محمد عطية

بقايا رماد (قصة قصيرة)

(ثقافات)

قصة قصيرة

بقايا رماد

محمد عطية محمود*

 

 

 

جثم الصمت فصار لثامًا لما حوله.. انتزع الآهة من صدر ضاق بعبراته..

تململت الآهة.. تحولت إلى نظرات متسائلة تجوب بحثًا في المكان الذي صار ضيقًا برغم اتساعه على براح يظاهره البحر بلونه الرمادي الثقيل؛ فلم تعد لديك المساحة التي تستطيع أن تستفهم فيها أغوار تلك النظرة الجاحدة التي انسالت من عينيها.. كأنما تهرب من محجريهما اللذين كانا متواريين منذ قليل خلف نظارة سوداء تعتصم بها من ضوء الشمس وحرارتها، تحذف كل البريق، وكأنما تتغاضى عن تاريخ صاخب، وتعصف به نحو لُجة البحر، تتناسى حدود المكان الذي لم يعد لائقًا بلقاءٍ يبدو فاترًا، بعدما كان جزءًا من تضاريس القلب التي اعتلتها المشاعر يوما، وكأن القلب يتخلص من خفقاته القديمة الزائدة، مع كل محاولة لنفض الغبار عن ركن قصي في متحف للذاكرة المجهدة..

ذهبت أناملها مرتعشة نحو علبة سجائرها – البيضاء الملطخة بخطوط حمراء تكتنفها نقاط صفراء داكنة – في أغوار شنطتها الرمادية.. جاهدت في فتح العلبة، فيما لفافاتها المعدودة تتمايل بداخلها على جانبيها وتتخبط كسيقان نحيلة.. انتزعت إحداها تفرغ فيها توترًا غير بادٍ، لتتأرجح بين شفتيها الغامقتين غير المضمومتين عليها، قبل أن تعود يدها من رحلة بحث بالشنطة بقداحتها، فتشعلها، فيما عيناها شاخصتان في مدى بعيد.. ثم راحت تتولى أظافرها بالقضم على مهل..

يزداد الصمت توغلًا، وعيناك لا تفارقان الملامح التي اكتست – برغم ما يمور أو لا يمور بداخلها – بمسحة رخامية، تلتمع ببريق خافت لما يغطي بشرتها من مسحوق خفيف، وكأنما صارت قطعة هاربة من متحف قديم.. تتمادى نظرتك تحاول اختراق السطح الأملس الذي يخفت بريقه تدريجيا، وتخفت معه انعكاسات مساحات الضوء التي تغشى المكان عليه، فيزداد ضعفًا وبهتانًا برغم تماسكه.. تبدو لك كمحارة منغلقة على خبيئتها (ربما كانت لؤلؤة ناضجة، أو رمالًا منسحقة) وكأنما التحم شفراها وتكلسا.. تتحول المرآة التي كانت تلوح لك فيها ذاتك جلية، إلى سطح مصقول معتم لا يعكس شيئا ولا يشف عنه شيء.. تضيق عليك زاوية المكان..

تتساءل في صمت يخصك: “لم نعود دائما إليها؟!!”..

تتحرك عيناك.. تعاودان استكشاف المكان الذي خلا من سواكما، وحجبت عنه المظلة الخارجية التي انسدلت أكثر ما تبقي من ضوء الشمس المنسرب، والذي سطع في الخارج ومنح العالم بساطا من دفء وحركة..

تظل نظرتها ساكنة جامدة لا تتحرك.. تزداد وجومًا.. ويبقى الرماد المتخلف عن اشتعال لفافتها منتصبًا كعمود في مكان احتراقه يقاوم الانهيار.. يهتز ثم يميل حذرا، إلى أن تنتبه إلى كوم الرماد، وهو ينهار على ركبتها التي اعتلت بساقها ركبتها الأخرى واستند عليها مرفق يدها اليسرى، فتنفث نفثتها التي كانت تختزنها بداخلها، لتبادر – في ذات اللحظة – بإخراج لفافة جديدة قبل أن تواري القديمة أحشاء المنفضة التي تباعدت عنها..

فيما تذوب رائحة الدخان في المكان.. تقتحم يداك المشهد: اليمنى تقرب لها المنفضة، والأخرى تحاول حجب يدها عن استلال اللفافة الأخرى.. تدفع يدك بيدها المشغولة ببقايا لفافتها القديمة، فيتساقط باقي رمادها العالق على يدك.. تجفل.. تستعطفك عيناها بنصف نظرة باهتة شبه ممتنة، فيما تظل يدها الأخرى ممسكة بالعلبة.. تتردد في وضعها على المنضدة.. ترضخ عيناها نصف رضوخ لنظرة عينيك المعاودة للتساؤل الصامت، ولا تنبس بكلمة واحدة.. تبتسم ابتسامة واهنة يلوح فيها شبح قديم لنظرتها التي كنت اعتدتها، ثم ما يلبث أن ينطفئ ما علا فيها من بريق بغتة، وهي تحاول إبعاد نظرة عينيها الممتنة عن بريق عينيك المتطلعتين إلى المزيد..

تباغتك نظراتها – التي تعانقت مع نظراتك المتأملة لظهرها الذي بدا محدبا منكفئا – وهي تجوس – في قلق باد – في فوديك وجانب شعر رأسك المواجه لزاوية نظرها، الذي تراوح بين الأبيض والأسود والرمادي.. تتمسح عيناها في المساحة ما بين رأسك ورقبتك إلى كتفك الذي لا يزال منتصبا، وكأنما تحاول إغماض عينيها، لتقبض على لحظة مرت على الذاكرة التي تحجرت.. تتمسك باستعادتها.. ثم تتراخى.. كأنما تتفلت منها؛ تعاود السهوم، وكأنها انسلخت من أخرى تشبهها، أو أن النظرة أفرغت ما يموج فيها..

تتسحب يدها، تلتقط علبة السجائر، تقتنص لفافتيها الأخيرتين. بحسم تمد لك يدها بواحدة – دون انتظار لرفضك أو قبولك – وتلقم الأخرى شفتيها بلا تردد.. تشعلها دون اكتراث، فيما تناولك القدَّاحة كي تشعل بها لفافتك..

حينما ولى كل منكما للآخر ظهره، وأنتما تغادران المكان؛ وتواجهان ضوء الشمس الساطع ورائحة هواء البحر المضمخة بعطر غامض، كانت علبة سجائرها مازالت تقبع فارغة وحيدة على المنضدة، مع بقايا الرماد الذي تناثر على سطحها الزجاجي المستدير!!

* كاتب من مصر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *