شهادة إبداعية (رواية المؤابي)

في الكشف عن نوايا الكاتب.. ما علمنا منها وما لم نعلم

شهادة إبداعية (رواية المؤابي)

 سامر حيدر المجالي

هل الشهادة الإبداعية تكشفُ نوايا الكاتب؟ إن كانت كذلك فإنها مهمة محفوفة بالمخاطر؛ ذلك أنها تغوص عميقًا نحو مناطق قد لا يدرك الكاتب نفسه وجودها في كثير من الأحيان.

ولعلَّ أصل القضية يعود إلى أن للرواية -تحديدًا- خصوصيةً تميّزها عن أجناس الأدب الأخرى؛ فهي مجموعة أحداث تقوم -إن سمحنا لأنفسنا بالاستفادة من الفلسفة الكانطية- على مبدأ العلة الفاعلة؛ أي على ثلاثية الزمان والمكان والسببية. هذا المبدأ ليس وعاءً للرواية فحسب، بل هو السُّنَّة العامة التي تحتوي كل حدث ممكن من أحداث الوجود. فهو في حقيقته منطق الأشياء، وميزانها الفيصل بين الصدق والكذب، وبدونه يسقط العقل في هاوية من الجنون. هل يمكن تخيُّل حدثٍ لم يجرِ في مكان؟ أو لم ينضج على آنات الزمان؟ أو جاء من العدم فكان دون مؤثِّر ظهر به إلى الوجود؟ الرواية والواقع شريكان في هذا الأسر، وعليه لا يمكن للرواية أن تحقق جدليتها مع الواقع فتنتمي إليه، وتكون على الوصف الذي وصفها به نقاد القرن العشرين؛ أي “واقعًا مألوفًا محمَّلًا بمعانٍ إضافية”، إلا متى اكتملت عناصرُها هذه.

هنا بيت القصيد؛ فثمة ألفة ومعها إضافة؛ ومن الضروري جدًّا أن نضع خطوطًا كثيرة تحت كلمة إضافة؛ لأن الإضافات والهوامش أخطر بكثير من المتون. أما الألفة فهي الشَّبَه بالواقع الذي يدركه قارئ ذكي محنك، فإن اختلَّ اغتربت القصة عن قارئها.. وأما الإضافة فهي ملعب الكاتب، بل نيّته حين يرمي إلى إعادة تشكيل الأشياء ضمن علَّتها الفاعلة، ليقنعك بوجهة نظره.

إن شهادة الكاتب على ما كتب هي هذا الوضع المعقد المتعب نفسيًّا له، أي التعامل مع سببية مركَّبة، تتجاوز الطبيعة وأحداثَها، لتحفر في سببية نفسية، أو في تواطؤ بين الكاتب ونصه يسير لتحقيق غاية ما.. إنها ثنائية وَقَفَ النقد أمامها طويلا، ثنائية النتاج والمنتج، الخالق والمخلوق. وبموجب الشهادة الإبداعية بات على الروائي أن يكشف عن أساليبه وحيله، ليخبرنا عن شِبه العالم الذي ابتدعه، عن شيء يشبه “بينوكيو” الذي هو أقرب مثال لعلاقة الرواية بالواقع؛ بينوكيو المتأنسن الذي تاه بين الخشب واللحم والدم وتوَّه صانعه معه، هذا العالم بما فيه من فجوات ومبالغات، وخيال، وكذب منمَّق، وإرادة غير بريئة، وبراءة غير مريدة، يشكل بمجموع عناصره عملَه الإبداعي.

إنه كشف للنوايا، لذكاء الكاتب ولجهله في آن معًا، وبعث له من رقاده الذي أراد أن يفرضه عليه أصحاب التحليل البنيوي.

فما الذي يمكن قوله عن المؤابيّ الرواية؟ إنه ليس ببعيد عن المؤابيّ الكاتب الذي وصل به الأمر في بعض مراحل الكتابة إلى أن تقمص شخصية عدنان بن كريّم المؤابي حتى ضجَّ منه أطفاله، وسألوا أمَّهم عما أصاب والدهم من تغير في شخصيته ولهجته.. واستفهموا عن تلك الأبيات من الشعر النبطي والأهازيج العجيبة التي بات يترنم بها قائمًا وقاعدًا وسائقًا ونائمًا وسارحًا في ملكوت الله.. حدث ذلك منذ أن تخيَّل الكاتبُ بطلَه رجلًا أربعينيًّا؛ أي في مثل عمره، يعيش في جغرافيا يعرفها بتفاصيلها كافة، ويفكر بطريقة ما زالت مألوفة رغم مضي قرن كامل على زمن أبطالها، أو يزيد.

ولقد كُتبت الرواية على مرحلتين: مرحلة مهَّدت للحدث أنثروبولوجيًّا، وشكلت عشرة بالمئة من حجم الرواية، وأنجزت في العام 2017. ثم استغلقت الرواية على كاتبها ثلاث سنوات حتى العام 2020، فكان بعد هذا الاستغلاق أن استوت العناقيد مرة واحدة، وكُتب باقي الرواية خلال شهرين فقط.

أما عدنان بن كريم المؤابي، أحد أبطال الرواية، فلم يكن شخصًا بعينه من شخوص تلك المرحلة؛ لقد تكوَّن من أشخاص كثيرين، وهذا هو ما أسهم في إنقاذ المؤابي الكاتب من سطوة الشخصية التي كانت تلوح في البداية، ولعلها -لولا أن تنبَّه لها- هددت عمله بأن يكون مجرد وثيقة تاريخية ليس فيها من الإبداع نصيب..

تلك بالتأكيد؛ أي التوثيق وسرد التاريخ كما هو، ليست مهمة الأدب؛ فثمة اجترارات كثيرة يمكن لنا أن نجدها في كتب تكرر فكرة واحدة عن شيء بعينه، أو في صفحات تواصل اجتماعي تلوك وتحرّض وتطبخ وتنفخ دون أن تقدم شيئًا جديدًا، أو قنوات إعلامية تستنسخ الواقع بخيره وشره، أو في حكايا الجدّات، أو في أعراف الجماعة وأدبياتها..

على الأدب أن يخرج من هذا كله فيملأ الفراغات، ويبحث عن الأشياء الإضافية التي لا تظهر إلى العلن؛ إمّا لوقوعها في منطقة المحرمات، وإمّا لخفائها عن الأذهان ووعورة المسالك صوبَها.

وعليه قبل ذلك كله أن يقدم حكاية متماسكة تصلح لأن تُعجَن من مادتها رواية.. وبمنتهى الصراحة، هذا هو الشيء الذي بتنا نفتقده في وقتنا الحاضر، وسط هذا الانفجار الروائي الذي يتسع كمّيًّا بشكل لافت للأنظار.

تناولت الرواية تاريخ مدينة الكرك خلال السنوات العشرين الممتدة بين العامين 1900 و1920، وهي فترة غنية بالأحداث، شهدت ولادة خط الحديد الحجازي، وانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد، وحرب البلقان، و”هيَّة” الكرك، وثورة الشوبك، وثورة حوران، والحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية، ومعركة ميسلون، ودخول الاستعمارين: البريطاني والفرنسي، إلى بلادنا، وغير ذلك كثير.

في هذا السياق كان لا بد من محاولةٍ لكشف وجه آخر للحقيقة، بل وجهين: أولا، مدينة الكرك، ليس بوصفها إقليمًا منعزلًا عن محيطه؛ فقد كانت الكرك جزءًا مؤثرًا في شرق الأردن وفي سورية الكبرى، وتفاعل مع محيطه، ووصل بعض أبنائه ليكون مندوبا في مجلس المبعوثان، ومن ثم عضوًا في الحركة القومية العربية الناشئة..

ثانيا -وهو الأهم، “الهيَّة” نفسها؛ أي الثورة التي خاضتها عشائر المدينة وحلفاؤها المحيطون بها ضد الدولة العثمانية. وهنا مكمن صعوبات كثيرة؛ منها فصل الجانب العشائري – الانفعالي؛ المتصوَّر جهلًا بالواقع، عن حقيقة الحدث؛ ذلك أن هناك شواهد تشي بأن الثائرين لم يكونوا محض عشائر غاضبة خاضت معركة مرتجلة مع السلطة الحاكمة؛ بل كان هناك تخطيط وتربص ونوايا مبيتة من قبل الثائرين؛ أي أننا أمام فعل سياسي مكتمل العناصر، يحتاج وقفة من أجل تحليله وكشف معالمه.

 ومنها إزاحة الهالة المقدسة عن الحدث وشخوصه حتى بات -بسبب القداسة- مجهول التفاصيل؛ إذ ليس هناك غير الموروث الشعبي، وقصاصات ملتقطة من صحف عثمانية صدرت آنذاك، ونزر قليل من تاريخ مدرسي يقدّم من الحدث قشرة رقيقة لا تفصح عمّا يمور تحتها..

ولا أخفي عليكم أن المهمة كانت شاقة جدا، وكان لا بد من الحفر في التراث الشفوي، ومقابلة أشخاص من الذين يشكّلون ذاكرة المدينة، والبحث عن أي معلومة غير عادية من معلومات ذاك الزمان.. وتحليل الشخصيات، وأعمارها، وعلاقاتها البينية، فكانت النتيجة أن خيطًا رفيعًا قاد إلى حكاية، بل إلى محرَّم أخفته الثقافة الشفوية مئة عام، لكن كان لا بد له من الظهور، ولو على شكل احتمال له وجاهته، فنحن بالتأكيد لسنا أمام يقينيات.

عند هذه المرحلة انشرح صدر الكاتب لروايته؛ فقد حققت شروطا مهمة، من بينها: أنها فتحت مساحة للخيال كي يخرج عن رتابة التحليلات التي تتناول الحدث.. وأنها تسلحت هذه المرة برؤية نقدية، ستضع الحدث نفسه وشخصياته موضع المساءلة، ليس من أجل إدانتهم بالضرورة، لكن من أجل فهمهم بوصفهم بشرا عاديين، يصيبون ويخطئون، ويتفقون ويختلفون، ولديهم نزعات نبيلة ونزعات براغماتية في آن معا، وأنهم يخططون فينجحون حينا ويفشلون حينا.. إنهم بشر من لحم ودم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم..

إن أسوأ ما قد تبتلى به أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أو جماعة من الجماعات هو أن تقدس أسلافها، وتمارس تجاههم عبادة طوطمية تبعدهم عن دائرة النقد، فلا تعرف الأجيال القادمة من بعدهم الصوابَ من الخطأ، ولا تملك أن تحقق رؤية تمنحها مستقبلًا آمنًا. واغفروا لي صراحتي في هذا المقام؛ لأننا ضحية من ضحايا هذا الزمن ما بعد الحداثي، الذي تخلى عن مكتسباته التقنية والإدارية، وعاد ليعتصم بالهوية في أضيق معانيها، جاعلًا عند كل منعطف صنمًا من الأسلاف، وتحت كل سقف أيقونة، وباعثًا من شِبه العدم تحزُّبات ونعرات عجيبة. يصدق هذا علينا: وطنيًّا، وإقليميًّا، وعشائريًّا، ومذهبيًّا، وطائفيًّا، ورياضيًّا.. وسائر ما قد يتخيله أحدنا من انتماءات.

فلما تجلت الفكرة كان لا بد من شخصيات حاملة، فتشكلت شخصية عدنان بن كريم من شخصيات كثيرة كان لها أثرها في تلك المرحلة، وكذلك شخصية سلامة، والآخرون جميعا.. لقد كنت أغضب في داخل نفسي من الذين يسألونني: “من هو عدنان بن كريم؟ هل هو فلان؟”؛ أغضب منهم لأن جوهر الفكرة الأدبية لم يصل إليهم. إن الخيال أوسع من الواقع؛ على الأقل من وجهة نظر كاتبه، والخلق يتطلب مزيدا من المحركات النفسية التي تجتمع في شخص بعينه.. والنقد فكرة لا بد من اجتماع عناصرها، والمخاطب قارئ حصيف يعيش في القرن الحادي والعشرين، فلا بد من إضافات في الشخصيات تلائم المنتج في صورته النهائية..

وهنا واجهت نوعين من النقاد، نوعًا أدلج الكاتب وظنَّ أنه يصف الواقع كما حدث فلم تعجبه الرواية، ونوعًا آخرَ أدرك أن الرواية تركيبية، وفيها كثير من الإضافات الشخصية، لكن المحتملة، وأن الخيط الناظم فيها هو الخيال، والرغبة في الخروج على السائد، فأعجبته الرواية.. وللفريقين خالص الاحترام والتقدير.

بقيت كلمة أخيرة: هناك حكايات كثيرة أرغب في كتابتها روائيًّا.. لكن على رأسها حكايتان؛ واحدة مؤابية قد أُنجزت بحمد الله وفضله، وأخرى عمّانية، تشهد على تحولات المدينة التي حدثت في عشرية الربيع العربي. هذه الحكاية العمانية ما زالت تنتظر النضوج الكامل كي تلتئم الرؤية التي تجمع عناصرها بعضها ببعض.. ولعل ثمة فارقا بين الحكايتين؛ ففي المؤابي كان البطل هو الإنسان؛ أي الشخصيات التي حُمّلت أفكار الرواية. أما الرواية العمّانية فسيكون بطلها المكانَ البؤري الذي يبتلع كل ما حوله؛ حتى الجغرافيا وإنسانَها.

ولعلَّ الله يحدث بعد ذلك أمرا..

 قدمت هذه الشهادة في مؤتمر الرواية الأردنية الثامن

جامعة اليرموك 19-10-2022

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *