هادي العلوي : أخلاقيات كائن طهراني
لطفية الدليمي
” مرت في الـ 27 من أيلول 2022 الذكرى الـ 24 لرحيل المفكر الكبير هادي العلوي “
فكّرتُ كثيراً فيما عساي أن أكتب في ذكرى الراحل ( هادي العلوي ). لم أشأ أن أكتب في موضوعة ( المشاعية ) البشرية التي كانت خصيصة مميزة لنهجه الفكري ،كما لم أشأ الكتابة في موضوعة فلسفية تقنية هي تلك التي تناولها في كتابه عن ( الحركة الجوهرية ). هادي العلوي أكبر وأهمّ من المفهومات الفلسفية والموضوعات التقنية. ثمّة مايتقدّمُ على كلّ هذه الموضوعات : طهرانيّته .
تكادُ طهرانية العلوي – وهي طهرانية موثّقة ومعلنة ولاسبيل لنقضها أو تفنيدها – تكون نموذجاً شاقاً، عصيَّ الإقتداء . نعلمُ أنّ حياة الإنسان محكومة بمقتضيات صراعية حتى باتت قوانين الصراع إحدى المعالم المميزة للوجود البشري. ربما كانت معالم الصراع الأولى تنحصر في التغالب على الموارد المحدودة اللازمة لإدامة الوجود البشري في أشكاله البيولوجية الأولى؛ لكنّ أشكال الصراع خضعت لتغيّرات بنيوية مع التطورات التقنية المستجدّة ؛ غير أنّ الغاية الأعلى لكلّ أشكال الصراع ظلّت هي ذاتها لاتتبدّل: حيازة مزيد من السلطة والنفوذ ( وسائر أشكال الرأسماليات الرمزية ) كوسيلة مؤدية لحيازة المزيد من المال ( متمظهراً بكلّ أشكال الرأسمال المادي المعروفة ). ينقاد الأفراد والدول لهذا القانون الصراعي برغم معرفتنا أنّ الصراعات الدولية أكثر قسوة وحدّة وارتكاناً إلى الأشكال العنفية بالمقارنة مع الصراعات الفردية .
هادي العلوي كائن لاصراعي . هذه هي خصيصته الكبرى، وهي خصيصة فريدة من حيث أنها ليست خصيصة يحوزها المرء بمزيد من المعرفة أو التدريب أو إعتماد منظومة فكرية أو تقنية محدّدة أو مدرسة فلسفية مشخّصة أو جديدة. أن تكون كائناً لاصراعياً يعني أن تقرّر بمحض إرادتك أن تكون فرداً لاينقاد لقوانين العيش الحاكمة للوجود البشري، وهذا أمرٌ له تبعاته الخطيرة، وهي تبعاتٌ لايقوى الكائن البشري على النهوض بها والإيفاء بمتطلباتها إلا إذا توافرت له جملة شروط شاقة سيراها كثيرون قاتلة للمتعة اللازمة للحياة. الإشكالية هنا واضحة : هم يضعون المتعة في نطاق مقايسات بشرية مألوفة، ولم يمتلكوا الجرأة للقفز نحو نطاقات غير مألوفة .
يبدو هادي العلوي نمطاً من البشر الذين يرون في الملكيات المادية عبئاً يثقلُ كواهلهم حدّ أن يجعل أعناقهم تنوء بحملها حتى لكأنها تلامس الأرض. التخفّف هو العيش الطيّب : هذا هو عنوان حياة العلوي .
ثمّة معالم جوهرية تسِمُ طهرانية العلوي :
المعْلم الأوّل : الطهرانية طريقة حياة وليست تضحية بالحياة الطيبة
طهرانية العلوي ليست مرتقى نبلغه بعملية مقايضة أو تخلّ عن (طيبات الحياة ). هي نمط حياة لايمكن إستبداله بنمط غيره مهما كانت المغريات قاسية لايمكن ردّها. طيبات الحياة من وجهة نظر العلوي هي مايعيشه هو لامايعيشه الآخرون. لو كانت محض مقايضة أو تخلّ ؛ فمن ذا الذي يضمنُ أنّ أنفاس المرء لن تتقطّع وتقصر في وعثاء الطريق؟
المعْلمُ الثاني : إستبدالُ قوانين الصراع بأخلاقيات الإيثار
هادي العلوي كائن إيثاري إلى حدود غير معقولة لمعظم البشر . قد يرى بعضنا في إيثاريّته نموذجاً لغلبة النمط الجيني الإيثاري . هذا غير صحيح. إيثارية العلوي نمط عيش وأخلاقيات يختارها المرء ويعملُ عليها بمشقة واصطبار مع القبول المسبق بكلّ التضحيات (الحتمية ) التي سيواجهها. يبدو الإيثارُ في حالة العلوي وكأنه ميزة أخلاقياتية مصنوعة بجهد الإنسان بدل أن تكون نمطاً جينياً مدعوماً بنوازع شخصية ملائمة .
المعْلمُ الثالث : طهرانية هادي العلوي ليست محكومة بدوافع لاهوتية
هادي العلوي أكبر كثيراً من أن يكون منقاداً لمظاهر ( التديّن الشعبي ) التي لاتعدو في رؤيته سوى فلكلوريات رائجة، وفي الوقت ذاته فإنّ أخلاقيات العلوي ليست عنصراً يكفلُ بها تعزيز حظوظه في ( المقامرة الباسكالية ) التي تضمن له الآخرة بالمنظور اللاهوتي. يرى هادي العلوي في الطهرانية مسعى ميتافيزيقياً مطلوباً لذاته من غير دوافع آيديولوجية أو دينية، وفي الوقت ذاته فهو يرى الطهرانية وسيلة عملية لإشاعة قَدْر ٍ من العدالة المفتقدة على الأرض وعنصراً جوهرياً لتكريس فكرته عن المشاعية البشرية المناقضة لأخلاقيات المغالبة والإستئثار والسياسات النيوليبرالية المتوحشة .
الطهرانية بطولة، وقد شحّت البطولة ونماذجها في عصرنا العراقي والعربي الجديب هذا الذي صار عصر اللابطولة .
- عن المدى