كتاب لمؤلف أميركي عن أعمال المعماري راسم بدران

(ثقافات)

 

كتاب لمؤلف أميركي عن أعمال المعماري راسم بدران

 يحيى القيسي

 

 

بعد سنوات من البحث والتأليف والإعداد أنجز البروفسور جيمس ستيل أستاذ التصميم المعماري في جامعة جنوب كاليفورنيا المعروفة (USC) كتابا خاصا بعنوان (عمـارة راسـم بـدران – روائية المكان والإنسان) ،و هو نتاج دراسات مطولة وبحث تناول مواضيع إنسانية،و جغرافية، وحضارية،و معمارية وبيئية ترجمت إلى لغة بصرية دقيقة لتخط تصاميم وفراغات ذات هوية ترتبط بخصوصية الحضارة العربية والإسلامية، ولا يعد هذا الكتاب كما هو حال الكثير من الكتب المعمارية سيرة ذاتية لأعمال معمارية لها طابع معين أو نمط محدد مرتبط بمؤلفه.

ولعله من الضروري الإشارة بداية إلى أن هذا الكتاب قد فاز بالجائزة الأولى  والتي قدمت إلى مؤلفه البروفسور جيمس ستيل “INTERARCH SILVER MEDAL – والذي تم الإعلان عنها في مؤتمر الأكاديمية العالمية للمعماريين IAA 14يوم الرابع عشر من مايو المنصرم , وهذه الأكاديمية  تضم في عضويتها قرابة 100 أشهر معماري من مختلف أرجاء العالم، وقد تم تم اختيار بدران عضواً دائماً فيها خلفاً للمعماري المصري الراحل حسن فتحي .

 إن في سرد أعمال المعماري راسم بدران كما يقول ستيل في مقدمته للكتاب( المجلد ) إعادة فهم لثقافة التجمعات البشرية التي نمت بحضارات توارت بين جدران منسية لتحل محلها مظاهر إبداعية فردية مبعثرة، لقد توجهت مسارات المعماري بدران بعمله الدؤوب لأربعة عقود لإبراز الخصائص المعاصرة للحضارة العربية والإسلامية من خلال المفهوم العمراني المرتبط بالأبعاد الاجتماعية والبيئية والثقافية أي العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان والزمان، وفي العام الماضي ارتقت هذه الأعمال المعمارية لتكتسب صفة العالمية والانتشار عبر الوسائل الإعلامية (الكتب والمعارض الجوالة) مواكبة بذلك لغة العصر في خطاب الذات والآخر في آن واحد.

 في روح هذه المرحلة الجديدة من مخاطبة الحضارات الأخرى والإضافة للميراث العالمي الثقافي قامت دار النشر البريطانية T&H (Thames & Hudson) ولأول مرة بعد وفاة المرحوم المعماري العربي حسن فتحي (حيث نشرت له كتاب بتأليف ذات المؤلف)، بإعداد هذا الكتاب الذي يتسلسل في مواضيعه بداية بالكشف عن العوامل البيئية والثقافية والعلمية والعائلية التي أثرت في تكوين شخصية المعماري المهندس راسم، هذه العوامل التي تتأتى من الميراث الثقافي الحي الذي من خلاله تأثر المعماري راسم بدران بمعايشة والده الفنان جمال بدران الذي أبدع في الفن الإسلامي في فهم المحيط وتحسس معالمه الأمر الذي أثرى مخيلته وقدراته على قراءة ما حوله مما أثرى مسيرته في الإبداع والابتكار.

 وقد امتد هذا التأثير الواضح من خلال تنقله والعيش في بيئات مختلفة ابتداء من القدس، رام الله، دمشق، طرابلس، عمّان والمانيا الغربية سابقاً مما أدى إلى تخزين الأنمطة المدنية واحداثياتها الاجتماعية والعمرانية المتنوعة في ذاكرته وبالتالي القدرة على قراءة المكان بفضول وتجديد كبيرين منذ طفولته.

 ولا شك في أن التعليم الأكاديمي الذي تلقاه المهندس راسم بدران في مدينة دارمشتات في ألمانيا الغربية (سابقاً) في الستينات والتي كانت شاهداً للثورة الطلابية في وسط أوروبا والتي جسدت انقلاباً جذرياً على الأنظمة الكلاسيكية في السياسة والتعليم والقيم الاجتماعية قد أثر على طريقة تفكيره الجدلية والنظرة التحليلية الفاحصة، الأمر الذي خلق لديه القدرة على كشف الأمور الباطنة واستخراج المحددات البيئية والإنسانية التي تشكل العمران في مدننا وبيئاتنا المعاشه.

 ويزخر كتاب المهندس راسم بلوحات ملونة تحليلية من انتاجه (360 لوحة منها 348 لوحة ملونة) تظهر لديه ملكة التعبير المرئي والجدلية الفكرية في تجسيد التكوين العمراني للمشاريع المطروحة، حيث يعرض الكتاب – وبسرد تعليمي – فلسفة التصميم والتكوين وأدواته التي طورها المعماري بدران والتي تضعها في حوار جدلي لمبادئ الحداثة المتجددة في المنطق الفكري والتعبيري وذلك بسرد الخلفية الثقافية والبيئية للتجمعات البشرية في منظومة روائية لنشأة المكان محترمة التجدد المستمر للمفاهيم الوظيفية وأدواتها.

 يتناول الكتاب الجانب غير المرئي من العمران وترجمته إلى البعد الحسي المادي (العمران) الذي يتجسد من خلال الظواهر البصرية والمتأثرة بالبعد الميتافيزيقي الذي يضفي صفة الروحانية والسكنية في المباني عامة كانت أم خاصة، لذا يمكن اعتبار كتاب المعماري بدران مجمع ثقافي وعمراني ينقل القارئ إلى مشاهد حية لذاكرة حضارتنا، من خلال تأليف قصصي يقوم الإنسان في صياغته بتأثره ببواطن المكان وأسراره لتظهر المعالم والخصائص الحيوية الكامنة في هذا المكان باعتباره الثابت والذي يتطور وينمو في إطار الزمن المتغير مواكبة أحداث عصره ولتصبح شاهداً مرئياً على قدرة الإنسان على الاستدامة.

 يمكن للمعماريين أن يجدوا في كتاب راسم الكثير من الرسومات والتخطيطات والصور والمواد التنظيرية عن العمارة الحداثية والاسلامية ،ويمكن أيضا للقراء العاديين أن يجدوا فيه تجربة غنية لانسان عربي أبدع في التصميم والتنظير والتصوير الفوتغرافي والنظر إلى العمارة مثل كائن حي . وحسنا فعل سيل المؤلف والمعماري باختيار الصور والمواد المرافقة ، فهو في النهاية يعرف جيدا من هو بدران في المستوى المعماري العربي والمحلي ، ومن الواضح أن الرجل قد قسم كتابه إلى سبعة فصول بدأها بمقدمة بعنوان ” واقعية التنوع مع فردانية الهوية” , وفي الفصل االأول  كتب عن ” روائية الناس والمكان والثقافة ” ,وفي الفصل الثاني ” التراث المبدع والعودة إلى الشرق ” , وفي الثالث ” البيوت والسكن ” ,وفي الفصل الرابع ” البعد الرابع في الروح ” ,وفي الخامس تحدث عن حفظ التاريخ حيا أو فاعلا , و الفصل السادس تناول ” الجنة الأرضية ” , وفي السابع والأخير هناك ” إعادة اكتشاف للمدينة الاسلامية” .

كل هذه الفصول البحثية عرجت على أعمال بدران المنجزة في السعوية وقطر بشكل أساسي وفي الأردن وبعض الدول العربية والأجنبية , ولعله من المفارقة التي يجب ذكرها في هذا المقام أن الحيزالمعماري الذي أتيح لراسم في بلده الأردن أقل بكثير مما هو متوقع ، أما في فلسطين جذوره ، فربما لم يتمكن بعد من أنجاز شيء يذكرللظروف القاهرة المعروفة ,وراسم لمن لا يعرفه رسام وتشكيلي من طرازرفيع أما في مجال الفوتغراف فهو محترف بامتياز وقلما يكتشف المرء هذه الخصلة فهو لا يعلن عنها غالبا ,و وفي العادة فإن التخطيطات أو الخربشات الأولى لأعماله تظهر على الورق ثم تخضع للإضافة عليها أو تطويرها لتتحول فيما بعد إلى عمارة حقيقية من اسمنت وحجارة وحياة نابضة في أعماقها ,وعلى أية حال فإن ما يشغل معماريا إسلاميا وعالميا حداثيا في الآن نفسه مثل راسم هو ربط العمارة بالحياة ، فالمدن أوالتجمعات المعمارية الصغيرة أو الكبيرة ، نواتها واحدة , وعليه فإنه يفكر دائما بأن تكون العمارة منسجمة مع جغرافيا المنطقة وطبيعة سكانها ,وأليفة عليهم و ترشح منها السكينة والطمأنينية والرأفة، وأ كثرما يؤرقه تلك العشوائية في البناء وطبيعته ونفوره عن المحيط وتعاليه على الإنسان ،إن الكثير من البيوت برأي راسم هي غير صالحة للسكن ، رغم فخامتها ، إنها تتوجه إلى الخارجي ،لا إلى الداخلي ، أي إنها تنادي على المارة عارضة بابتذال أو غرور بدل أن تنشغل براحة ساكنيها .

أعمال بدران التي شهد لها القاصي والداني ،واحتفت بها ألمانيا العام الماضي عبر معرض ضحم يروي سيرة عائلة بدران أي راسم المهندس ,وجمال الرسام الأب ،وجمال المعماري الإبن ,وسميرة الشقيقة التشكيلية ، وعلا الإبنة المسرحية ،تدل على مدى ذلك الرابط القوي بين الشرق والغرب ، بين الروح والتقنية ،وبين الخبرات والدراسة ,وتلك الوشائج التي تربط الثقافات ببعضها دون انفصام .

إن كتاب ” عمارة راسم بدران ” لا يستحق فقط أن يدرس في أقسام الهندسة المعمارية في الجامعات العربية ،بل أن يتم الاحتفاء به على أعلى مستوى ، فمن غير المعقول أن يتجول معرضه في مناطق عالمية كثيرة ويتم إهماله في بلده وبين محبيه ، ومن غير المعقول أن يمر صدور مثل هذا الكتاب الضخم المتميز دون تكريم لمؤلفه والمؤلف عنه.

  • نشر هذا المقال في العام 2006 بالقدس العربي اللندنية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *