى لم يحاولوا الفرار من وسط المعركة من وقع المفاجأة… هجم أحدهم على سام، وحشر نصله في بطنه، ثم أتوا على البقية فقتلوهم، طعنوا حتى أولئك الذين رفعوا أيديهم مستسلمين. لقد تحول البدو في لحظة إلى وحوش، تفوقوا على الحيوانات المفترسة في كمية الشر داخلهم، يتراكضون في كل مكان وهم يصرخون ويزأرون، بل ويرقصون فرحين بجريمتهم. لم أصدق في سنوات حياتي السابقة، ولا في سنوات حياتي الباقية، أنه يوجد بشر على ظهر الأرض، لا يملكون قلوبا في صدورهم أو مشاعر رحمة في نفوسهم. تساءلت في لحظتها هل يملكون أبناءً؟ هل يشعرون بالألم لو أن أحدا اعتدى عليهم وقتلهم غير عابئ بمشاعر آبائهم؟!”

إن خطاب شخصية (روز) هو خطاب المُقر بعدم وجود بشر على ظهر الأرض بلا قلوب. إنه خطاب مشحون بالازدراء ومحمول بالاستعلاء نحو الآخر، ولقد أجاد يونس الأخزمي جعل تلك الأفكار والرؤى تتنزل في لغة بسيطة سلسلة، وقصة متوغلة في صحراء يقودها مغامر مجنون، إنه أحد أشكال الجنون الذي يُغير العالم. وليس بطل المغامرة ديفيد وحده الذي قادته مطامع زوجه (صوفيا) وجشعها إلى ارتياد رحلة محفوفة ظاهريا بالفشل، إنما يمكن أن يتقاسم معه بطولات أجنبية أخرى يجسدها التاجر الآسيوي (أبو مريم)، القادم لتجريف البحر والرمل بمعاونة شيوخ المنطقة، وكذلك الشيخ (سند بن شالح) الذي يكشف لنا باعبود في آخر الرواية أنه أحد القتلة الفارين. إنّ وجود هؤلاء يتصل بتعدد مستويات خطاب الاستعمار الحاصل في المنطقة، وعندئذ تتوفر لدى القارئ رؤيتان استعماريتان، داخلية وأخرى خارجية، تدفعان بخطاب السرد نحو امتدادات أخرى، وتفتحان التحليل على تفكيك فضاءات البؤر المحتشدة؛ كالبيئة الصحراوية، بيئة الحضر، اللغة، البحر، الصراع الداخلي للقبائل على النفوذ والهيمنة والسّلطة وغيرها من العناصر.

  • عن صحيفة عُمان

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *