ربيعٌ وألفُ خريفٍ

(ثقافات)

ربيعٌ وألفُ خريفٍ

  • خلود الإبراهيم

كان واحداً من صباحات أواخر تشرين الثاني، صباح تشبّع برائحةٍ مطرٍ قريبٍ، مدينةٌ تغرق في مزاجٍ كسولٍ، طيورٌ تغرد و تشقّ بأجنحتها غبش الضباب المتراكم من ليلة فائتة، غادرتْ اعشاشها باحثةً عن امنياتها، شقة تستريح في الطابق الثالث، في حيّ لمدينةِ عمان الجميلة الذي استسلم لهجمات التوسع العمراني المتسارع، وارتد القرميد ليبدو اكثر انصياعاً للحضارة، نافذةٌ مشرعةٌ على خريف شاحب خلّفه صيفٌ طويل جاف، اتّكأت عليها اغصان شجرة توت شبه عارية من اوراقها الصفراء، لم يكن لون الخريف أكثر قسوة من اللون الاسمنتي الشاحب، رغم ما يحمله من رحيل اجباريّ. برويّةٍ بدأتْ خيوط الشمس تتسلل الى المطبخ من خلف الستائر الشفيفة التي لفحتها نسمة الصبح الباردة، سقطتْ على المائدة، تمطّتْ بقعة الضوء الى باب المطبخ، بدتْ ذراتُ الغبار كائنات متراقصة في ممر الضوء، انفلجتْ خيوط الشمس من وراء جبال عمان كسحر خرج من عصا ساحرة ليبعث الحياة في الكائنات المتعطشة للحياة. المطبخ الصغير يضجُّ بحديثِهم وجدالاتهم، الجميع يتحلقون حول المائدة ورائحة البيض المقليّ والخبز المحمص و النسكافيه التي تُعدّها جوري قبل الذهاب الى المدرسة، تفوح و تتجاوز نافذة المطبخ لتسافر الى الأرجاء، لتأتيهم الريح بروائح من نوافذ مطابخ مجاورة.

سيدة الصباح- فيروز- صوتٌ ينبعث من داخل صندوق المذياع، يحمل حلماً في أخر الدروب التي نعبرها متعبين، تهدهد على ارواحهم بأمل شفيف. راجعين يا هوى راجعين يا زهرة المساكين… يختلط مع احاديثهم بحيوية توقظ الحياة، جوري كعادتها تَعدُّ اللقم التي تتناولها و تحسب كم سعر حراري تحتوي كي لا تفسد الحمية , رغمّ انّها اكملتْ اربعة عشر عاماً قبل عدة ايام إلا انّها تشرق بأنوثة عذبة، ياسمينة منشغلة بالتهام الطبق الذي بين يديها، الطبق الوحيد الذي لا تفضله الطبق الفارغ، تأكل كل ما يقدم لها ولا تكترثْ لتعليقات الأخرين بأنّها ياسمينة السمينة، لم تتجاوز العاشرة إلا أنّ وزنها يزداد بسرعة ملفتة، تيم ابن السابعة يجلس على كرسيٍّ متحركٍ، منذ عام فقد القدرة على المشي إثرَ خطأٍ طبيٍّ أثناء عملية اجريتْ له في العمود الفقري، ومنذ ذلك الوقت أصبح السرير مرتعاً و السقف نافذةً، امنيته بأنْ يلجَ المدرسة و يحملَ حقيبةً و يجلس في مقعد داخل غرفة الصف مع اترابه اندثر، حتى انه لا يملك صديقاً، ولا يعرف كيف تتشكل الصداقات، يسمع أصوات الصبية و هم يتراكضون في الحي عائدين من المدرسة، يتضاحكون مرات و يتشاجرون مرات اخرى، يمضي وقته في السرير يلعب ألعاب إلكترونية تارة و يتابع فيديوهات عن العالم خارج جدران البيت تارة اخرى، جهاز صغير ينقل له العالم الذي كان من الممكن أن يعيشه واقعاً، ساهماً جلس يعبث بالشوكة يطقطق بها على الصحون، يرفض الأكل؛ لانّ أحد الكائنات الفضائية قيّده بتعويذة ولا يستطيع الأكل ، محاولات ورد اقناعه بالأكل بلا فائدة، قالتْ ورد منبهة وهي تدسّ عرائس الزيت و الزعتر في اكياس لتضعها في حقيبة جوري و ياسمينة المدرسية، _: لا يوجد كائنات فضائية تلقي تعويذات على أحد، هذا خيال يخترعه صانعو المسلسلات الكرتونية للكذب على الاطفال الصغار، إن لم تأكل لن تكبر، على ما يبدو أني سأمنعك من مشاهدة مسلسلات الكرتون التي لا تجلب إلا الخوف والأفكار الغريبة عنّا.

كان القدر (الاستانلس) يغلي على النار، حملته ورد بسرعة دون ان ترتدي ما يقي يديها من حرارة القدر، وضعته بسرعة على الطاولة، استدارة لتبحث عن شيء تمسك به القدر، استوقفها صوت تيم، عندما اخذ يصدر اصواتاً غريبةً، التفتتْ إليه ، وجدتهُ ينظرُ إلى صورته التي انعكست على القدر، أخذ تيم يضحك بهسترية موجعة، مشدوهاً بصورته، اخذ يمد لسانه ثم يخفيه، يقترب و يبتعد من القدر، يلمس وجهه و عينيه و اذنيه و شعره، يدس اصابعه في شعره ثم يبعثره، يضحك تارة و يسكت تارة اخرى، توقفتْ ورد في مكانها لا تقوى على السير خطوة واحد باتجاهه، ارتعشتْ يديها، اغرورقتْ عينيها بالدموع، فتجمدتْ على بابهما، اعتراها نشيج مرير شعرتْ به يمزق ضلوعها، ادركتْ أنه منذ عام لم يرَ تيم وجههُ في المرآة، لم يخطر في بالها لحظة واحدة انها لم توقفه امام مرآة ليسرح شعره او ليغسل وجهه منذ أن اصبح عاجزاً عن المشيّ، كانت تفعل له كل ذلك بنفسها دون ان تعطيه الفرصة ليفعلها بنفس، تسلل لنفسها الشعور بالذنب الموجع الذي اخذ يجلد بروحها المتعبة و المثقلة بالأسى، لانها لم تستطع بعد كل ما قدمته ان تنجح بجعله طفلًا لا ينقصه شيء، كان ينقصه أهم شيءٍ، أن يرى نفسه، يعرف ملامحه، يتلمس وجهه، هوتْ ورد على الأرض، حاولتْ ان تمنع نفسها من بكاء جثى بكل ثقله على قلبها، التفتْ جوري و ياسمينة إليها ، لكنّ تيم ظل مشغولاً بصورته التي لم يراها منذ عام تبدو له في قدر وُضِع خطأً على الطاولة، لتدرك ورد أيّ خطأ كانت ترتكب في حق روح طفلها المقعد. نهضتْ وهي تتشبث بكرسيّ، تنظر في الاولاد محاولةً اقناعهم أنها بخير وأنّ قدمها انزلقتْ فجأة، اقتربتْ من تيم ونظرتْ إليه تتفحص وجهه الذي بدا كبدر تحت نور الشمس المنبثق من النافذة، _: وجهك كوردة انفلجتْ في الصباح، هزتها نسمات نديّة ثم عبرتْ مُهَدْهِدةً على روحي، أنت أجمل ما رأتْ عيناي، هيّا كُلْ ما في الطبق قبل أن يبرد. توجهتْ الى غرفتها، اغلقتْ الباب خلفها، هوتْ على السرير تضع راسها فوق ذراعيها المتشابكتين على السرير، وراحتْ تنصاع لنشيجٍ مرٍ، ما لبث أن تحول الى بكاءٍ هزّ الجدران كما هزّ جسدها النحيل و وجهها الذي لم تستطع مساحيق التجميل اخفاء الأسى فيه، اتسعتْ صحراءٌ مقفرةٌ في قلبها الذي لم يحفل بالربيع يوماً.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *