حسن م. يوسف
قبل عقود تساءل الشاعر الكبير نزار قباني «متى يعلنون وفاة العرب؟ « في قصيدة حاول فيها أن يستقيل من سلطة الرمْلِ ليرسم بلاداً «تُسمّى ـ مجازا ـ بلادَ العربْ» لكنه اكتشف هَشاشةَ حُلمه، ولو أفاق القباني الآن على عدوان الصهاينة على غزة وحروب الأهل المتجولة، لاكتشف أن حلمه قد انقلب إلى كابوس! فالعرب الذين كانوا «يرعدون ولا يمطرون» يمطرون الآن بعضهم بالرصاص ومدافع جهنم، والذين كانوا «يدخلون الحروب، ولا يخرجونْ» خرجوا أخيراً وها هم يجرون المنطقة من شعرها إلى خارج العصر؛ منشغلين عن محنة أهل غزة الذين حول الحصار المجرم قطاعهم إلى أكبر سجن مفتوح في التاريخ!
إن مرور ستة عقود وستة أعوام على تحول المشروع الصهيوني إلى دولة لم تزد الصهاينة إلا تمسكاً بنزعتهم العنصرية، فقبل أيام قالت ياليت شاكيد (عضو البرلمان الإسرائيلي): «يجب أن يموتوا ويجب أن يتم تدمير منازلهم لكي لا ينجبوا المزيد من الإرهابيين. كلهم أعداؤنا، ودمهم يجب أن يكون على أيادينا، وهذا ينطبق أيضاً على أمهات الإرهابيين القتلى».
ولو دققنا في هذا الكلام لوجدنا أنه أكثر عنصرية مما قاله بن غوريون عام 1936: «لاشك أنه من المستحيل التوصل إلى اتفاقية شاملة مع العرب، إلا إذا شعروا باليأس التام، من جراء فشل محاولاتهم للتمرد وإحداث الاضطرابات في وجه نمونا في هذه البلاد. عندها فقط يمكن للعرب أن يذعنوا ويعترفوا بالدولة اليهودية!»
أصارحكم أنني لم أتوقع أن أعيش لأسمع مندوباً فلسطينياً إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؛ يصف الصواريخ التي يتم إطلاقها من غزة على إسرائيل بأنها «جريمة ضد الإنسانية»! لمجرد أن المقاومين الفلسطينيين، الذين يفترض به أن يمثلهم، لا يقلدون سلطات الاحتلال ويعلنون عن مكان سقوط صواريخهم مسبقاً، في الوقت الذي يرتقي فيه العشرات من الشهداء الفلسطينيين كل يوم!
أما تصريح الإدارة الأميركية بأن أوباما سيطالب «اسرائيل بوقف إطلاق النار فوراً إذا بلغ عدد (القتلى) الفلسطينيين في قطاع غزة الألف» فهو نوع غير مسبوق من التهريج السياسي.
لست من هواة جلد الذات، ولا تعنيني نظرية المؤامرة التي تركز على الأصول اليهودية لكثير من الحكام العرب، لكن أداء هؤلاء لا يمكن أن يكون أسوأ مما هو عليه حتى لو صحت المزاعم بشأن أصولهم، فأعداء العرب نجحوا في التسلل إلى تحت جلود حكامهم، بحيث باتت ديموقراطياتنا أسوأ من الطغيان! فحكام العرب بدلاً من أن توقظهم المحن التي تهدد المكان العربي بالتشظي ووجود الأمة بالزوال، تراهم يزدادون إيغالاً في عنعناتهم ومعاركهم الزائفة، وتمسكاً بالهامش على حساب المتن، وبالقشور على حساب الجوهر، وبالسفاسف على حساب عظائم الأمور.
لقد سبق للمناضلين من المثقفين العرب أن حذّروا من المخاطر التي تحدق بنا الآن، ففي عام 1936 نشر الباحث اللبناني يوسف إبراهيم يزبك كتاباً بعنوان «النفط مستعبد الشعوب» افتتحه بالصرخة التي أطلقها اللورد فيشر وزير الحربية البريطاني عام 1901: «استعدوا لحرب النفط» وأنا أومن بعمق أن كل المآسي التي عصفت وتعصف بوطننا العربي ما هي إلا معارك في حرب النفط هذه. كما قام كاتبان سوريان هما بشير كعدان وشفيق شالاتي بزيارة إلى فلسطين وألّفا كتاباً قيماً عن تلك الزيارة يقع في 292 صفحة بعنوان «هؤلاء الصهيونيون» صدر في دمشق عن دار اليقظة العربية في مطلع عام 1946. ويصف الكاتبان وقائع رحلتهما التي بدأت بالقطار من دمشق إلى حيفا مروراً بطبريا لتغطي مختلف أنحاء فلسطين بما في ذلك تل أبيب. ويرصدان «تغلغل الصهاينة في فلسطين» لينذرا الأمة العربية بالخطر القادم.
يرى الكاتبان أن «سائر مستعمرات الصهاينة وكثيراً من معاملهم خاسرة، ورغم ذلك فالوكالة الصهيونية ومن ورائها يهود العالم، تمدهم بالمساعدات المالية التي لا ينضب معينها…» ويعلن الكاتبان أنه «قد آن الأوان لنغدق الأموال الشعبية والحكومية على صناديق الأمة العربية في فلسطين، فتنقذ الأرض وتنشئ وتكافح المرض والجهل والفقر».
ثم يطلق المؤلفان إنذارهما فيحذران العرب أنهم إذا «ما انشغلوا عن إخوانهم الفلسطينيين، واكتفوا بالعطف عليهم عطفاً أفلاطونياً فإن خطر الصهيونيين سيهدد بلادهم في آتيات الأيام، فإذا كانوا يقضّون المضاجع في فلسطين، ولما يتعدوا نصف المليون بعد تقريباً، فماذا يحدث غداً لو تسربوا إلى أوقيانوس العالم العربي.»
بعد ذلك يطلق المؤلفان إنذارهما المجلجل الذي أثبتت الأيام صحته بشكل كارثي: «وإذا توانوا – أي العرب – عن نصرة إخوانهم عرب فلسطين ووقفوا موقف المتفرج، هان أمرهم على جميع الأمم، وأصبحوا هدفاً لكل طامع، وغدا ما يسمى بالأمة العربية اسماً بلا مسمى، فيتهافت عليهم خصومهم يجدون فيهم لقمة سائغة جديدة طرية الجانب، وتنهار كل مهابة لهم في نفوس الخلق ويسري الداء من فلسطين إلى ما جاورها، وإنّ من لم يستطع ايقاف الظالمين في رقعة صغيرة من الوطن العربي، لن يستطيع الصمود أمام جحافل الأمم التي لا تعرف لها في الحياة مذهباً غير القوة والغلبة».
لقد قام الحكام العرب بإرهاق مواطنيهم بعشرات المعارك الزائفة بحيث صاروا عاجزين عن التأثير في معارك المصير، وهذا ما يفسر موقف الشارع العربي مما يحصل في غزة الآن. لقد سبق لي أن قلت على صفحات «السفير» قبل سنوات: «إن العرب يستطيعون الخروج من التاريخ كل بمفرده، ولكنهم لن يدخلوا التاريخ إلا مجتمعين». وما صمت العرب إزاء ما يجري في غزة الآن إلا دليل على أنهم باتوا على مقربة من بوابة الخروج.
* السفير
(كاتب من سوريا)