ضفيرة العشق: قراءة في رواية “الكراكي” لـ حسن حميد

ضفيرة العشق

قراءة في رواية “الكراكي” لـ حسن حميد

د. رؤى قدّاح

كطائرٍ حرٍّ يتمرّد حسن حميد في “الكراكي” مؤثراً التحرّرَ من تقليديّة الرواية، واختبارَ آفاق تجريبيّةٍ من خلال تعويم الزمان، وتفكيكِ أوصال السرد ليغدوَ نصّهُ أشبه بضفيرةٍ سرديّةٍ تتداخل فيها الحكاياتُ والأمكنةُ والأزمنةُ، وتتعالقُ جميعُها في انبنائها على ثنائياتٍ عشقيّةٍ تتباعدُ وتتقاربُ، وتتعاورُها أحوالُ العشق والشغف والتعلّق والخوف، وتستبدُّ بها هواجسُ الفَقْد لتدخلَ في رحلات بحثٍ لاهثٍ عن الآخر تفضي جميعُها إلى مصائرَ مأساويّة كالموت، أو الجنون، أو الغرق في متاهة الأمل الذي تتأرجح إمكاناتُ تحقّقه بين المستحيل والمرجوّ.

تتكئ الرواية على مذكرات جدِّ الراوي الأول المحفوظةِ في صندوقٍ عتيق. تحكي المذكراتُ حكاية مدوّنِها الجدِّ “إلياس الشمندوري” الذي سمّته أمّه اسماً مؤقتاً هو “عبودة”، فتستدعي ذكرياتُهُ إلى ذاكرة المتلقي جميعَ قصصِ الذكورةِ القدسيّة أسطوريّاً ودينيّاً، الممهورةِ بهشاشة الجسدِ، ورقةِ الوجدان، ومأساويّةِ المصير. تنفلتُ الحكاية من الصندوق الذي يهبها بعداً تاريخيّاً وآخرَ وجوديّاً، وبانفلاتها من المخطوط المحفوظ في العتمة تتحرّرُ من صمت الورقِ إلى فضاءِ المحكيِّ. وعبر النص تتشكّلُ ذاتُ البطل المثقلةُ برمزيّتها المتعالقةِ تعالقاً قصديّاً مع المكان “قرية الصبيرات” المتراخيةِ على كتفِ بحيرةِ “طبريا”، حيث الطبيعةُ البكرُ، والماءُ المقدّسُ، وترتسمُ ملامحُ تاريخيّةِ المكان الناشئةُ من تضافر أساطيرِ الإلهة الأم الخالقةِ ذاتِ المهد الشاميّ، والعقائدِ الوشميّة الحرّة للغجر العابرين بين الأردن وفلسطين، وسيرةِ السيد المسيح. وهذه التاريخيّةُ عمّقت بُعْدَي شخصيّةِ البطلِ “عبودة” الذي (عاش في الأزمنة الغابرة)؛ ونعني بهما: البعدَ الرمزيَّ والدينيَّ، والبعدَ الوجوديَّ المرهقَ بتصاريف القدر، والاختيارِ، والعبث، والسعي المحمومِ إلى الآخر؛ حيث الاكتمالُ المشتهى، والمعرفةُ الخالصةُ. وقد مهّدَ “حميد” لهذين البعدين بعتبتين افتتحَ بهما روايته؛ حملت أولاهما عنوانَ : “عتبة لا بدّ منها”، وفيها حكى كيف قام الراوي الأول بكسر قفل الصندوق الذي يتضمنُ مخطوط مذكراتِ جدّهِ، مستلهماً أسطورةَ “صندوق باندورا” التي تقرنُ اللعنةَ بالتمرّد والانكشاف والفضول والرغبة في المعرفة. وحملت ثانيتُهما عنوانَ: “تصدير”، ومن خلالها غرس “حميد” مذكراتِ الجدّ ضمن فضاءٍ زمكانيٍّ مرتبطٍ بالسيد المسيح، كاشفاً معاناته وبشارتَهُ بأنّ هذه الأرض ستشهد الكثيرَ من المطاردات، لكنّ الغرباء راحلون عنها لا محالة.

شكّلَ “حميد” ضفيرته السرديّة من ثلاث حكاياتٍ عشقيّةٍ رئيسةٍ، تجري كلُّ واحدةٍ منها في مسارها السرديّ، ثم تتداخلُ مساراتُها تداخلَ خصلاتِ الضفيرة، مولّفةً حكايةً واحدةً في جوهرها الوجوديِّ، وقد اكتمل اندماجُها في وحدة المصير المأساويِّ لأبطال الحكايات، وفي أنا السارد التي توحّدَ فيها العاشقان المستبدّان بالسرد: عبودة، والزهروري.

أولى الحكايات هي حكايةُ “هدلا” وزوجها “عزيز” الذي فارقها ليعمل في الميناء، ولم يعدْ، وبعد سفره بقليل أنجبت طفلَها “عبودة”، وربّته حتى شبّ، وعشقَ الراهبة “ماريّا”، وبعد اختفاء “ماريّا” رحل باحثاً عنها، وفي أثناء غيابه رحلت “هدلا” لتفتش في الموانئ عن زوجها المفقودِ. وثانيةُ الحكايات هي حكايةُ “عبودة” الذي ولد واهناً ضعيفاً، وطوّبهُ سيّدُ الغجرِ خالاً جديداً للقرى، يهبُها المطرَ والخيرَ والثمرَ، وبموت السيّد تحرّرَ “عبودة” من رتبة الخال، وربّتهُ أمهُ بمساعدة “طنّوس” راعي الكنيسة، فتعلّق قلبُه بالراهبة “ماريّا” ابنةِ “طنوس” التي تكبره بأعوام كثيرة، وبعد غيابها في الشام بقي رجاؤه معلّقاً بأفق انتظارٍ عقيمٍ، وبينه وبينها الجنودُ الشقرُ الذين منعوا الناس من دخول المدن المقدّسةِ إلا بتصريح. وثالثةُ الحكايات هي حكاية “الزهروري” حارسِ أجرانِ الماء الساخن الذي تعشّقَ “فضة” الغجريّةَ، فغادرتهُ مكرهةً وتبعت قومَها الذين لا مدائن لهم، بعد أن وشمت جسدَه بفتنةِ المعرفة، ووشمت ذاكرتَهُ برائحة جسدها، فارتحلَ ذاهلاً عن عالمه، مفتّشاً عنها، هاجساً بها، وقد أدرك أنّ الحياة بعدها ضربٌ من المستحيل.

وضمن هذه الحكاياتِ الرئيسة بثّ الروائيُّ حكاياتِ عشقٍ صغرى؛ هي: حكايةُ الأب “طنوس” الذي خُطِفتْ زوجهُ وهي في طريقها لزيارة مدينةِ “سيّدِنا”، فانصرفَ لخدمة الكنيسة، ولرعايةِ طفلتهِ “ماريّا”. وحكايةُ “المبروك يحيى” الذي كان يبيع الحاجياتِ لنساء القرى فهامَ حبّاً بإحداهنَّ وهامتْ به، لكنّ أهلها زوّجوها لآخرَ، فاقتحمَ “يحيى” العرسَ، فضربه شبابُ القرية حتى اختلّ عقلهُ، وفقَدَ النطقَ. وحكايةُ “عوفة” البهيّةِ كبحيرة طبريا التي تمنّعت في احتفال ليالي القصل على “نجيم”، فأصاب الفيضانُ والخرابُ القريةَ عقوبةً لها، فندمت ووهبت نفسها له.

وفي هذه الثنائيّاتِ العشقيّة تبدو الذكورةُ الغالبةُ سرديّاً سالبةً، تعاني ضروبَ العطالةِ والعجزِ، وقد سُدَّت في وجهها جميعُ دروبِ الخلاص، وتبدّت تلك العطالةُ في الضعف والمرض والعزلة والاختلال والغربة والموت، وجميعُها كانت نتاجَ الفَقْدِ، أو خشيةِ الفَقْد، فَقْدِ الأنثى؛ فـ “عبودة” كان على امتداد الحكاية مريضاً ضعيفاً قلقاً، محموماً كلّما اقتربت منه “ماريّا”، أو ابتعدت، ولفرط خشيتهِ من أنْ يفقدها كان يهجسُ بأنّ قاطعَ طريقٍ خطفها. و”الزهروري” فَقَدَ قدرتَه على التوائم مع عالمه بعد فَقْدهِ لـ “فضة”، والأب “طنوس” نذرَ نفسه لخدمة الكنيسة بعد خطف زوجته، وحين غابت ابنتُه “ماريّا” مات. و”المبروك يحيى” فقَدَ عقلَه حين سُلبتْ منه حبيبتُه، و”عزيز” حبيبُ “هدلا” الغائبُ الحاضرُ أمضى العمرَ تائهاً في موانئ الغربة، كمنْ لا وطن له.

أما الأنوثةُ فتنتصب في النص قويّةً فاعلةً، تقبضُ بكفّها على معنى الحياة والمعرفة والحكمة، وتملكُ القدرةَ على التغيير والتحويل، وتوقظُ في مخيّلة القارئ صورةَ “شمخة” التي قدّمت لـ “إنكيدو” بطلِ ملحمةِ “جلجامش” الجسدَ والخبزَ والخمرَ فحوّلتهُ من كائنٍ فطريّ متوحشٍ وابنٍ للطبيعة البكرِ إلى آخرَ متحضّرٍ؛ فـ “هدلا” التي غاب زوجُها ربّت طفلَها وحدها، وحين شبّ وتعلّق بحبيبته تذكّرت عشقَها، ومضت تفتشُ عنه في موانئ التيهِ الغريبة. و”ماريّا” هي التي علّمت “عبودة” الرسم والموسيقا، وحين رآها أول مرةٍ عاد إلى أمه محموماً بها، فأدركت الأمُ أنّ ابنها صارَ شخصاً آخرَ، وأنّ روحاً قد داخلتْهُ. و”فضة” الغجريةُ التي وشمت جسدَ “الزهروري” بعبارة: (الغجر أوفياء، ويعودون) رحلت، وقد غلبتْ عشقَها قوةُ العُرفِ والانتماء إلى الجماعة، رحلت بعد أن صيّرت “الزهروري” كائناً آخرَ يراها وحدها معادلاً للحياة.

يمكننا وصفُ رواية “حميد” بأنّها نشيدُ الأنوثةِ، ليس بسبب تلك المشهديّةِ الشعريّةِ الآسرةِ التي احتفى فيها بالجسدِ الأنثويّ وشؤونهِ وشجونهِ وتفصيلاتهِ، وبما يليق به من عشقٍ، وحسب، وإنّما لأنّه ربطَ مصائرَ أبطالهِ بالأنثى فإذا غابت فقدوا قواهم، وماتت فيهم نوازعُ الحياة، ولأنّه أيضاً أثرى نصَّهُ بالرّموز الأنثويّةِ والطقوسِ العباديّةِ المرتبطةِ بالإلهة الأمِ، وبالدياناتِ الزراعيّة العشتاريّة الأموميّةِ القمريّةِ التي ظهرت في الشام والرافدين؛ كوصفهِ الاحتفالَ بالبلوغ الأنثويّ، واستخدام المحتفلين رمزين عشتاريّين؛ هما: سوقُ القمحِ الملونةِ وحليبُ الذرة، وكوصفهِ لليلة القمرِ التي تنزلُ فيها النساءُ إلى الماء ويوقدنَ الشموعَ مبتهلاتٍ للقمر رمزِ الإلهةِ الأم ليقضيَ حاجاتهنّ، وكوصفه أيضاً لفدوةِ البحيرةِ التي تقوم فيها العذراواتُ برمي أنفسهنّ في بحيرة طبريّا شكراً لها؛ لأنّها تهبُ الناسَ الماءَ والخير والطبيعة.

ويكتملُ النشيدُ الأنثويُّ من خلال السيرةِ الأنثويّةِ للمكان؛ وهي سيرةُ بحيرةِ طبريّا التي اكتسبت اسمَها من “ريّا” العاشقةِ التي أسقمَها غيابُ معشوقِها، وتداوتْ بماء البحيرة وعشبها؛ فسُمّيت البحيرةُ “طبّ ريّا”؛ ففي الحكاية تتعافى الأنوثةُ بعودتها إلى عنصرها الأوّليّ، الرمزِ الألوهيّ الخالقِ في الديانات القمريّة الأموميّةِ؛ وهو الماءُ، وابنتهُ الطبيعةُ المتآلفةُ مع إيقاع الجسدِ الأنثويّ. أما المعشوقُ الذكرُ فقد حمل اسم “الغياب…

  • عن الأسبوع الأدبي

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *