موت القارىء

(ثقافات)

 

 موت القارىء

  يحيى القيسي

 

أعجب من الذين ينتبهون كثيرا لتفاصيل النظريات النقدية ,ومنها ما يتناول ” موت المؤلف ” و ” دور المتلقي ” دون الانتباه لقضية أكبر في عالمنا العربي تحديداً وهي ” موت القارىء” ولا أكون مبالغاً أو متشائماً في هذا الأمر الذي يجعل من القراءة نافلة للخواص دون العوام , ولا أريد بالطبع أن أدخل في سرد إحصاءات جرت هنا وهناك لترصد مثل هذا الخراب , فالأمر لم يعد سرّاً , وصار من سمات الأمّة التي وصلت من الهوان والأميَّة ( القرائيّة) مبلغاً عظيماً , ولعلّ مناسبة هذا الكلام , ما قرأته مؤخراً عن استبيان قامت به مؤسسة ألمانية محايدة عن القراءة في العالم العربي ووزعت نتائجه أثناء معرض فرانكفورت الدولي الماضي للكتاب , وفيه تمّ تناول أربع دول كعيّنات ممثلة وهي السعوديّة , ومصر ,ولبنان , وتونس , ومن الملاحظات العامة على النتائج دون الخوض في التفاصيل أنّ نسبة القادرين على القراءة متدنية , وبالطبع فإنّ بعض الدول العربية مثل موريتانيا تصل نسبة الأميّة فيها إلى 80 بالمائة , أما نسبة الذين يقرأوون من هؤلاء غير الأميين فهم قلّة من قلّة , وإذا عرفنا أنّ نسبة عالية من هذه القلة تقرأ فقط الصُحف اليومية , وأن الذين يتورَّطون في قراءة الكتب يكادون لا يُذكرون ,عرفنا أيّ دركٍ وصلنا إليه ,ويبدو من نافلة القول أن أشير إلى أن قارئي الكتب الذين ذكرتهم يُفضلون قراءة كتبٍ غير أدبية ,والنسبة العالية منهم يقرأوون الكُتب الدينية , لهذا يمكن أن ندرك الآن لم يطبع أديب عربي من كتابه ألف نسخة لمائة وخمسين مليوناً من البشر على أقلّ تقدير , ويكتشف بعد التوزيع والإهداء وإهراق ماء الوجه للأهل والأصدقاء واليتامى وأبناء السبيل أنّ الألف نسخة لم تنقص شيئاً مذكوراً , وعليه فإنّني أرى أن من يتنطَّع لتبرير هذه الكارثة بأن التلفزيون والإنترنت ووسائل التلهية والتشويق قد سرقت القارىء العربي من الكتاب يبدو أنّه يغيب عن باله  بأن هذا الأمر لا يحصل في عُقر دار الغرب حيث وسائل التسلية والتشويق تكاد لا تحصى ,ولكن تجد بالمقابل أنّ القراءة تمرين يومي منذ الحضانة مروراً بالمدارس وصولاً إلى الحياة اليومية في مترو الأنفاق , وعلى الشواطىء، وأثناء الرحلات في بلاد الله والواسعة ,أي أن القراءة أسلوب حياة , ووسيلة معرفة أساسية وليست هواية عابرة .

وما لم تصبح لدينا خطّة تربوية ثقافية مشتركة ومقرونة بإرادة سياسية لتعميم القراءة على الجميع وحضّ الأطفال والكبار على القراءة وتحمّل ( مشاقها ) فإنّنا سنظل ننفخُ في قربةٍ ممزّقة , وعليه فإنّه في ظل ما نشهد من تشرذم وتشتت في الرؤى , وفوضى في التخطيط أشعر بأنّنا سنظل نخسر يوماً بعد يوم ما تبقى لدينا من قُرّاء يعضون على الكتب بالنواجذ ,  وسيظل حلّ القضايا الكبرى , والنظرة الدونية إلينا من الغرب والشرق مسألة عويصة ,تجعل الحليم حيران ,والمتفائل قانطاً , ولا نملك غير الانتظار خارج التاريخ والجغرافيا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا .

*تم نشر المقال في العام 2006

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

تعليق واحد

  1. سهاد عبد الهادي

    اسمح ليً ان اقتبس كلماتك لأبدأ بها تعليقي لانك أصبت كبد الحقيقة ،،ما لم يصبح لدينا خطة تربوية ثقافية مشتركة ومقرونة بارادة سياسة لتعميم القراءة على الجميع وحض الاطفال على القراءة وتحمل مشاقها ،،
    فالبداية تأتي من المنهاج المدرسي الذي فرض باسم التطور ولكنه للأسف افرز طلابا يسعون للحصول على علامات خيالية لا اعتقد ان أينشتاين حلم بها، دون السعي لحب المعرفة وامتلاكها ، فأصبح الطالب عبارة عن آلة تسجيل يردد ما يقرا دون ان يستوعب المعلومة ويفهمها حينما فقد حافز التنافس الثقافي في المدرسة، ونرى في كل البلاد العربية تردي التعليم والثقافة منذ ان اهملت خطط المناهج في تدريس الخط والمطالعة الحرة وحتى الفنون ، والتشجيع على البحث العلمي والسعي لجمع المعلومات من خارج الكتب التي بين أيديهم، ولهذا اصبح الجميع يميل للأشياء السهلة التي لا تتطلب مجهودا فكريا حتى في دخوله على مواقع الإنترنت بل يمضي الى مواقع تفسد الأذواق والعقول،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *