عفريت الحارة” لعامر ملكاوي: أبطال تؤرقهم أسئلة الحياة والموت

(ثقافات)

عفريت الحارة” لعامر ملكاوي: أبطال تؤرقهم أسئلة الحياة والموت

* أميمة الناصر

تنهض القرية بكل مفرداتها وتفاصيلها في غالبية قصص” عفريت الحارة” للقاص عامر ملكاوي، لتشكل عالما جوانيا ثرا، استطاع القاص استثماره لتقديم رؤيا انحازت للمكان الذي تفتح وعي الصغار الذين هم جُل ابطال القصص، بين أحضانه، ومكنهم من التماس الحقيقي بجغرافيته من سهول وجبال ووديان وينابيع ماء وبكائناته الحية من حيوانات وطيور التصق بها الصغار في علاقة حب امتدت لتفتح أبواب دهشتهم وأسئلتهم نحو السماء والشمس والليل، مثيرة في أرواحهم الغضة وتجاربهم الحياتية البسيطة، أسئلة وجودية عميقة عن الحياة والموت والحب.
وتأخذ باقي قصص المجموعة صبغة فلسفية محمولة على ما تثيره نواميس الكون في الطبيعة من أسئلة وجودية. ويشكل الحب العامود الأساس لهذه الأسئلة، فالحب عند عامر محاط بالظلال ومسكون بفجيعة الموت والرحيل، حب قصي، لا يكاد يلامس النفوس حتى تطارده الطبيعة، فتكنسه الظلال أو تخبأه الوديان سرا مستغلقا على الإنسان منذ بدء الخليقة.
البطل في قصص المجموعة
تصدرت البطولة في هذه المجموعة للأطفال، حيث بداية تشكل الوعي وامتلاك الخبرة الحياتية، بما فيها من تجارب نفسية واجتماعية ووجودية،وذلك من خلال مجموعة متشابكة من العلاقات مع الناس والمكان والطبيعة.
يتمتع أبطال عامر الصغار، برغبة شديدة في خوض المغامرات واكتشاف ينابيع الحياة، في محاولة لإشباع فضولهم الفطري، يساعدهم في ذلك أرض ممتدة هي حدود القرية، وفضاء شاسع بلا سقف مما يعني أن خبرات الناس والطبيعة بمفرداتها هما جزء مهم من تشكيل هذا الوعي.ففي قصة “مجرد حشرة” فإن تحقبق رغبة الصغيرين بطلي القصة في الحصول على حشرة “الطزيز” تقودهما إلى مغامرة طائشة يدفع ثمنها مجنون القرية الذي يحرس أزهار الدحنون حاضنة الحشرة. وإذ تسير القصة نحو الفجائعية كما في معظم قصص المجموعة، إلا أن الصغار سيتعلمون ويعرفون معنى الحب والإنكسار والخذلان.وأطفال عامر مغامرون حقيقيون، لهم القدرة على التسبب بالألم والحزن للآخرين دون إحساس بالشفقة، لكن في الغالب ترتد أفعالهم إليهم فيصبحون هم ضحايا الحزن والألم، وهكذا ينضجون بعد تجارب مريرة.ففي قصة ” عفريت الحارة”يمارس بطل القصة فعل القتل للصيصان بدم بارد، غير مكترث للألم الذي سببه لإبن الجيران وأمه، لكن هذا الصغير لا يلبث أن يواجه الموت واليباب حين يذهب إلى المقبرة ويشاهد العشب اليابس، فيقرر أن يمارس طقسا اعتاد عليه أهل القرية لإستجلاب المطر، وفعلا مساء تمطر السماء، مما يجعل أم الصغير الذي قتلت صيصانه تغفر لبطل القصة جريمته، بل وتذهب إليه بكل حب وتهديه الدجاجة.وتبرز المفارقة في أن المطر الذي أحيا النفوس والعشب وملأها بالحب، كان سببا في موت الدجاجة، وسببا في إحساس الصغير بفجيعة الموت.عامر ملكاوي
وتبرز شخصية مجنون القرية بصورة لافتة في العديد من القصص، وهي شخصية ذات أبعاد عديدة،فهو رغم جنونه صاحب بركة كما في قصة” المنغولي”، وهو عاشق مكسور لا حول له ولا قوة يتلاعب الصغار بعاطفته كما في قصة “مجرد حشرة”، وفي قصة “نتاشا” ثمة إمرأة عجوز لم تتزوج وتتخيل أن لها ولدا” يكون نجمة في الليل، ويغرق في نور النهار” لكنه لا يموت، وهي شخصية مؤثرة في اللاوعي لدى الصغير بطل القصة، وقادرة رغم رفضه لجنونها على إحداث تغيير في نظرته للأمور.
أما القصص التي يتصدر بطولتها الكبار، فيغلب عليها الطابع النفسي والفلسفي، وأصحابها عشاق مخذولون، لم يستطيعوا رغم دهشة الحب وسطوته على نفوسهم، أن يعيشوا سعداء، فبطل قصة” خوف وعزلة” قضى ميتا في عزلته في صومعة القمح بعد أن هرب خوفا من أهل القرية الذين ظنوا كما ظنت الحبيبة أنه أراد بها سوءا. وفي قصة ” لحن السكون الأخير” فالعاشق هنا مسكون بهم وجودي تجلى في محاولته قتل ظله، والظل هنا امتداد مبتافيزيقي للأشياء المخادعة، فالظل خديعة والحقيقة أبدية متوارية.
القرية حاضنة للقصة

برع القاص في استحضار القرية بكل تفاصيلها، وجعلها بؤرة الأحداث وحاضنتها في أغلب قصص المجموعة، ولذا لا عجب أن ينحو القاص نحو السرد الوصفي ورسم المشهديات بحرفية عالية للعديد من تفاصيل جغرافية الطبيعة بإعتبارها جزءا من الحدث بل وصانعة له في بعض الأحبان، من هذه المشاهد” فتحت الغيوم لأشعة الشمس نافذة، أطلت عبرها على التلة، حيث وقفنا مشدوهين، فيما غرز قوس قزح قدميه في الوادي تحتنا، وأطل علينا من خلاله جبل الشيخ شامخا يعانق السماء، يعتلي الأفق وقد كساه الثلج بلحية بيضاء ناصعة”.ص23

تحضر القرية بسهولها وجبالها وينابيعها وحيواناتها ونباتاتها وبيوتها وأزقتها، لا كمجرد خلفية باهتة للحدث، بل فاعلة ومنفعلة به، ويأخذنا القاص إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ الطبيعة هي جزء من الكون الملئ بالدهشة والأسرار والأسئلة العميقة نحو الوجود.

وهكذا يتشابك أبطال عامر مع الطبيعة، ويندغمون بتفاصيلها في محاولة لقراءة ذواتهم وعلاقتهم بالآخر وبالكون.يتضح ذلك عميقا في قصة”السجين” الذي لم يفكر كثيرا بالظلم بعد خروجه من السجن”بقدر ما صرفه في تخيل نفسه ذلك الطائر المنعتق من قفصه، يحلق عاليا في السماء بكامل زهوه وفرحه يستمتع برحابة الأفق الممتد أمامه”ص69. هذا التحليق الذي يمثل انعتاق الذات من حزنها وخوفها وسجنها وتوقها الى معانقة السماء بما تمثله من حرية وتخليص للذات من كل احساس بالظلم،ينتهي به إلى أن يهوي نحو الأرض، في إشارة إلى أن السجن ما زال في داخله.

اللغة والبناء الفني

استطاع القاص بذكاء شديد إقامة معمار فني مدهش،تضافرت فيه عناصر عديدة لتقديم قص متميز، وإذا كانت هذه المجموعة هي باكورة انتاج الكاتب، فإننا بلا شك على موعد مع مزيد من الإبداع والألق القصصي.

اللافت في العديد من قصص المجموعة، أن الحدث فيها لا يسير بخط مستقيم تصاعدي، وإنما هو على شكل دائرة، إذ يرسم القاص مجموعة من المشاهد تتقاطع مع بعضها مشكلة بؤرة الحدث، ثم تبدأ بالتفرع ثانية، تماما كأنك أمام فيلم تلتقط فيه الكاميرا عدة مشهديات، لتشكل حبكة تتداخل فيها كل الخيوط، وهذا التشابك يثري الحدث ويغنيه، ويعطيه أكثر من زاوية للرؤية، يتضح ذلك في قصة” مجرد حشرة” و”عفريت الحارة” و”تعويذة الغريب” وغيرها.

وبناء القصة على هذا النسق، يسمح للقاص بإغناء القصة بالشخوص، ولذا فمن النادر ان تقوم قصة على شخص واحد، بل هم شخوص كثيرون، وفي الغالب البطولة ليست مطلقة بل يتقاسمها أكثر من شخص، ناهيك أن الشخصيات الثانوية ورغم عدم تصدرها للحدث، إلا أن لها حضورها المؤثر في تجميع خيوط القصة.

جاءت غالبية القصص( سبع من اثنتي عشرة قصة)بضمير الأنا، وهو ضمير شديد التكثيف في حضوره عندما يتعلق بسرد أحداث الطفولة،إذ يمنح القاص مساحة شاسعة لبوح حميمي، يقرب المسافة بين السارد والمتلقي، واستخدم هذا الضمير أيضا في تلك الحالات التي يقف فيها أبطال القصص أمام ذواتهم ليعبروا عن شحنات زائدة من مشاعرهم وأحاسيسهم وإرهاصاتهم النفسية، أو معبرين عن هواجس وأفكار وجودية مقلقة، كما في قصة” لحن السكون الأخير” فالبطل يتحدث عن ذاته، بضمير الأنا في اللحظة الحاسمة التي قرر فيها ترك هذا العالم الملئ بالظلال المخادعة”أما الآن وقد انطلت خدعة الشياء عليَ، ولم يعد في حوزتي ما يجعلني قادرا على المراهنة سوى مسدسي، هذا الذي أعلم أنه محشوٌ برصاصات الدهشة، فلم يبق لي إلا أن أودِعكم”ص67.

ولأن الطبيعة احتلت جزءا مهما في المشهد القصصي، فلا غرابة أن يحتل السرد الوصفي مساحة كبيرة، لكنه وصف يتجاوز صمت الطبيعة وحيادتها وما تمثله من أثر جمالي على شخصيات القصص، بل يتعداها لتكون جزءا فاعلا ومؤثرا في الحدث.

جاءت اللغة بصورة عامة مقتضبة، تومئ وتشير تاركة للمتلقي مساحة لبلورة الفكرة وسبر أغوارها، لغة خلت من رومانسية البدايات وطفولة التجربة، مما منحها وهجها الخاص وجاذبيتها المحلقة.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *