فيلم أمريكي طويل: “قانون “جاستا”…المسمار الأخير

(ثقافات)

فيلم أمريكي طويل

“قانون “جاستا”…المسمار الأخير

 

* د. جهاد العمري

يقولون، والله أعلم، إذا عشت في أوروبا فتره من الزمن ومن ثم ذهبت لزياره أمريكا فلن تعجبك بعد أن تترسخ عندك القيم الأوروبيه ومعاييرها “الأجتماعيه والجماليه والمجتمعيه” بسلبياتها وإيجابياتها ويقال، أيضاً، أن العكس صحيح وينطبق على من عاشوا لفتره طويله في أمريكا ومن ثم زاروا أوروبا فبالعاده لا تعجبهم أوروبا وتبدو لهم “عجوزا” متهالكه و”أطلال” وشوارع ضيقه وأزقه وفنادق باليه و تكنولوجيا متخلفه وبالطبع هذا تعميم ولكن وبعد إغتراب لندني إقترب من ٢٠ سنه ذهبت لأمريكا أول مره ولواشنطن تحديداً في نهايه التسعينات وكانت لي إنطباعاتي.
بعد رحله طويله من مطار “هيثرو” بلندن هبطنا بمطار “دالاس” ولأول وهله بدت لي الأجراءات الرسميه والطوابير والحضور الأمني المكثف “عدائي” و “غير دافيء” بالمعايير الأوروبيه والعالميه ومختلف عن دول أخرى زرتها مثل “البرازيل” و “جامايكا” و “باربيدوس” عدا الدول الأوروبيه الأخرى. آلشعور هو أنك متهم حتى تثبت براءتك وأشدد أنني مع كثره أسفاري السابقه والمتعدده في أوروبا والشرق الأوسط وجنوب أمريكا شعرت أن هناك “طابع أمريكي بحت” يختلف عن كل دول العالم وتكرر هذا الشعور عندما زرت “لوس أنجلس” بعد ذلك بحوالي السنه أو أقل.
بالنسبه لي، بدت لي أمريكا وكأنها تبالغ في كل شيء، المباني ضخمه جداً، التماثيل كذلك والقاعات والأناره وغرف الفنادق الشاسعه وأكواب القهوه الضخمه وقطع الستيك والبرجر وحتى كميه البطاطا المقليه على جانب الطبق، كل شيء كبير وكثير ويفتقد لما يسميه المهندس والفيلسوف المعماري “حسن فتحي” ل Human Scale (البعد الأنساني) فأنت وعلى سبيل المثال لو تمشيت في شوارع معظم العواصم الأوروبيه تستطيع أن تتذوق المباني على جانبي الطريق وتناغمها وانسيابيتها بدون أن تضطر لأن ترفع رأسك وتلوي عنقك كثيراً لتستوعب ما هو أمامك وحولك. في هذا يعلق الكاتب البريطاني (الأمريكي الأصل) “بيل برايسون” بعد عودته لأمريكا لفتره أن وخصوصاً في المدن الإمريكيه الكبرى تكون المولات والأسواق ضخمه جداً وفكره “المشي” في الشوارع والأزقه تجربه فريده في أمريكا بل قد يكون “عبور الشارع” من الأشياء المستحيله بل والمحفوفه بالمخاطر.
في الرحلتين لأمريكا كانت المهمه “تدريبيه بحته” في مجال “الثقافات المقارنه” و “القياده العالميه” ومع واحده من أكبر شركات الأستشارات العالميه أنذاك وكانت أغلبيه الحضور هم “أمريكيون” مع وجود عدد لا بأس به من الجنسيات الأخرى (هنود ، عرب، أوروبيين، جنوب أمريكيين وأسيويون وأفارقه) ولكن الملفت للنظر هو الأستقبال والتهيؤ الأيجابي والتعطش للمعلومه الذي وجدناه عند الأمريكيين مع قلة معرفتهم المسبقه بما يجري حولهم في العالم وتكاد تكون أمريكا وهي في النهايه “قاره” على إتساعها ومساحتها وبالرغم من استقبالها للمهاجرين على مدار القرون الماضيه تكاد تكون معزوله ثقافياً عن العالم وأن هناك “مركزيه أمريكيه” تتحكم بالعقل الأمريكي وتعزله عن العالم. …….. فقط في أمريكا تقام مباريات أو مسابقات على مستوى الولايه ومن ثم تتويج الفائز(ه) على أنه(ا) بطل(ة) العالم وكأن العالم هو فقط هذه الولايه أو تلك أو أمريكا!!!!!!
في تحليل الثقافات ونظرة كل ثقافه للثقافات الأخرى هناك ثلاثة إحتمالات أو ردود أفعال: الأولى “هناك طريقه واحده للنظر للأشياء وهي طريقتنا”، والثانيه “نعم، هناك عدة طرق للنظر للأشياء ولكن طريقتنا هي الأفضل” ، والثالثه “ هناك عدة طرق للنظر للأشياء وعلينا أن نعمل معاً لنجد الأفضل وقد أتعلم منك وقد تتعلم مني وقد نخرج بطريق ثالث”. لا شك لدي بأن العقليه الأمريكيه بمعظمها تتأرجح بين الأحتمال الأول والثاني وإن كانت أقرب للأول.
لو عدنا لمفهوم “القيادي العالمي” كما نادى بها صديقي المؤلف “تيرنس بريك” وتحديدا مفهوم “المدير العالمي” وبحياديه تامه نجد أن “المدير الأمريكي” مقارنة” مع نظيره “البريطاني” أو “الهولندي” أو “الأيطالي” أو “الفرنسي” أو “الألماني” هو أقل كفاءه وأقل قدره على أن يبرز ك “مدير عالمي”. هناك أسباب كثيره تدفع لذلك وأورد بعضها فمثلاً الأرث الإستعماري لبريطانيا وهولندا كان له تأثير على كلا الثقافتين في “قبول التعدديه” كمبدأ وعقد إجتماعي من جهه مقابل “الألماني مثلاً” ومن جهه أخرى وكما شرح لي أكاديمي هولندي ذات مره “فنحن سنموت إقتصادياً كبلد صغير إذا لم نعانق embrace العولمه ولا مجال لنمو إقتصادي بدونها” ولا غرابه في أن أهم شخصيتين في مجال “علم الثقافات المقارنه” هما الهولنديين “هوفشتيده” و “ترومبنارز”.
في إحصائيه أظن أنها صدرت في نهايه الثمانينات (ومن الذاكره) وجدت أن ٥٪ فقط من الأمريكيين يملكون جوازات سفر وسافروا خارج الولايات المتحده وبمعنى أن كون أمريكا هي فعلاً “قاره” فالأمريكي يستطيع أن يمارس ويلبي معظم إحتياجاته السياحيه داخل بلده وقد تكون هجرة الكثير من الأدباء الأمريكيين مثل “همنجواي” و “إيديث وارتون” لخارج أمريكا مع بدايات القرن الماضي وحتى الحرب العالميه الثانيه سبباً مهما “لثرائهم الأدبي”. كذلك قد تكون روايه “الأمريكي” للكاتب “هنري جيمس” من أهم الروايات التي تحلل “العقل الأمريكي” أو “الشخصيه الأمريكيه” عندما تلتقي مع أوروبا ومع أنها كُتبت قبل حوالي ١٤٠ سنه إلا أنها ما زالت تعتبر “كلاسيكيه” في رسم بعض معالم الشخصيه الأمريكيه والجدير بالذكر أن “هنري جيمس” كتب الروايه كنوع من الرد على الكاتب الفرنسي “الكسندر دوما” في مسرحيته المسماه “الغريب”.
ولو بقينا في عالم الروايات، وهو عالمي المفضل، لوجدنا أن روايه “عالم جديد شجاع” للبريطاني “ألدوس هكسلي” هي روايه سياسيه بامتياز وهي وعلى عكس ما يوحي العنوان ليست إلا صرخه تحذير أطلقها المؤلف بعدما بدأت أوروبا ومع بدايات القرن العشرين تدرك أهميه ومخاطر الصعود الأمريكي أنذاك والعقليه التي تحمل هذا الصعود “النيزكي” ومن بعدها روايه “١٩٨٤” ل”جورج أوريل” ولو إختلف المؤلفان فيما بينهما.
تجدر الأشاره وفي نفس الوقت ولو حاولنا تقييم تجارب العرب المغتربين في أوروبا مقارنه بأمريكا فهناك فروقات كثيره ولكنني أعتقد أن أهمها هو أنطباعات “عرب أمريكا” مقارنةً ب “عرب أوروبا” وخصوصاً ممن يذهبون بدايةً ك ”طلاب علم” حيث ومن خلال ملاحظاتي الشخصيه أن الفئه الأولى تندمج بالمجتمع الأمريكي أكثر وتجد فرص أكثر للظهور والبروز “علمياً وأقتصادياً” في حين الأغتراب الأوروبي لم يبدأ إلا حديثاً بأفراز مهاجرين عرب ناجحين إقتصاديا وعلمياً وسياسياً ولعل “تكافؤ الفرص” و “غياب الطبقيه” من أهم هذه الأسباب بالأضافه للإنطباع بأن الأمريكيين (بعيداً عن السياسه) شعب طيب وبسيط ويتقبل المهاجر كونه بلد هجرات وهذا لا يتناقض مع فكرة “المركزيه الأمريكيه” وال Melting Pot (الصهر المجتمعي) وهو من سمات المجتمع الأمريكي.
في مجال “الأغتراب المهني” Expatriation وعندما يخرج الأمريكيون للعمل خارج الولايات المتحده غالباً ما يكونوا ميالين إلى السكن في تجمعات “أمريكيه بحته” هي أقرب ما تكون للغيتوهات وبحيث يتوفر فيها كل ما هو أمريكي بدايه من “المشروبات الغازيه” ووصولا “لمطاعم الوجبات السريعه” وما ينطبق على الشركات الأمريكيه ينطبق على الجيوش الأمريكيه في كل مكان وقد شاهدت ذلك في بريطانيا كما في دول عده بحيث تصبح هذه التجمعات “بقع و جزر أمريكيه” وسط محيط مختلف عنهم وهم غير قادرين على التواصل معه إلا بالحد الأدنى.
الكولونياليه الأمريكيه الجديده والتي هي مثار جدل واسع ومنذ زمن بعيد ولكن الأن تحديدًا ومع صدور قانون “جاستا” فتعليقي هو أن القانون هو تحصيل حاصل لمسيره تاريخيه وهو متوقع وهو ليس إلا أنعكاس للعقليه الأمريكيه والتي يصفها البعض ب “المتغطرسه” ومع عدم إعتراضي للتوصيف ولكن موقع علمي وحيادي أعتقد أنها منبثقه من “عقليه إنعزاليه” Isolationist هي السمه الأهم التي التي مازالت تفرض نفسها بالعقليه الأمريكيه ويغفلها الكثيرون ومع كل القوه العسكريه والأقتصاديه المهيمنه فهي لن تقدر مهما طال الزمن أن تفرض هيمنتها فالقرن الواحد والعشرين هو عصر التعدديه بامتياز ومن “لا يتغير سيندثر”.
 ٢٠١٦

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *